لم تحظ هذه الكاتبة والأديبة المتمردة بشهرة مصرية وعربية بقدر ما كانت معروفة أوروبيا وذلك لأسباب عدة أهمها أنها بدأت حياتها الأدبية فى سن متأخرة إلى حد ما وقد تجاوزت الخامسة والأربعين من عمرها، ولهجرتها للخارج بعد ثورة يوليو 1952 حتى وفاتها ودفنت خارج مصر، وللغة الأدب الذى انتهجته وهى اللغة الفرنسية. ولدت قوت القلوب هانم الدمرداشية بالقاهرة عام 1892 لأسرة تحمل متناقضات اجتماعية فهى أسرة متصوفة وفى نفس الوقت ارستقراطية ثرية جدا، ترجع هذه الأسرة إلى الجد الأكبر محمد الدمرداش الفقيه السني المولود في تبريز بإيران عام 1454م والذى رحل إلي مصر وانضم لرجال السلطان الأشرف قايتباي، وكان الدمرداش مقربا من السلطان لبأسه فى القتال، ولذلك فقد كان يلقب بالدميرطاش وتعنى الصلب أو الحديدى وقد حُرف اللقب لاحقا إلى الدمرداش، لورعه وقوته أهداه السلطان قطعة أرض في بلد تسمي الخندق وسميت لاحقا بقرية الدمرداش وهى حاليا منطقة الدمرداش بحى العباسية فى القاهرة. ولقد بني زاوية صوفية بالقرية، ولورعه وزهده وهب خراج الأرض للفقراء والمساكين وعاش حياة الزهد والتقشف يؤسس لمبادئ الطريقة الدمرداشية الصوفية وتناقلها من بعده أبناؤه وأحفاده فضلا عن أعمال البر والخير وكان أهمهم الشيخ عبد الرحيم الدمرداش شيخ الطريقة الدمرداشية بالقاهرة ووالد كاتبتنا المغمورة. حافظ الشيخ الأزهرى والسياسى والاقتصادى أيضا على طريقة والده وأجداده بعدما تولى مشيخة السادة الدمرداشية وتلقى العلم وأخذ عن الكثير من العلماء وعلي رأسهم الأمام محمد عبده والشيخ المراغي، واستقطب الكثير من العلماء والوزراء والأعيان وكبار الموظفين. وقام بتجديد زاوية الطريقة وجعلها مسجدا كبيرا. وعند وفاته تولى المشيخة من بعده أبناء ابنته الكبري قوت القلوب الدمرداشية لعدم إنجابه ذكور. برغم نشأة قوت القلوب بقصر كبير ولكنها تلقت تربية صوفية دينية متوازية مع التربية الارستقراطية فلم تك حبيسة الحرملك ولكن حرص والدها على تلقيها تعليما جيدا متفتحا مما جعلها مهتمة بالفنون والأدب ، وبرغم تصوف الأسرة إلا أنها كانت من رواد حفلات الأوبرا، فضلا عن ترددها على أوروبا سنويا وخاصة فرنسا مما يجعلنا ندرك إجادتها التامة للفرنسية وتأليفها بها. وربما ذلك ما جعلها تقدم بكل شجاعة على الزواج من شخص أقل منها فى المكانة الاجتماعية ،إلا إنها اشترطت لنفسها حق العصمة. هذه النشاة أثرت فى حياة قوت القلوب وفى كتابتها وإن تأخرت اسهاماتها الأدبية حتى عام 1934 حينما نشرت كتابها الأول “مصادفة الفكر” وفى ترجمة أخرى “بالصدفة بلا تبصر” عن دار المعارف، وقد نشرت روايتها “حريم” عن دار جاليمار الفرنسية عام 1937 ، ثم “ثلاث حكايات عن الحب والموت” 1940، “زنوبة” 1947 وفى ترجمة يحمل العنوان اسم “زنوبيا”، و”الهندوسى” 1951 ، و”ليلة القدر” 1954، ورامزة 1958 وترجمت من الفرنسية إلى الألمانية، و”حفناوى العظيم” 1967. قدمت كل هذه الأعمال بالفرنسية ولعل ذلك ما دفع عميد الأدب العربى طه حسين للومها فماذا سيستفيد منها القارئ ويتعرف على كتاباتها لحصر عطائها على طبقة اجتماعية محددة ممن يجيدون الفرنسية، وإن كان ذلك دفع الأدباء الفرنسين للاهتمام بها فقد قدم كتبها للجمهور الفرنسي عضو الأكاديمية الفرنسية والأديب المعروف فرانسوا مورياك François Mauriac ، للغتها السليمة ولاهتمامهم بعالم الحرملك المجهول بالنسبة لهم . كانت المرأة والعادات الاجتماعية محور كتاباتها وجاهدت كثيرا للدفاع عن حقوقها خاصة لمعاناة الأنثى فى مجتمع ذكورى يفضل إنجاب الذكور حتى فى بيئتها المتعلمة والمنفتحة ولعلها لاحظت ذلك فى حياتها الشخصية فلم يرزق والدها بالذكور. قام دسوقى سعيد بتعريب روايتى رامزة وزنوبة، وفى الرواية الأولى تقدم الكثير من أسرار حياة الجواري والنساء في حرملك القصور الارستقراطية المصرية، أما فى زنوبة فكأنها تصف حياتها حيث تعيش امرأة وسط عوالم متناقضة كالتصوف والثراء الزهد والرفاهية،امرأة تريد الحرية مع التمسك بالتقاليد فى عالم تعدد الزوجات والضرائر والمحظيات. وعربت مرفت شيخون رواية ليلة القدر التى تظهر مكانة الدين فى المجتمع المصرى من خلال الأجواء الروحانية للشعائر الاجتماعية المرتبطة بالمناسبات الدينية المختلفة مثل ليلة القدر والحج وعاشوراء وغير ذلك. وقد كان منزلها قبلة لعشاق الأدب وأنشأت صالون أدبى وجائزة أدبية بأسمها لأفضل عمل أدبي جديد وقد نالها أديب نوبل نجيب محفوظ في بداياته الأدبية. لم تترك قوت القلوب ميراثا أدبيا عربيا قبل تعريب بعض أعمالها، ولكنها تركت وراءها منطقة في القاهرة ومستشفى يحملان اسم والدها وعائلتها “الدمرداش” فقد قامت بمواصلة مشوار والدها الخيري حيث تبرع عبد الرحيم باشا وزوجته عام 1928 بمبلغ مالي ومساحة أرض تبلغ 15 ألف متر مربع بمنطقة الدمرداش الحالية ليبني عليها مستشفي خيري واشترط على الحكومة أن تتعهد الحكومة بسد أي عجز في النفقات بعد ذلك كما اشترط قبول جميع المرضى الفقراء وعلاجهم بالمستشفى مجانا دون النظر لجنسياتهم أو دياناتهم كما اشترط بناء مسجد بالمستشفى وحجرة يتم دفنه بها. وأصبح المبنى الخيرى الأن هو المستشفى التعليمى لكلية طب جامعة عين شمس، ساهمت قوت في بناء في المستشفى الذى افتتح عام 1931 وحرصت علي التبرع سنويا لكلية طب عين شمس للإنفاق على الأبحاث الطبية، وفتحت مكتبتها الخاصة التي تضم 8 آلاف كتاب لطلاب الجامعة، كما تكلفت نفقات تعليم الكثير من الطلاب وتبرعت لإنشاء مكتبة طبية في مستشفي الدمرداش. مع دعمها لثورة يوليو 1952 لكن مع قرارات التأميم واتهام قادة الثورة لها بتهريب مبالغ مالية للخارج وتضيق الخناق عليها وهدم قصور لها، لم تجد قوت القلوب أمامها سوى الهجرة إلى إيطاليا حيث كان حيث لقيت حتفها عام1968 بطريقة مأساوية مع ابنها مصطفي الدبلوماسي السابق.