فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في‮ حظيرة‮ "قلعة‮ عين‮ قادوس"
نشر في هسبريس يوم 14 - 08 - 2011

في‮ حظيرة‮ "قلعة‮ عين‮ قادوس" تحققت‮ لنا‮ مطالب‮ كانت‮ أخواتها‮ سبب‮ استقدامنا‮ إلى‮ السجن
- "الشاف.. الشاف.. هادو‮ لگريف‮"‬،‮ أمر‮ الشرطي‮ المكلف‮ بنقل‮ المساجين‮ أحد‮ حراس‮ السجن...
‮- "‬واحد‮ واحد.. زيد،‮ زيد‮"‬،‮ أجاب‮ السجان...
‮- "‬هادو‮ عند‮ رشيد‮..."‬،‮ أمر‮ السجان‮ بدوره‮ البلانطو.
وقبل أن ندخل مكتب الضابطة القضائية، فتشونا وأمرونا بتسليم كل أمتعتنا...لكن للأسف لم يكن لدينا ما نسلمه سوى الاسم والنسب وعنوان العائلة.. وبعد إجراءات التفتيش وضبط الهوية، سلموا لكل واحد منا بطانيتين بلون أسود، باليتين من كثرة الاستعمال..
‮- "‬يا‮ الله‮ كارتي‮ عراب‮ (‬الحي‮ العربي ‮‬Quartier arabe‮).. قال‮ لنا‮ "‬جمال‮ الحتراف‮".‬
حين‮ وصلنا‮ إلى‮ "‬كارطي‮ عراب‮"‬،‮ وجدنا‮ "‬الشاف‮ الحسن‮".. في‮ استقبالنا‮ عند‮ الباب‮ الحديدي‮ الكبير..
على عكس ما كنا نتوقع، لم يكن "الشاف لحسن" غليظا ولا قاسيا...كان بشوشا، محترما.. وبقامته الطويلة كان يبدو متحكما في أمور الحي برزانة، وهو يراقب كل صغيرة وكبيرة في الممر الرئيسي "الكروا" (Croix).
في‮ المساء‮ فرقنا‮ "‬الشاف‮ الحسن‮" على‮ مختلف‮ العنابر: ازرياح‮ العنبر‮ رقم‮ 6،‮ بلمزيان‮ رقم‮ 7،‮ المرحوم‮ بالقايدي‮ رقم‮ 8،‮ الجوني‮ رقم‮ 9،‮ أما‮ أنا.. فكان‮ من‮ نصيبي‮ العنبر‮ رقم‮ 5.‬
كانت‮ العنابر‮ ممتلئة‮ عن‮ آخرها‮ بسجناء‮ الحق‮ العام.. كل‮ عنبر‮ كان‮ يأوي‮ ما‮ لا‮ يقل‮ عن‮ 120‮ معتقلا.. يترأسه‮ "‬الشاف‮ شمبري‮" (‬Chef de la chambre‮) ومساعده.
ككل "بوجادي"، قضيت الليلة شبه واقف، قبل أن أتمدد قليلا في "لگار"، مبسطا البطانيتين المهترئتين على الأرض، حسب ما يسمح به قانون "الشاف شمبري": شبر وأربعة أصابع، وهي المساحة المسموح بها لكل سجين أثناء النوم... لهذا تجد سجناء الحق العام يرددون قولتهم المشهورة ‮"‬زب‮ وترمة... حتى‮ لبيت‮ الما‮"‬،‮ جنبا‮ إلى‮ جنب.. وهكذا،... من‮ الباب‮ إلى‮ المرحاض‮!..‬
كل السجناء كانوا على علم ب"المونتيف ديالنا".. ولهذا منذ اليوم الأول، نلنا احتراما خاصا من طرف الجميع، بما فيهم "الشاف شمبري" ومساعده، اللذين سهرا على "تدبير" الأمر فيما بعد لإيجاد موقع ما للنوم في الصف المحاذي للجدار، لكي لا أنام عند أقدام الآخرين..أي في‮ "‬الملاقي‮" أو‮ "‬الساقية‮".. بلغة‮ السجناء‮!‬
لم أنم طوال الليالي الأولى، رغم صوت "المُسلي" أو "المنوم"... ورغم الحصول على موقع أفضل للنوم... كنت أشعر بالمرارة تجتاحني في كل لحظة، وبالإذلال كلما تمعنت في فضاء هذا السجن الرهيب.. كل شيء كان يوحي لي بتحطيم المعنويات وكسر شوكتي المناضلة. ولم‮ تعد‮ تنفعني‮ مفاتيح‮ العنفوان‮ ولا‮ لوحات‮ العناد‮ ولا‮ أناشيد‮ العشق‮ الأبدي.
كان كل ما من حولي ينطوي على جراح غائرة، بين الجدران وخلف الأسوار.. كنت أمشي قليلا تحت مربعات السماء، أرسم أشكالا هندسية بعد كل زيارة عائلية... أهتم بكل مظاهر وأخبار العالم الخارجي.. وأبسط وأعقد الصور التي يمنحها لي عالم السجن... أبحث عن معنى الحياة حين تغيب‮ الحرية،‮ عن‮ جوهر‮ وجودي. أتساءل‮ عن‮ كفاحي‮ وعن‮ كيف‮ أحببت‮ الوطن‮ من‮ أقصاه‮ إلى‮ أقصاه..
كانت‮ حناجر‮ سجناء‮ الحق‮ العام،‮ لا‮ تتعب‮ طوال‮ اليوم.. تكسر‮ كل‮ دقيقة‮ صمت‮ من‮ حولنا.. أحاول‮ أن‮ استرق‮ ولو‮ لحظة‮ واحدة،‮ لأركز‮ على‮ خبر‮ ما،‮ أو‮ لأفكر‮ في‮ أمر‮ ما،‮ أو‮ حتى‮ لأخلد‮ إلى‮ الراحة‮ قليلا.
كان‮ الإحساس‮ نفسه‮ لدى‮ الرفاق‮ كلهم... وهو‮ ما‮ عجل‮ بتقديم‮ ملفنا‮ المطلبي‮ إلى‮ إدارة‮ السجن.. حيث‮ كان‮ مطلب‮ العزلة‮ عن‮ الحق‮ العام‮ هو‮ المطلب‮ الرئيسي،‮ خاصة‮ أن‮ موسم‮ الامتحانات‮ الجامعية‮ كان‮ على‮ الأبواب.
لم ننتظر طويلا رد إدارة السجن.. كانت الاستجابة إلى بعض مطالبنا سريعة، وعلى رأسها زنازن خاصة بنا كمعتقلين سياسيين... ساعتها أحسسنا بفرح طفولي، ونحن نسترجع بعض أصدافنا... زنازن -رغم صغرها وشكلها المستطيل والبشع- كانت أفضل بكثير من "الشامبري" ومن نتانته وقمله‮ وباعوضه... زنازن‮ تتيح‮ لنا‮ الراحة‮ والنوم‮ والقراءة،‮ وحق‮ التجمع‮ من‮ دون‮ حارس‮ أو‮ رقيب،‮ بعيدا‮ عن‮ عيون‮ "‬الشاف‮ شمبري‮" المتربع‮ على‮ عرشه. كان‮ هذا‮ بمثابة‮ الانتصار‮ الأول‮ على‮ إدارة‮ السجن.
كنا نلتقي بعائلاتنا في "البرلوار le parloir"، من خلال الشباكين الحديديين مرة واحدة في الأسبوع، في ظروف جد قاسية ولا إنسانية، بسبب الضيق وكثرة الزوار..، لم تكن المدة المخصصة للزيارة -في البداية- أكثر من ربع ساعة. كنا نهرول مسرعين عند كل زيارة للبحث عن مكان قريب‮ من‮ الشباك. كان‮ علينا‮ أن‮ نبذل‮ كل‮ جهدنا‮ لإيصال‮ صوتنا‮ -‬لكثرة‮ الضوضاء‮- طمعا‮ في‮ إشباع‮ جوع‮ الشوق‮ وحنان‮ الأهل،‮ والاقتراب‮ من‮ شظايا‮ الفرح‮ المنسي..
في كل زيارة، كانت نظرات أمي تؤلمني وتحاصرني.. كأنها تريد أن تسألني عن الغد، وبعد الغد.. وماذا بعد؟ وعند انتهاء لحظات الزيارة الخاطفة، أتسلم "ألبانيي" عبر الكوة الصغيرة، وتخرج أمي وهي تحدق بي وتبكي.. أحاول أن أمد يدي لأحتضنها وأطبع على وجنتيها قبلاتي، أتتبع‮ خطواتها‮ المتعبة،‮ فلا‮ أتمكن.. لكن‮ الحارس‮ "‬ح‮..." يسدل‮ الستار‮ لأرجع‮ من‮ حيث‮ أتيت،‮ مثقلا‮ بالجراح‮ حتى‮ الثمالة... وببراءتي‮ العنيدة.
منذ‮ الزيارات‮ الأولى،‮ توهجت‮ نيران‮ الشوق‮ فينا،‮ وصار‮ مذاق‮ المحن‮ أكثر‮ مرارة.. ننصت‮ إلى‮ هدير‮ الابتعاد،‮ نصعد‮ القلاع،‮ نعشق‮ نار‮ الامتداد،‮ نركب‮ سفن‮ العناد‮ ونصلي‮ في‮ فراديس‮ الجنان... وهكذا‮ دواليك...
ورغم ما حققناه من مكتسبات في ظرف وجيز، طالبنا من إدارة السجن -بعد مرور شهرين- نقلنا من "كارطي اعراب" إلى "كارطي فرنسي"، نظرا لتوفر هذا الجناح على بعض الشروط الضرورية لنا: زنازن أكبر من الأولى، والتخلص نسبيا من القمل الذي كان يعشش ويبيض في ثنايا ثيابنا، والاستفادة‮ من‮ باحة‮ الفسحة... إلخ.
لم يتطلب منا هذا المطلب سوى بعض الإضرابات القصيرة عن الطعام، التي كنا ننفذها بروح عالية من الانضباط والمسؤولية. وبعد مرور شهرين على اعتقالنا، لبت إدارة السجن مطلب انتقالنا إلى "كارطي فرنسي" وتحسنت ظروف عيشنا نسبيا. هكذا أصبحت أتقاسم الزنزانة رقم 31 مع الجوني والبوهدوني... كما أصبحنا نتمتع جميعا بالحق في الاستحمام مرتين أو ثلاثة في الأسبوع، والحق في الخضر كل يوم الجمعة، والحق في الحصول على الحليب مرة كل يومين.. والحق في الزيارة مرتين في الأسبوع، بالإضافة إلى الحق في متابعة الدراسة والحصول على الصحف والمجلات والمذياع..
كان الدعم الوحيد لمعاركنا ومطالبنا، هو دعم الحركة الطلابية وطنيا وخاصة محليا، من دون أن ننسى صمود وجرأة أفراد عائلاتنا، كلما تطلب الأمر ذلك. عشرات الطالبات والطلبة.. منية، وفريدة، ونجاة، وصفية، وعزيزة، وأمينة، وحفيظة، ومريم، وسعيدة، وعايدة، وحليمة، وفاء، ونجلاء، وفوزية... وخليل، والستيتو، والكوديم مصطفى، وبناصر، وبوستة، والقندوسي، وحكيم، وعادل، والسي محمد، وعمر، وحميد، ويوسف، والشينوي، والحداد... وعشرات الطالبات والطلبة من الخميسات، ووزان، وتاهلة، وتاونات، وغفساي، وتازة، والحسيمة، وفاس، والرباط، ووجدة، ومكناس،‮ ومراكش،‮ والبيضاء... كانوا‮ جميعا‮ وراءنا،‮ دعماً‮ ومساندة،‮ ولم‮ يتخلوا‮ عنا‮ أبدا...
رافقونا‮ في‮ محنتنا‮ هذه‮ منذ‮ الأيام‮ الأولى،‮ رغم‮ التضييق‮ عليهم،‮ ومتابعتهم‮ وترهيبهم‮ كما‮ حصل‮ للعديد‮ منهم‮ في‮ العديد‮ من‮ المناسبات.
كانت تجربة الطلبة القاعديين التقدميين، تجربة في زخمها تتوالد وتتواصل، رغم كل أنواع الضربات التي تلقتها في جميع المواقع الطلابية، مفندة كل التكهنات التي كانت تنتظر موتا محققا لهذا الفصيل الطلابي. موضوع الحركة الطلابية كان يحظى بقسط كبير في نقاشاتنا وتقييماتنا‮ داخل‮ السجن.. يجذبنا‮ إليه‮ بشكل‮ قوي،‮ في‮ ظرف‮ كانت‮ تتزايد‮ فيه‮ أزمة‮ الوضعية‮ التعليمية‮ العامة‮ ببلادنا،‮ نتيجة‮ الاختيارات‮ الارتجالية‮ والعشوائية‮ السائدة.
لقد كانت علاقتنا علاقة استثنائية مع الحركة الطلابية. كان شغلنا الشاغل هو القضية التعليمية، وكنا نعتبرها القضية الأم.. القضية التي كنا نريد أن يكون حولها الإجماع، نظرا للمشاكل المعقدة والموروثة عن السياسات السابقة منذ بداية الاستقلال..
كنا ندرك عمق المخططات التخريبية التي كانت تستهدف الجامعة المغربية، على رأسها إفراغ الجامعات والمعاهد العليا من الطلبة، بسبب الإجراءات والقرارات التي يتم تنفيذها، في غياب المعنيين المباشرين من أساتذة وطلبة. وكنا امتدادا للنهج النضالي الذي لم يتخلف ولو يوما واحدا، لنصرة قضايا الطلبة، ومساعدتهم، والنضال إلى جانبهم، من أجل اتخاذ القرارات النضالية المشروعة، من دون تلكؤ أو حسابات سياسوية وإيديولوجية، ومن دون خوف أو فزع من الاعتقالات والأحكام التي تصدرها المحاكم بالجملة، وبالقسوة المغالى فيها.
لم تكن لنا مصالح ضيقة... كنا نحارب الكارزماتية، ونؤمن فصيلنا من التفكك والانحراف. نبحث عن الإضاءات ونمقُت العتمات، نشجع الجذب على الإقصاء والاستقطاب على الإبعاد... في وقت عوّضت فيه الهراوة و"الأواكس" التربية والبيداغوجية والديمقراطية والحوار.
كان‮ التساؤل‮ عن‮ دور‮ الفصائل‮ الأخرى،‮ وانسحابها‮ التدريجي‮ غير‮ مفهوم‮ بالنسبة‮ لنا،‮ خاصة‮ أن‮ الدفاع‮ عن‮ مصالح‮ الطلبة‮ وحقوقهم‮ وإسماع‮ صوتهم،‮ من‮ أولى‮ الأولويات.
ولم نقتنع بأطروحة الخلافات في التصورات مبررا لهذا الانسحاب. لأن الخلافات كانت دائمة الحضور في مثل هذا الحقل المتميز بشبابه وعنفوانه، ولأن مثل هذه الخلافات، كانت ربما أكثر حدة في إطارات سياسية ونقابية، ولم تكن تعطل العمل النضالي، بل كانت في العديد من محطاتها رمز القوة والبناء والتقدم. وكلما احتد النقاش بيننا، كنا نتوقف قليلا لنغني أغانينا المختارة... ونلقي قصائد الشعر... في انتظار ساعة الخلاص/الحرية، أو معرفة المصير/تاريخ النطق بالحكم وسنوات السجن التي تنتظرنا.
يسود الركود وتقل الحركة، يكثر التأمل وفحص غبار المسافات... تتلاشى صور الحصيلة لتترك المجال للتمعن في السقف.. يخيم صمت رهيب في كل أرجاء "الكارطي".. قراءات ودردشة خفيفة، ثم نطفئ النور قبل الخلود إلى النوم.
عند كل صباح جديد، كنا نتفقد بعضنا البعض، نتأكد أننا مازلنا أحياء نرزق.. نطارد الشكوك... نتناوب على المرحاض، ونحن نشم رائحة بعضنا البعض... نتبادل التحية... نعد الفطور في انتظار أن يفتح السجان باب زنزانتنا.
قهوة وسيجارة... لحظات صباحية ننشغل فيها قليلا وفي صمت.. لكي لا يتعكر مزاجنا.. نتصفح الجرائد، نعيد قراءة الرسائل، نوقظ الرغبة في الكتابة، نكتب عن قضبان المنفى وندون كل العلامات والشهادات، لنراجعها ربما ذات يوم. فيحل وقت الخروج لباحة الفسحة، للقيام بالدوران الحلزوني... نستعيد‮ طريقتنا‮ في‮ المشي،‮ نتنفس،‮ نتبادل‮ الأخبار‮ نحاول‮ ترويض‮ مخيلتنا،‮ نبوح‮ بأسرارنا‮ لبعضنا‮ البعض،‮ لمقاومة‮ العزلة‮ في‮ مداها،‮ والزمن‮ الساكن‮ في‮ فضائنا‮ الآسن..
أزيد‮ من‮ ثلاثة‮ أشهر‮ قضيناها‮ في‮ "‬كارطي‮ فرنسي‮".. استطعنا‮ فيها‮ أن‮ نتعرف‮ على‮ قاموس‮ السجن‮ والسجان،‮ وعلى‮ كل‮ الفضاءات‮ المحجوزة‮ برسم‮ القانون‮ وتطبيق‮ النظام‮ والحفاظ‮ على‮ الأمن‮ العام‮...!‬
فترة زمنية من حياتنا السجنية، تعلمنا فيها الاعتماد على الذات البيولوجية، من أجل إنجاز مهام الحفاظ على الأحلام والآمال، ومواجهة الحرمان، وكل أشكال تدمير الذات المعنوية.. وتعلمنا فيها كذلك أشكال مقاومة مرارة السجن وكل أشكال "الحكَرة" والغربة وأنواعها.
بعد هذه الفترة من حياتنا السجنية، طالبنا مجددا من إدارة السجن نقلنا إلى مكان آخر بعيدا عن ضجيج وصخب معتقلي الحق العام.. مكان يمنحنا حرية أكثر، نستطيع فيه تهيئ طعامنا، ومتابعة دراستنا، وتنظيف ملابسنا..كما كان ملفنا المطلبي يتضمن مطالب أخرى مثل الحق في التطبيب،‮ وفي‮ الزيارة‮ العائلية‮ من‮ دون‮ قيود‮ ولا‮ شروط،‮ والزيادة‮ في‮ الأغطية‮ وأوقات‮ الفسحة..
بعد الحسم في الأمر فيما بيننا، طالبنا مقابلة مدير السجن لعرض مطالبنا على أنظاره. وبعد مرور يومين على تقديم طلب المقابلة، استقبلنا مدير السجن في مكتبه متعاملا معنا كطلبة معتقلين سياسيين يريدون شروطا إنسانية لا باس بها لمتابعة الدراسة داخل السجن. وهكذا وافق على‮ ملفنا‮ المطلبي‮ من‮ دون‮ تحفظ‮ ولا‮ تردد.. كنت‮ إلى‮ جانب‮ علي‮ بلمزيان‮ عضوا‮ بلجنة‮ الحوار‮ طوال‮ مدة‮ السجن...
حين خرجنا من إدارة السجن، وجدنا رفاقنا في حالة تأهب، ينتظرون نتائج الحوار.. كانت فرحتهم عارمة حين علموا بتحقيق الملف المطلبي عن أخره... هكذا وفرت إدارة السجن علينا محنة الدخول في نقاشات مارطونية في ما بيننا، للحسم في الشكل النضالي الذي يجب اتخاذه لتحقيق مطالبنا.
في‮ اليوم‮ الموالي،‮ حزمنا‮ أمتعتنا‮ وصناديقنا‮ الكرتونية‮ وتوجهنا‮ إلى‮ "‬الفريملي‮" حيث‮ وجدنا‮ إدارة‮ السجن‮ قد‮ هيأت‮ لنا‮ قاعة‮ من‮ الحجم‮ المتوسط،‮ وزنزانة‮ واحدة‮ بالقرب‮ منها.
هكذا خرجنا منتصرين من عتمة "كارطي فرنسي"... ومن علب الإسمنت الصدئة... وشيئا فشيئا، بدأنا في "المسكن الجديد"، نسترجع بعض مقومات الحياة الجماعية. لقاءات جديدة، أحاديث بالجملة، نقاشات لتقييم التجربة، بيانات تضامنية، أشكال من الذاتية الحقيرة، انقسامات وتفرقة، معاداة‮ مجانية‮ بسبب‮ أو‮ من‮ غير‮ سبب،‮ ولاءات‮ وهمية‮ وطائفية‮ لا‮ تقول‮ اسمها... إلى‮ غير‮ ذلك‮ من‮ عادات‮ بني‮ البشر.
لكن أسابيع قليلة من الحياة الجماعية، كانت كافية للدخول في متاهات لم نكن في حاجة إليها. لم يكن لنا خيار آخر... كان لا بد من البحث عن مخرج يخفف المتاعب والآلام التي تزداد كل يوم... لكن الحياة لم تتوقف رغم مجراها السرمدي... ورغم تعدد الأبواب الحديدية الموصدة أمامنا‮ وخلفنا... فترة‮ عصيبة‮ عشناها‮ فيما‮ بيننا،‮ بينَت‮ في‮ نهاية‮ المطاف‮ أننا‮ بشر‮ قبل‮ أن‮ نكون‮ مناضلين‮ ومعتقلين‮ سياسيين.
كنا نتقدم كل يوم في خرائط "المراقبة والمعاقبة" (بلغة ميشيل فوكو) وهي تفرض علينا علاقات المراتب والمراكز... تصنفنا، تخضعنا وتحرك ضدنا قوتها باعتبارها وسيلة من وسائل الردع. كنا في حاجة لمن يقف إلى جانبنا... كنا نترقب كل يوم من شمس الصباح.. نبحث في كل الزوايا‮ عن‮ أشعتها... ننتظر‮ خيوط‮ الأمل‮ ونُسيمات‮ العشق‮ المبلل‮ بجراح‮ الرحيل...
نتذكر كل الخروقات التي اعترضتنا جميعا قبل وأثناء اعتقالنا وبعده... طبعا لم يهتم بها أحد... هيئة الدفاع فقط وكما جرت العادة، هي التي تفضلت بالدفاع عنا.. وعائلاتنا والطلبة المقربين منا.. وبعض المناضلين في الخارج بفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا...
رغم تصريحاتنا العلنية، في جلسات التحقيق التي دامت ما يزيد عن سبعة عشر شهرا، وأثناء الجلسات الماراطونية المتكررة بمحكمة الاستئناف.. تلك الجلسات التي أشرف عليها القاضي عبد النور... والتي دامت عدة شهور، أكدنا فيها انتماءنا بإعزاز وسجلنا مواقفنا بارتياح فيما يخص‮ مساندتنا‮ المطلقة‮ للكفاح‮ العادل‮ من‮ أجل‮ الديمقراطية‮ ودولة‮ الحقوق‮ والقانون.
كنا نشعر بالعزلة، لم تكن هناك متابعة إعلامية لقضيتنا العادلة... ولم يكن هنا رأي عام مهتم بمصيرنا... باستثناء من ينتمي لعائلتنا السياسية. لم يكن هناك من يشعرنا بعدالة قضيتنا، نحكي لأمهاتنا، وصديقتنا ورفاقنا عن رغبتنا في متابعة الدراسة والبقاء أوفياء للعلم والقلب‮ والقلم... ولم‮ نكن‮ ننتظر‮ الشفقة‮ والعطف‮ من‮ أي‮ كان،‮ ولم‮ نكن‮ نحتاج‮ لمقدمات‮ رسمية‮ لنقول‮ إننا‮ هنا...
أتذكر يوم قلت لأحد أفراد أسرتي، إن أجمل وأزهى فترات عمري، تلك التي قضيتها في السجن تعبيرا مني على إيماني بقضيتي، وأن السجن لم يغير مني قيد أنملة، ومهما يكن، فالسجن تجربة علمتني أشياء كنت أجهلها، وجعلني أفقد أشياء كنت أنعم بها... لم يتقبل هذا الكلام وكان ما‮ كان...
نعم‮ إنها‮ الحقيقة. السجن‮ علمني‮ الحقيقية،‮ ونكران‮ الذات،‮ علمني‮ احترام‮ الآخر‮ وحب‮ الآخر... وأجمل‮ ما‮ علمني‮ هو‮ ذلك‮ العشق‮ الأبدي‮ المتعدد...
بعد مرور سنة ونصف تقريبا عن اعتقالنا، لم نعد نقوى على الانتظار... في كل مرة يخترع قاضي التحقيق سببا ليمطط دورات التحقيق، بحثا عن ثبوت جريمة الانتماء إلى الوطن... لم يكن متيقنا من ذلك. كان يلح على استدعاء شهود الإثبات من "أواكس" و"سيمي" ومخبرين...
طالبنا في العديد من المناسبات كل الجهات المعنية بقضيتنا، للتسريع بمحاكمتنا أو إطلاق سراحنا. لم نكن نواجه سوى الرفض والتعتيم. بل أكثر من ذلك، كانت تتعرض عائلاتنا للعديد من المضايقات، كلما رفعنا هذا المطلب الحيوي. كما حصل لعائلتي أزيد من ثلاث مرات... أما إدارة السجن، فكانت تؤجل العديد من مطالبنا تحت ذريعة الاعتقال الاحتياطي... غير مبالية بوضعيتنا التي كانت قد بدأت تتدهور، وخاصة تلك المتعلقة بالإقامة ب"الفريملي"... الذي لا تدخله الشمس ولا يدخله الهواء.. بالإضافة إلى أنين المرضى الآتي من الزنازن والغرف المجاورة..
وقد تزامنت هذه الوضعية مع فصل الشتاء الذي أطل علينا باكرا بأمطار غزيرة، وبالبرق والعواصف الرعدية. إنه الشتاء الثاني في السجن.. شتاء بارد، قارس وقاسي.. ليله الطويل، أشد ظلمة وأعمق كآبة.. ورغم ذلك لم نكن نصل إلى مرحلة اليأس.. ولم نكن نطيق من الصبر المزيد.
كانت الجسور تمتد وتتواصل، مخترقة القضبان والشبابيك.. لكي لا نغرق في بحر الأشواك والشوائب... نشرب القهوة جماعة كل مساء، وننصت لروايات النوري أقبوش، ولتعاليق عبد الإله أجريد ولقصص ومناجاة البوهدوني وعبد الله أبيناغ... لكن كعادته حين نبدأ أمسياتنا الفنية والشعرية،‮ يرافقنا‮ الجوني‮ إدريس‮ في‮ الإيقاع‮ ونغنى.. لنريح‮ أعصابنا‮ قبل‮ الخلود‮ إلى‮ النوم.
مذاق‮ شلالات‮ الجراح.. حروف‮ تكسر‮ العبث‮ وتحث‮ على‮ الاستمرارية.. أما‮ رسائل‮ الأحبة‮ التي‮ كانت‮ تخترق‮ غباوة‮ السجان،‮ تؤكد‮ انتماءنا‮ لعيون‮ الحالمين‮ بألوان‮ الوطن..
.. كن‮ ابن‮ من‮ شئت
وغني‮ للمزار
للفجر
للمرأة
التي
صلت‮ في‮ عيون
القمر‮!‬
بهذه الأبيات، أنهى فتاح... إحدى رسائله المجهولة التي تلقيتها ذات يوم عبر البريد... وكأنه يذكرني.. ولا يريد أن ينسى تلك القصيدة التي قمنا بتلحينها معا والتي أصبحت فيما بعد شعارا مفضلا لدى المتظاهرين داخل الحرم الجامعي وخارجه... بل وفي كل الجامعات/ "لازم من الكفاح.. تلميذ، طالب.. عامل وفلاح...". كانت أول أغنية قمت بتلحينها وغنائها بالساحة الجامعية، أيام التنكول، والزاهي، وعبد الإله الجوني، والمسكيني، والرواعي، والستيتو، والزاد، والصايغ، والأندلسي، والدوخة، وشيبان، وجمال البركاني، وبوكرين، وشكري، وبوجيدة، وحميد... إلخ.
أما‮ "‬سعيدة‮ تاهلة‮"‬،‮ فكانت‮ أول‮ هدية‮ تلقيتها‮ منها،‮ قصيدة‮ تحت‮ عنوان‮ "‬شتاء‮ وطني‮"... تقول‮ فيها:
جميل‮ شتاء‮ وطني
يمسح‮ الدمعة‮ عن‮ الأحداق
جميل‮ شتاء‮ وطني
يمسح‮ الحزن‮ عن‮ أفئدة‮ العشاق
قاسي‮ شتاؤك‮ يا‮ وطني
يسكن‮ ليلة‮ الأرصفة‮ والأغنيات‮
قاسي‮ شتاؤك‮ يا‮ وطني
يسكن‮ دفئ‮ الرغيف‮ والذكريات
قاسي... قاسي
قاسي‮ شتاؤك‮ يا‮ وطني
هناك.. بسمة‮ في‮ العيون‮ هناك
وعد‮ باللقاء‮ هناك
دفء‮ العناق‮ هناك
هناك... أكاليل‮ الياسمين...
كان‮ فصل‮ الشتاء‮ يسقينا‮ مطرا... لم‮ يهدأ‮ لي‮ بال‮ حتى‮ لحنت‮ هذه‮ القصيدة‮ وقمت‮ بأدائها‮ في‮ الأسبوع‮ الموالي‮ في‮ "البرلوار‮" أمام‮ العديد‮ من‮ الزائرات‮ والزوار...
أما‮ "‬التيمة‮ زموري‮" فكتبت‮ هي‮ الأخرى‮ تقول:
ليتني‮ أعددت‮ لك
‮ النجوم‮ كي‮ تركبها‮ إلى‮ قدري‮
وحملتك‮ للشمس
كي‮ تغتسل
في‮ صفائها
ثم‮ تكوي‮ جراحك...
ألا‮ هل‮ تمنحني‮ السلام
على‮ عشقك
و‮ تزودني‮ بالألم
أمهلني‮ أيها‮ السيل
حتى‮ انهي‮ قصيدتي‮
واركض‮ خلف‮ القضبان
إلى‮ شواطئ‮ دربك...
صباح‮ الكتابة‮ صديقي‮ "الجبلي‮" المبحوح
صباح‮ المجد‮ والخلود...
كانت مصحوبة بأختي مونية حين سلمتني قصيدتها وطارت إلى الرباط، وهي تذكرني بإحدى أمسيات 1985 يوم غنيت مع "حميدة" أغنية "يا حبايبنا" و"عبد الودود"، وغنى الطلبة السودانيون والفلسطينيون واختلط صوتنا بحناجر الطلبة... فكان لصرختنا عنوان واحد.
لم نتردد قليلا لمطالبة إدارة السجن بالمزيد من تحسين وضعيتنا رغم واقع الاعتقال الاحتياطي. بعد نقاش مطول بيننا، طالبنا إدارة السجن بسكن بديل، خاصة بعد ما أصبحنا نتعرض للسرقة في أكثر من مناسبة.. وهو ما تطلب منا عصيانا مدنيا ذات مساء، تعرضنا عل إثره لقمع وحشي.‮ لكن‮ إصرارنا‮ على‮ المقاومة،‮ واقتناعنا‮ بعدالة‮ قضيتنا.. جعل‮ إدارة‮ السجن‮ ترضخ‮ لمطالبنا‮ المشروعة...
من قاعة الحوار خرجنا منتصرين، لنزف لرفاقنا خبر تحقيق مطالبنا والانتقال إلى إقامة أفضل بحي "البيبي" / الأحداث... ليكون هذا الفضاء آخر محطة من محطات أقبية السجن المروعة بفاس، نحط فيه الرحال... جناح يضم زنزانتين صغيرتين وقاعتين متوسطتين... يتوسطهما ممر يؤدي إلى باحة الفسحة. ورغم تحسين شروط السكن، لم تتغير صورة السجن بالنسبة لنا.. قساوة التجربة، محنة وألم.. مجال مغلق نستعيد فيه شريط الذكريات، نتفحص ألبوم صور التجربة، ونتوسد الإسمنت.. فضاء للإقصاء وتدمير الجسد والعقل.. مكان للعقاب والحط من الكرامة.. والاستلاب والموت‮ البطيء.
في هذه الفترة من فترات السجن العصيبة، كان سجن فاس يستقبل الطلبة المعتقلين بالعشرات.. كانت ساحة ظهر المهراز آنذاك، تشهد غليانا كبيرا... فجره كالعادة النهج الديمقراطي القاعدي الذي، رغم ما تعرض له من قمع، تابع الخط النضالي الجماهري...
لكن، نظرا لتحمله المسؤولية لوحده في الساحة، ساد انطباع مفاده أنه لا فرق بين القاعديين وأوطم، أي أنه حصل نوع من التماهي بين أوطم والفصيل القاعدي.. مما جعله طيلة هذه الفترة يغرق في اليومي، وينسى مسؤوليته اتجاه أوطم، وبناء ذاته وتحصينها من الفوضى والعدمية. وهو‮ ما‮ شجع‮ النظام‮ على‮ تعميم‮ قمعه‮ بكل‮ الوسائل: اعتقال،‮ وتوقيف،‮ وطرد... إلخ.
وكانت الأخبار التي تصلنا حول القاعديين من قبل سعيد، وجمال، ونور الدين، ودحمان، ومنير، وبوسة، وأورشاكو، وبناصر، والخطار وآخرين، تشير إلى تعثر القنوات التنظيمية الداخلية للنهج، وسيادة تعدد المحاور داخل الذات الواحدة، وغياب النقاش التأطيري أو الإيديولوجي... لتؤكد الخلاصات التي كنا قد توصلنا إليها شهورا قليلة قبل اعتقالنا، والمتعلقة بانعكاسات الفهم الخاطئ الذي ساد لدى اليسار في علاقته مع النهج القاعدي.. هذا الفهم الذي يمكن تلخيصه في كون هذا الفصيل ملحقة فقط لليسار داخل أوطم.
نجد لهذا القول، سندا في التجربة.. أي منذ خروجه من رحم الطلبة الجبهويين إلى حدود سنة 1985... فكل الانشقاقات التي عرفها اليسار، كانت تجد لها صدى داخل النهج.. مما أثر لاحقا على السير الطبيعي للنهج، ابتداء من "مجموعة 7" مرورا ب"المبادرة الجماهيرية‮" وصولا‮ عند‮ "‬الكراس‮"...
إن هذه الوضعية التي كان يعيشها فصيل القاعديين آنذاك، وضعية بداية الأزمة وتعميقها مع الوقت، نظرا لطبيعة الصراع الذي دخل فيه مناضلو النهج مع هذه المجموعات التي حاولت تشييد رؤيتها داخل النهج بطرق فوقية وغير ديمقراطية... إن غياب الموقف الواضح لدى المناضلين القاعديين من الكراس مثلا، كان مرده غياب موقف محدد من وجهة النظر هذه، سواء محليا أو وطنيا. وغياب الموقف الموحد هذا، أثر بشكل كبير على العديد من المتعاطفين الذين ظلوا يطرحون العديد من الأسئلة، طامعين في الجواب الشافي لدى مناضليهم، باستثناء أجوبة حول الموقف من الهيكلة‮ والمؤتمر،‮ والعلاقة‮ مع‮ القوى‮ السياسية.
كان‮ هذا‮ كله‮ يجعل‮ الصراع‮ منحرفا‮ عن‮ سكته‮ الديمقراطية،‮ ويأخذ‮ أبعادا‮ لا‮ أخلاقية‮ ولا‮ نضالية‮ أحيانا... خصوصا‮ فيما‮ يتعلق‮ بالصراع‮ بين‮ أنصار‮ الكراس‮ ومعارضيه.
قبل اعتقالنا، كنا قد عشنا جزءاً لا يستهان به من هذا الصراع الذي استمر سنوات عديدة بين الإخوة/الأعداء... نظراً لفشل مبدعي الكراس تسييده داخل الحركة الطلابية.. رغم العديد من المحاولات.. حتى تلك التي انطلقت في 1990 والنابعة من برنامج عام، عنوانه "الجبهة الوطنية‮ العريضة‮".
كانت كل هذه الأسئلة تخترقنا وتؤثر على علاقاتنا كمعتقلين في السجن... في وقت كان البعض منا يستعد لفك ارتباطه النهائي بالحركة الطلابية وبالقاعديين.. معتبرا الابتعاد عن الحركة الطلابية وترك تقرير مصيرها بين أيدي أصحابها والمعنيين المباشرين بذلك، خدمة جليلة يمكن‮ أن‮ تخفف‮ من‮ حدة‮ المشاكل،‮ وتدفع‮ العجلة‮ إلى‮ ما‮ هو‮ أرقى‮ وأحسن...
بعد اجتياز فترة الامتحانات بنجاح، في الأسبوع الأول من شهر يوليوز من سنة 1989، لم يكن يفصلنا عن يوم المحاكمة سوى أيام معدودة. وبعزم وطيد، تبادلنا الآراء استعدادا للمحاكمة... لم يكن هناك مجال للدخول في التفاصيل والتفسيرات، وتضارب الأقوال حول عدالة القضية واستقلال القضاء، وانحيازه التام لتقارير الضابطة القضائية... كان الجميع يهيئ نفسه للوقوف أمام القاضي عبد النور، وليدافع عن براءته بدون مقايضة، وليفضح، بكل قوة، التعذيب الذي مورس عليه خلال فترة الحراسة النظرية، وكل الخروقات الخطيرة التي صاحبت قضيتنا خلال مراحل‮ الاعتقال‮ الاحتياطي‮ وأطواره.
وكأنه يوم عيد!!!.. في صبيحة يوم 24 يوليوز من سنة 1989، ارتدينا ملابسنا الجديدة... أخذنا من علب السجائر ما يكفينا... وبمعنويات مرتفعة، توجهنا إلى "الساحة الشرفية"، حيث وجدنا في انتظارنا رجال الأمن المكلفين بنقلنا إلى المحكمة.. اقتادونا مكبلين بالأصفاد إلى محكمة الاستئناف... ولم نعرف ماذا ينتظرنا... ماذا يمكن أن تخبئ لنا محاكمة مثل هذه... كل واحد منا كان يتمنى أن ينام الليلة المقبلة من دون كوابيس، مهما كان ثقل الأحكام... المهم أن يعرف كل واحد منا مصيره النهائي، بعد طول الانتظار! ذلك ما كان يدور في خلدنا جميعا.
صورة جماعية بالسجن المدني بفاس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.