بعد مرور الأسابيع الأولى على اختطافنا إلى درب مولاي الشريف، بدأنا نشعر بالملل، وبالمضي نحو المجهول الذي يقوي في لحظات الضعف نوعا من الإحساس بالموت البطيء. عشرات الأسئلة كانت تتقاطر علينا من هنا وهناك، ولا حل لنا... امتلأ الجناح في إحدى المساءات الباردة والحزينة -الذي كنا نرقد فيه- بالعديد من المختطفين الجدد، وأغلبهم من مدينة الخميسات، من بينهم -عبد الإله- أحد الرفاق والأصدقاء الأعزاء، كان موظفا بالحي الجامعي، ظهر المهراز، وكان معروفا لدى الجميع بطيبوبته، وبالخدمات الجليلة التي كان يسديها للطلبة والطالبات... هكذا انتعش "الحجاج" من جديد بمجئ هؤلاء، في وقت كان قد بدأ المخفر يشهد فراغا وهدوءا نسبيا: هدوءاً مفتعلاً، يعكر صفوه صوت "الحاج الفرملي" الذي كان يزورني من حين لآخر، ليراقب الجروح التي كان جسدي يحملها، إثر طعنات السلاح الأبيض التي تلقيتها على يد أحد عملاء الإدارة إذ أراد أن يسهل للبوليس اعتقالي، في الساحة الجامعية أمام الملأ، في الأيام الأولى التي تلت انتفاضة 20 يونيو. لكن سرعان ما عاد الاستنطاق والتعذيب من جديد، مع مجيء هذه المجموعة الجديدة للدرب، لمعرفة هل هناك علاقة تنظيمية بيننا؟ وهل اطلعنا على كتاب السرفاتي؟ اختلطت الأصوات وتعددت الآهات، بعد أن امتلأ درب مولاي الشريف عن آخره. كان باب زنزانتي يطل على الممر الذي كان ينام فيه إبراهيم وبعض رفاقه، وهو ما كان يجعلني استرق من تحت العصابة نظرات الود والأمل لهؤلاء المختطفين الذين لم أكن أعرف عنهم أي شيء. لكن سرعان ما عرفتْ قضية هؤلاء الرفاق مجريات أخرى، ولم نعلم بتفاصيلها إلا فيما بعد، حين شاع خبر انتحار إبراهيم، أحد أفراد المجموعة' في منزله مباشرة بعد خروجه من درب مولاي الشريف، من دون أن يحاكم. يطول الليل ويزداد الشوق والحنين من شدة الانتظار، انتظار ما سيسفر عنه الغد من مستجدات، وانتظار الأحلام الوردية من داخل شهوة الفراغات وأنواع الآهات.. استمر الوضع هكذا بروتينه القاتل، وبصمته المفزع، إلى أن أخبرونا عشية الثامن والعشرين من شهر أبريل 1988، بالرحيل من درب مولاي الشريف، في اتجاه مجهول. في الصباح الباكر من يوم 29 أبريل، جاءنا "الحجاج" بملابسنا التي لم نرها منذ وصولنا إلى هذا المكان، حيث عوضها بلباس الكاكي... وبعد تناولنا "شربة الصباح" المعهودة.. كان موعدنا مع "الحاج الفريملي" ومع حجاج آخرين أخرجونا أمام باب المدخل الرئيسي، وكانت في انتظارنا هناك العديد من المصفحات والسيارات الرباعية الدفع، بداخلها عناصر كثيرة من "رجال السيمي" المسلحين. في البداية، لم نكن نعرف إلى أين نسير.. وبعد لحظات، خلصوا عيوننا من "الباندة" لنرى بعضنا البعض، لأول مرة منذ اختطافنا إلى درب مولاي الشريف. كانت لحظة فريدة من نوعها، خاصة تلك التي رأينا فيها النور قبل أن يضعوا من جديد "الباندا" على العينين و"المينوط" في اليدين. لم يقل لنا أحد إلى أين سنسير، وأين سنحط الرحال، وحده اليوسفي قدور كان على علم بذلك. لم يتركوا لنا الفرصة لإعادة ترتيب هواجسنا وأحاسيسنا، ولم يكن لنا الحق لنسال عن مصيرنا... هكذا استسلمنا في يأس، وركبنا سيارة رباعية الدفع، ومن حولنا سيارات أخرى مصفحة ومدججة بأنواع من الأسلحة المختلفة، ونفر من البوليس ورجال المخابرات. لم أكن أتصور في يوم ما أننا مهمين إلى هذه الدرجة، وأننا خطيرين ونحتاج إلى كل هذه الترتيبات الأمنية المشددة، وإلى هذه الترسانة العسكرية والبوليسية.. كعادتهم، انطلقوا بنا في صمت جنائزي في اتجاه مجهول.. لم نكن نسمع سوى زفير السيارات، وقهقات السائق ومن يجلسون من حوله. لا حق لنا في الكلام، ولا في الماء والغذاء بعدما قضينا شهورا منبطحين على الأرض، من دون الحق في الوقوف، أو الجلوس إلا للذهاب إلى المرحاض، أو لتناول ما يسمى بالوجبات الغذائية. بعد مسافة طويلة من السفر، فاقت ثلاث ساعات تقريبا، توقفت السيارات رباعية الدفع أمام إحدى البنايات المركزية للأمن الوطني، لنعلم في نهاية المطاف أننا في فاس، المدينة التي طردنا من ساحة جامعتها، ومن أزقة مدينتها العتيقة، ومن حاناتها الشعبية، ومقاهيها المملوءة بالطلبة عن آخرها، ومن أحيائها النشيطة.. وبعد أخذ ورد بين "أصحاب الحال"، تم إنزالنا بالمحكمة الابتدائية التي رفض رئيسها حتى مجرد استقبالنا، ليرمي بنا خارج محكمته في اتجاه قاضي التحقيق الذي سيخرج لنا محاضر مزورة ومطبوخة تقودنا للسجن مباشرة.. مع تزوير تاريخ الاعتقال، ومحو كل آثار الاعتقال التعسفي والسري، والاختطاف خارج المدينة من دون قانون ولا حق... لنختتم يوم رحلتنا هاته بقضاء ليلتنا الأولى بسجن عين قادوس.. ولتبدأ رحلة جديدة إلى عالم مجهول لا نعرف عنه سوى ما حكى عنه المعتقلون السابقون، أو ما قرأنا عنه في آداب السجون...