حين وصلنا باب المحكمة، استنفرت قوات البوليس العلني والسري، وقامت بسد الممرات وإغلاق المنافذ المؤدية إلى مبنى محكمة الاستئناف بفاس، لمنع الطلبة المتضامنين معنا، وأفراد عائلاتنا الذين حجوا من كل حدب وصوب، لحضور أطوار محاكمتنا ومتابعتها. كانت خطة الاستقبال محبوكة جدا.. عشرات البوليس السري والعلني أحاطوا بنا فور وصولنا. كان من الصعب علينا الخضوع للتعليمات الأمنية... لوحنا للجميع، عن بعد، بشارة النصر رغم الأغلال... هتافات الطلبة والأحبة كانت تصلنا من بعيد... تتحدى الحصار.. تحثنا على الصمود والتحدي... إنها الحلقة الأخيرة من مسلسل طالت وقائعه... محطة من محطات المحاكمات الصورية الأخرى التي شهدتها محاكم وطننا الحبيب، منذ بداية الاستقلال. بعد انتظار طويل في قبو المحكمة.. نودي علينا جميعا، وبسرعة شديدة، وبأوامر وصرخات أحد المسؤولين الكبار في الأمن، صعدنا الأدراج في اتجاه القاعة المخصصة لذبح حريتنا... حشد كبير من المحامين المناضلين، غالبيتهم مبتدؤون، جاؤوا لحضور الجلسة، كان أغلبهم من مدينة فاس... رجال أمن من مختلف الأجناس والأطياف... وبعض أفراد عائلاتنا، وثلة من الطلبة ممن تسللوا خلسة لقاعة المحاكمة. بدأت جلسة المحكمة في الساعة الثالثة بعد الظهر. كانت القاعة هادئة تماما، قبل الشروع في المرافعات، وتقديم الطعون والدفوعات.. لم تمض سوى فترة قصيرة حتى تم تحويل الجلسة إلى مشاداة كلامية بيننا وبين القاضي عبد النور، حول طبيعة التهم المنسوبة إلينا، ومحاولة السيد اللمتوني -ممثل النيابة العامة- تجريم قضيتنا، ومحاولة إذلالنا، وإرهاقنا، ومنعنا من حق الدفاع عن قيمنا ومبادئنا والتصريح بحقيقة هويتنا، والتشبث بانتمائنا المشرف إلى "أوطم"، وفصيله المناضل "النهج القاعدي الديمقراطي"... كانت محاكمة صورية، لم تراع فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة. تعامل معنا القاضي عبد النور بنوع من الاستخفاف والاستهزاء، محاولا تجريم قضيتنا وإفراغها من محتواها السياسي الصرف. كما حاول جاهدا عرقلة مهمة هيئة الدفاع.. والتشويش على عناصرها. وفي محاولة ساخرة وساقطة للنيل مني، سألني القاضي عبد النور إن كنت أمارس الموسيقى... ليتأكد من هويتي الفنية والثقافية كذلك. أما جوابي له فكان استفزازيا...: "جل سكان بني زروال يجيدون العزف على إحدى الآلات الموسيقية..."، ولأنه هو الآخر من "أصل جبلي".. جدد سؤاله لي قائلا: - وهل تحب فيروز؟ - قلت، نعم أحب فيروز.. ثم سألني من جديد: - اذكر لي أغنية واحدة من أغانيها؟ - أجبته مبتسما: "سنرجع إلى حينا"... ضحك الجمهور عاليا.. برم القاضي عبد النور وجهه الذي احمر من شدة تهكم القاعة عليه.. ثم صار يسال رفاقي الآخرين... بعد إعلانه عن اختتام المناقشات، وبعد المداولة أصدرت المحكمة الحكم الآتي: «حكمت غرفة الجنايات بفاس علنيا ونهائيا وحضوريا بمؤاخذة المتهمين بلمزيان.. وازرياح.. والجوني.. وبلقايدي.. والمريزق... بجرائم الإخلال بالنظام العام والانخراط في جماعة غير مرخص لها، وترويج أوراق من شأنها الإخلال بالأمن العام (...)، طبقا للفصول (...) من القانون الجنائي المعدل بظهير (...)، الحكم على بلمزيان بعشر سنوات، وعلى كل واحد من الباقي بخمس سنوات حكما نافذا، وعليهم الصائر مجبرا في الأدنى، وبمصادرة جميع المحجوزات وإتلافها». بعد النطق بالحكم ساد صمت رهيب داخل قاعة المحكمة... وحده القاضي عبد النور كان يبدو راضيا على ما أنجزه من مهام... كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباحا. كنا متعبين ومرهقين، ورغم ذلك أطلقنا العنان لحناجرنا، وخرجنا من قاعة المحكمة نردد الشعارات ونهتف جماعة: "سجنهوم عدموهم، أولاد الشعب يخلفوهم"، "لنا يا رفاق لقاء غدا، سنأتي ولن نخلف الموعدا..."، "زغردي يا أمي يا أم الثوار...". لما وصلنا السجن، وجدنا رفاقنا في انتظارنا... بعد إطلاعهم على الأحكام، غنينا جميعا إحدى أغاني مارسيل خليفة المشهورة "مناضلون بلا عنوان، مناضلون في أي مكان..."، ثم انصرف كل واحد منا إلى زنزانته، وهو يجر وراءه سنواته الثقيلة بأحلام الغد، وبآهات الوطن الحبيب.. لينام نوما مضطربا، مثقلا بالكوابيس.. في صباح اليوم التالي.. كان اللقاء يتجدد بعمق مع مكان وزمان اسمه السجن... أدركت في اليوم الموالي، أن الزمن سيتكرر وسيلتقي مع هذه الجدران.. وما علينا إلا التأقلم مع الحياة في حدودها الدنيا.. وفي اليوم الثالث، تجمعنا نحن الذين صدرت الأحكام القاسية في حقهم، واتفقنا على إصدار بلاغ لإدانة هذه الأحكام الجائرة... لم نملك حينها أي شيء آخر غير الإدانة، وعشق الحرية وحب الوطن وأشكال متنوعة من العنفوان والحيوية. في اليوم الرابع بعد المحاكمة، طالبنا بعدم إغلاق أبواب الزنازن والعنابر ليلا... وفي اليوم الخامس، رتبنا أفكارنا وجمعنا حاجياتنا استعدادا لمقاومة الاسمنت والصدأ وحراس الأوامر... وفي اليوم السادس، طردنا الحزن من جدراننا لاستقبال الحنين الهائج وابتسامة الأمل... وفي عيوننا كل من استرخص حياته فداء للوطن، وكل الشهداء الذين مروا من الدهاليز والأقبية. وفي اليوم السابع، كنت أنظر بعينيين نائمتين للطاولة المفروشة بدروس الاقتصاد، وبالمجلات والكتب والجرائد.. أحسست بصور طائشة تخترق ذاكرتي.. قاومت العياء.. هيأت فنجانا من قهوة "نسكافي" بالماء البارد... وضعته فوق مكتبي لأعود إليه بعد دورة خفيفة في باحة الفسحة... الكل في الحي كان منشغلا، كان الجو حارا وكان عشاقنا كلهم في عطلة... أما نحن، فكنا منشغلين بأحكامنا التي وزعها علينا القاضي عبد النور بسخاء.. ربما كانت هذه أصعب لحظة من لحظات السجن... لحظة يعيد فيها المعتقل خلق مكانه الجديد بين مربعات السماء... لحظة الإحساس بالعزلة... لحظة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي... لحظة يشعر فيها المرء بالوجود المحجوز... وجود مع نفسه أكثر مما هو مع الآخرين. شعور بالحرمان من الحرية التي هي أغلى شيء لدى الإنسان... كم تحسرنا على واقعنا الجديد، حين صرنا نخضع إلى آلة زجرية، في الليل والنهار، تتحكم في رقابنا، وتجعلنا ندخل عالمها ونلج فضاءها ومرافقها بشكل أوتوماتيكي. تذكرت ساعتها ما قرأته عن آداب السجون في مراحل متفرقة من حياتي الجامعية. ورغم أن سني يومئذ لم يتجاوز الخامسة والعشرين بعد، فقد اعتبرت هذه الوضعية أكبر من حجمي ومن تجربتي المتواضعة داخل الحقل الطلابي... رغم عنفوان الشباب وبراءة المناضل المبتدئ، انتابني إحساس غريب بالغربة وفقدان كل شيء. أعني، شعرت فعلا أني عاجز تماما على تملك المعنى الحقيقي لسجني. لكنني لم أغضب ولم أحقد على القاضي عبد النور ولا على من ضبط له إيقاع مسرحية محاكمتنا. وبعد مرور الأسابيع الأولى التي تلت محاكمتنا، كان علي أن ألتئم حول المشترك الرمادي الذي أصبحت أتقاسمه قسرا مع غيري... متسائلا هل السجن شرط أساسي لحب الوطن..؟ كان على كل واحد منا أن يقبل حصته دون الدخول في التفاصيل وحيثيات نظام الحصص، ورغم ذلك هناك من وجد الوقت مناسبا لتصفية حساباته الصغيرة... وهكذا دخلنا مباشرة بعد المحاكمة في علاقة جديدة فيما بيننا... علاقة التشنج والصراعات التافهة والقيل والقال... لكن فيما بعد، رجعت المياه لمجاريها لما استوعب كل واحد منا حالته، وواقعه، ووضعه، ومعرفته لمحيطه وفضائه الجديد... فصارت المسافات تسرقنا، وألوان الفصول تثير المرح شيئا ما بدل الضجر. لم نكن نطلب النجدة من أحد... ولم نكن من عشاق الجمل الثورية المبللة بالحقد، لكن ما كان يحز في نفسنا هو الاختفاء غير المبرر لبعض "رفاقنا" الذين لم يشملهم الاعتقال... في العديد من محطات تجربتنا هذه. كنا ننتظر من الناجين أن يحملوا تعبنا وخيبتنا إلى محطات الفتوح والأمل وليس إلى محطات الأنقاض. كنت أحاول جاهدا أن أفهم ما يدور في شبكة علاقاتنا الواسعة فازدَدْت جهلا بنفسي. غضبُ الطلبة البسطاء كان يندفع نحونا، بعفوية وفرح غامرين، و يعتلي الأسوار.. ولا أحد كان ينتبه إلى الرياح التي كانت تعصف بآخر خطوط الأفق الراحل. كانت أخبار المعتقلين في السجون الأخرى، قد بدأت تصلنا عبر الزوار وبعض المراسلات، وكنا جميعا نسعى جاهدين إلى تحويل زنازننا إلى قلاع عصية على السقوط، رغم العلاقات غير المتكافئة والمسربلة بالغموض. كان كل ما استجد من حولي يوحي لي بالفراغ، وكنت ممزقا بين ماضي الحرية وحاضر السجن والحرمان... لكن الذاكرة كانت مشتعلة، وغير مكسورة، في استحضار للعالم... كان رفيقي سعيد بجانبي حين أنهيت فسحة الصباح.. كان منشغلا بالأخبار التي تصلنا من زوارنا الطلبة حول وضع الحركة الطلابية. قلت له: ربما مازلنا في حاجة إلى الأوهام للصمود أكثر.. قال: المسألة لا تحتاج إلى كل هذه المعاناة... يجب أن نطير كالحمام، ولو من داخل القفص... قلت: كيف ذلك؟ قال: نحن مازلنا في بداية تجربتنا المتواضعة.. لسنا في حاجة للسقوط في مرض الزعامة الوهمية.. ونترك رفاقنا يعيشون تجربتهم.. كما عشناها نحن بكل حرية، ومن دون توجيه أو تدخل من أحد. قلت: ربما لهذا السبب.. سنبقى دائما من المغضوب عليهم.. قال: ماذا تريد منهم؟ قلت: نحن لم نتدرب على كل هذا. ولسنا في حاجة للرجوع إلى المصادر.. كل ما نريد هو أن نعيش تجربتنا بعيدا عن حالات الحقد والضيق واليأس. قال: اسمع... يجب أن نفهم ما يحدث من حولنا.. وربما هذه مناسبة سنكتشف فيها ضعفنا وقوتنا.. قلت: وجهلنا كذلك بالعديد من الأمور والقضايا... قال: تماما، سنكون، ربما، أشد قبحا وشراسة في عيون الأعداء.. قلت: لابد من الانتصار على واقعنا.. ولابد أن نصدق أنفسنا.. سنغني مادام السجن يسمح لنا بالغناء... سنكتب مادام السجان يتركنا نكتب.. وسنمارس الحب كلما استطعنا إليه سبيلا.. حين أدركنا أن الوقت قد حان للدخول إلى زنازننا، انصرف كل واحد منا والحديث لم ينته بعد... كانت أوراق مذكرتي مبسوطة فوق مكتبي الصغير، تلوح لي بأشلاء الذاكرة المتغلغلة في المسافات.. تسرق مني لهيب الأصوات الموزعة هنا وهناك. لا شيء يوقفني أو يبعدني عن القرية التي سكنت روحي بدون رحمة، بتخومها الجبلية المندفعة نحوي، وبغموضها الموزَّع بين الماضي التأديبي، واحتمالات المستقبل الموغل في الحيرة، وذروة الأنانية والجهل المدقع. كانت القرية تبدو لي قلعة عصية على السقوط، فيزداد إحساسي بالنشوة وأنأ أعرف بقبائلها بمهارة.. في جميع الملتقيات والمحافل الوطنية والدولية.. كنت أتساءل بحيرة، ما الذي دفع بي لأداء ثمن مهرها من دون تحديد ليلة الدخلة، ومن دون امتطاء صهوة اللذة...! تذكرت يوم كنت أغني وأرقص لها في كل المناسبات صحبة المرحوم مصطفى الخمسي، وإبراهيم، والقاضي محمد والمرحومين عزالدين وجواد، وفؤاد مريزق، ومحمد كريم.. وفي مناسبات أخرى مع المرحوم عبد الرحمان السنون الذي كان يتقن الموال الوجدي/الراي، ولقاءات حميمية وعائلية مع مصطفى المسناوي، وعبد الباقي الخباز، والزاهير، وكيو، وأحمد السنون، وسعيد الإدريسي، وخويلي، والدرقاوي، ورشيد، وعزيز السنون، والبقالي عبد الحق، وإخواني عبد الرحمان، وعزيز، وجمال، وآخرين... كنا نطرب أهل القرية بالموسيقى والغناء، ونغذي جماهيرها بالأنشطة الجمعوية، الثقافية منها والرياضية.. من دون أن ننتبه، في الوهلة الأولى، إلى العقاب الذي كان يطالها... تذكرت كيف قبل شباب القرية "جمال الشموار"، و"شاما"، و"بنعمار"... صناعا للفرجة والتسلية!! وتذكرت نساء القرية الجميلات، وهن يمشين وراء "النموري"، يجمعن روث البهائم ليقمن بتحويلها إلى قطع دائرية، تصير جمرات حمراء رائعة في نار التدفئة.. أو تستعمل لحاجات أخرى... كحماية جنبات المنازل من غضب الشتاء. كل فضاء من فضاءات القرية المنسية، كانت تهمس لي بذكرياتها الحميمة... وتوقد في نفسي رغبة جامحة، تدعوني لأتلمس خيوط الكذب والخداع، وطلاسم أب الرعاة والكلاب التي تحرسه... أهو السجن ضيق إلى هذا الحد، أم أن الشعور بالعزلة هو الذي يضغط على الأعصاب ويولد الهواجس ويستحضر ساعاتك الضائعة بين بعض من المنتسبين خطئا إلى محيطك، مثل أولئك الذين أضفوا على القرية نتانة بالغة التنوع.. بضجيج سلالاتهم المراهقة والمنحرفة التي لم تخمد حتى في عز شبابهم الجامعي...؟؟؟ كانت الذكريات تقف أمامي الواحدة تلو الأخرى.. تؤنس فضائي الجديد. لم يكن ممكنا التفكير في الهدنة.. كنت أسير وأنا أعاكس التيار.. لم يكن لي أي خيار آخر... كل الناس في قريتي كانوا يعرفون بعضهم البعض... لم يكن هناك من يجرؤ على إدانة تصرفات العمدة الأزرق وحاشيته... في كل مواسم الحصاد الانتخابي، كانت تتجدد الإهانة كشكل من أشكال استمرار العقاب الجماعي... ولا حياة لمن تنادي!!! بعد المحاكمة تغيرت علاقتي بالمكان الجديد،...أقمت نوعا من الهدنة مع "الزمن السجني"، لم يعد لي الحق في النسيان... شموع الطفولة والمراهقة والشباب كلها، كانت تنضج أفراحي، وتشعل جراحي الصغيرة والكبيرة.. لم أنتظر من العالم إلا أن يطلق اليأس سراحي... لأقاوم الموت المجاني... ولأصمد في وجه المجزرة المزمنة. كنت أعرف أن السجن لن يقتلني.. وأن المستقبل معركة... وأن الوطن دائما.. قضية الجميع... وكنت أسأل عمن أعطاني قوة عشق الوطن.. وغفساي.. وحب امرأة ضاجعتها خلسة في واضحة النهار... ولم يرجمني أحد.. ولم يعاقبني حارس ولا ممرض... كل الذين جربوا السجن قبلي، جربوا لعبة الذاكرة والنسيان.. وتساءلوا عن التفاوض العسير مع الذات.. وضمير الشرف والعهد والخيانة.. وكأن المعتقل هو عمود البؤساء في بؤسهم والعمال في استغلالهم، والفلاحين في حقولهم، والتلاميذ في مدارسهم، والطلبة في جامعاتهم... وكأنه عار على الحكام في دواوينهم، والإقطاعيين في ضيعاتهم، وأرباب العمل في مصانعهم...!! بعد رجوعنا من المزار محملين بهدايا رأس السنة الميلادية، نظمنا أمسية جميلة بالعنبر رقم 3، توجت بمتابعة سهرة فنية بالمناسبة، بثتها القناة الثانية. ورغم العياء الذي انتابنا بعد منتصف الليل، فضلنا الاستمرار في الدردشة حول ما شهدته سنة 1989 من تحولات وأحداث ووقائع، كان أهمها ما عرفه الاتحاد السوفياتي من تحول عميق في مجالاته الترابية التي ظلت مندمجة مع بعضها أكثر من 70 سنة، وما شهدته جهات أخرى من أحداث وواقع، كسقوط حائط برلين في ليلة 9/10 نونبر، وإعدام نيوكلاي تشاوسيسكو، رئيس رومانيا، وزوجته إلينا في 25 ديسمبر من السنة نفسها، وانفتاح الصين على العالم الغربي، والتدخل الأمريكي في بَانَما للإطاحة ب"مانويل نوريجا" واعتقاله ومحاكمته، ثم موت الخميني وتفويت السلطة لعلي خامنئي، واستمرار الانتفاضة الفلسطينية، ودخولها سنتها الثالثة، وإنشاء اتفاقية الوحدة العربية الإفريقية بين ليبيا والعرب... واستشهاد رفيقنا عبد الحق اشباضة بعد محاكمتنا بشهر واحد... كان العالم يتغير من حولنا بسرعة فائقة، ونحن نستقبل سنة جديدة في المعتقل.. لم نكن نملك سوى الأغاني والأشعار، ونشد على أيدي الأحبة ريحا.. وراء الأسوار. ولم يكن لنا سند ولا قوة... كان الحصار من كل حدب وصوب، وكان المتفرجون على واقعنا ينتظرون "تحرير الجامعة"... وكل مساحات الخلق والحرية والإبداع... ليتسنى لهم بعد ذلك "تخليص" الجماهير الطلابية من أمثالنا...!!! لكن رغم واقع الاعتقال والقمع المسلط على الحركة الطلابية، كانت الساحة الجامعية من أكبر التجمعات النضالية، وإحدى قلاع الصمود في وجه الإصلاح الجامعي، وحضر العمل النقابي. نذكر على سبيل المثال نضالات جامعة وجدة، وأكادير، والقنيطرة، وتطوان... ونذكر استعداد النهج القاعدي في تلك المرحلة للمساهمة في التحضير للمؤتمر الاستثنائي، والعمل على إنجاح كل أطواره. وهو ما جعله يساهم بنجاح في تجربة اللجن المحلية والوطنية، بروح وحدوية، رغم دور الرقيب الذي نهجته بعض الفصائل الطلابية، خاصة في المحطات النضالية المشتركة، أو أثناء صياغة البيانات، أو التحضير لبعض المظاهرات بشكل مشترك... إلخ. وبعد أشهر قليلة، أصبح السجن ملحقة لجامعة محمد ابن عبد الله.. يعج بالمعتقلين، وكنا نستقبل أعدادا غفيرة منهم في الحي الذي نقطنه.. ونودعهم عند انتهاء مدة اعتقالهم بكل تعابير الفرح ومعانيه من أغان وأناشيد وزغاريد... يوم لا ينسى، (الاثنين 8 يناير 1990) ذلك اليوم الذي ودعنا فيه 20 معتقلا دفعة واحدة.. من بين الأسماء التي مازلت أتذكرها: عبد السلام "كامسيط"، والسعيدي، وفتاح، والخربي، والمزديوي، "الشاعر"، وحسن احميدوش، وبنوار... وكنا كلما ودعنا مجموعة من المجموعات إلا ونتأثر بالفراق... كانت هذه المجموعة قد قضت 6 أشهر من الاعتقال بتهمة الانتماء للاتحاد الوطني لطلبة المغرب والتظاهر بدون رخصة... إلخ. "لأجمل ضفة كنا نمشي"، كما يقول محمود درويش في قصيدته "نشيد للرجال". كنا على بينة بأن السجن والاعتقال السياسي في بلادنا يشمل عينات من كل الفئات والشرائح، طلبة، وعمال، وشعراء، وكتاب وسياسيين.. وذلك لنشر جو من الخوف والرعب الشامل... وضرب ما يمكن ضربه من الحالمين والطامحين، حتى يتم الانفراد بالحكم، وإقصاء المعارضين من حلبة الصراع. إنها هندسة الفضاءات المحجوزة بالأسوار وأبراج المراقبة حتى يكون هناك حاجز يحول دون التواصل بين الناس... مر الشهر الأول من السنة الجديدة 1990، في هدوء واستمرارية بالنسبة لنا نحن المعتقلين... أما على صعيد آخر، فقد شهدت الساحة السياسية اعتقالات جديدة على الصعيد الوطني. وتم على صعيد فاس، اعتقال المرحوم المحجوبي حميد الذي ألحقناه بالجناح مباشرة، بعد وصوله سجن عين قادوس. كنا نتلقى يوميا باقات متنوعة من الأخبار، تفرحنا وتحزننا في آن واحد، لكنها تشد أوصالنا بالعالم الخارجي... تلقينا مثلا خبر إطلاق سراح الزعيم نيلسون مانديلا، زعيم المؤتمر الوطني الإفريقي، يوم 11 يناير 1990 على الساعة الواحدة بعد الزوال، بعد قضائه أزيد من 27 سنة، في غياهب سجون جنوب إفريقيا، وأخبار أخرى متنوعة مثل هجرة اليهود السوفييت لفلسطين، ونجاح مرشحة المعارضة في نيكاراكوا، مما نتج عنه سقوط الحكم من أيدي الجبهة الساندينية التي ظلت على رأس الحكم منذ 1979. بالإضافة إلى أخبار أخرى كانتخاب كورباتشوف رئيسا للاتحاد السوفياتي، واندلاع صراعات إثنية داخل الاتحاد، مما جعل الجيش الأحمر يتدخل بقوة في أكثر من جمهورية. أما على المستوى العربي، فكانت الانتفاضة الفلسطينية مستمرة، وانتشرت مظاهرات في العديد من الجامعات التونسية وتم إطلاق سراح معتقلين سياسيين من الأردن واعتصام زوجات وأمهات المعتقلين الذين لم يشملهم العفو، كما زار المغرب وفد عن منظمة العفو الدولية وتم استقباله من لدن المرحوم الملك الحسن الثاني. المريزق يداعب الحمام بباحة الفسحة