في عام 1974 زار الشاعر صلاح جاهين والسيناريست والمنتج ممدوح الليثي مكتب المنتج السينمائي رمسيس نجيب أثناء التجهيز لإنتاج فيلم « الكرنك »، كان طاقم الفيلم قد اكتمل، تم الاتفاق على أبطال الفيلم إلا البطل الرئيسي الذي سيقف أمام سعاد حسني، وحين طلب رمسيس نجيب من الليثي ترشيح بطل الفيلم قال الليثي له « عاجبني قوي الولد أحمد زكي »، فقال له نجيب « أنا معرفهوش »، فرد الليثي « ده ولد ممتاز، وأنا اتصلت بيه، وهو قاعد بره في السكرتارية ». طلب الليثي أحمد زكي للدخول والذي ما إن رآه رمسيس نجيب حتى نظر إلى ممدوح الليثي قائلا بسخرية « هو ده الممثل اللي هيقف قدام سعاد حسني، هايل يا ممدوح، أنت اتجننت، أنت عاوز ده يقف قدام سعاد حسني، لأ وتحبه كمان، طيب إزاي سعاد حسني تحب واحد زي ده، أنت أكيد جرالك حاجة ». الممثل الذي يقف أمام سعاد حسني نظر الليثي بحسرة لزكي وقال له « معلش يا بني، روح دلوقتي وهنبقى نبعتلك لما يكون عندنا فيلم تاني »، وطلب من السكرتيرة أن تتصل بنور الشريف، وحدد معه موعدا للاتفاق على الفيلم، في حين كان أحمد زكي واقفا لم يتحرك، فنظر إليه نجيب وشخط فيه « أنت لسه واقف هنا؟ مش قالك هنبعتلك لما يكون فيه فيلم تاني ». هنا غضب زكي وانتفخت عروق وجهه، وظل يصرخ « يا ناس، حرام عليكم، ليه يا أستاذ ممدوح تبعت تجيبني وتبهدلني بالشكل ده، أنا عملت فيك حاجة، يا ناس يا ظلمة »، وأمسك زكي بكوب زجاجي وسكب مياهه على الأرض، فجرى رمسيس نجيب معتقدا أن زكي سيضربه به، لكن الشاب الأسمر ذا ال26 عاما ضرب رأسه بالكوب فسال دمه، ركض إليه ممدوح الليثي واحتضنه، وقام إليه صلاح جاهين وطيب خاطره وهو يبكي، وحاول جاهين أن يأخذ زكي معه لكن الليثي سحبه من ذراعه، ونزلا من المكتب. كانت هذه القصة التي حكاها الصحفي محمود معروف في كتابه « روائع النجوم » بداية العلاقة بين أحمد زكي وصلاح جاهين الذي سيصر بعد 3 سنوات على اختياره بطلا أمام سعاد حسني أيضا لكن في فيلم « شفيقة ومتولي » ومن إخراج زوجها علي بدرخان. كان أول دور بطولة في مساره المهني ساعده فيه ملامح متولي الصعيدي النحيل الذي عانى سوء التغذية والفقر والظلم مثل باقي أبناء الصعيد في تلك المرحلة الزمنية التي دارت فيها أحداث الفيلم. لم يحقق الفيلم النجاح الجماهيري المنتظر لكنه كان حدثا فارقا في حياة الممثل الشاب الذي عاد إلى الأفلام ذات البطولة الجماعية، مثل « العمر لحظة »، « وراء الشمس »، « إسكندرية ليه؟ »، « الباطنية »، و »موعد على العشاء » الذي بدأ من خلاله يأخذ مساحات أكبر من الأدوار بالتزامن مع صعود الواقعية الجديدة في السينما المصرية. ابن الواقعية الجديدة مع بداية عقد الثمانينيات كانت السينما المصرية تتغير بمخرجين وكتاب سيناريو جدد ورؤية أكثر واقعية للعالم، القصص والدراما أكثر قربا للواقع، والمشاهد خارج جدران الأستوديوهات أكثر واقعية في شوارع المدينة، رجل الشارع العابر أكثر واقعية من الكومبارس العابر، وحتى الممثلين أكثر شبها بملامح نظرائهم في الحياة الواقعية. كانت تلك فرصة سانحة أمام النجوم الشباب الجدد حينها، عادل إمام النحيل الأقل وسامة من نجوم الجيل السابق، وأحمد زكي الأسمر النحيل بملامحه التي تقارب ملامح أغلبية المصريين، خاصة في صعيد مصر، فبدأ الثمانينيات ب »موعد على العشاء »، و »عيون لا تنام »، و »طائر على الطريق »، و »أنا لا أكذب ولكني أتجمل » في 1981، ثم في عام 1982 بفيلم « العوامة 70 ». وتوالت أعماله التي وصلت إلى 30 فيلما خلال عقد الثمانينيات فقط، بين البطولة المطلقة أو البطولة التشاركية وبين مدارس الواقعية الجديدة والكلاسيكية، استطاع خلالها تجسيد 30 شخصية ب30 وجها لا تشابه بينها. البطل ب67 وجها خلال مسيرته السينمائية التي امتدت بين 1972 و2006 جسد أحمد زكي 67 شخصية في 67 فيلما، لا دور فيها يشبه الآخر، من الفلاح المعدم الذي يساق إلى الجيش في شفيقة ومتولي إلى الوزير الفاسد واسع الحيلة رأفت رستم في « معالي الوزير » مرورا بالطالب اليساري الفقير « إبراهيم » الذي يحيا قصة حب لا أمل فيها في « إسكندرية ليه ». وأدواره الفارقة في موجة الواقعية الجديدة من « أحمد سبع الليل » عسكري الأمن بخلفيته الساذجة كفلاح لم ينل حظا من التعليم إلى عقيد الجهاز الأمني المهم « هشام أبو الوفا » بتركيبته الشخصية المعقدة الذي يشبه في ملامحه منتصر عبد الغفور الصعيدي الهارب من قضية قتل تورط فيها دون حق. الملامح واحدة تشبه ملامح أغلبية المصريين، لكن الشخصيات مختلفة تماما، يختلف تاريخ كل شخصية وتكوينها النفسي وصراعاتها الداخلية، وبالتالي تختلف نظرتها المجازية للعالم ونظرتها الواقعية المرتسمة على ملامحها. فالعقيد هشام أبو الوفا في « زوجة رجل مهم » هو شخصية سلطوية أوامره نافذة، يملك سلطة تؤهله إخفاء مواطنين وتعذيب آخرين بدم بارد وعين ميتة، فلا بد من ترجمة هذه السلطة النافذة في مشيته الواثقة وبنيته الممشوقة ونظرة عينه المتشككة الحادة التي تخترق أي شخص كان صحفيا يعتصره لانتزاع اعتراف منه أو زوجة يرهبها بنظرته المتشككة بحكم عمله المعتاد مع المتهمين، وعند انتزاع هذه السلطة منه يختل توازنه النفسي ويفقد كل شيء، ويصبح رجلا ميتا يتحرك خاوي الروح، ولا يملك إلا سلطة واحدة على زوجته التي تقاومه فيقتلها. على نقيض هذه الشخصية تأتي شخصية « أحمد سبع الليل » في « البريء »، فلاح ساذج لم ينل حظه من التعليم، لكنه يطلب للتجنيد، يشعر بأن له قيمة، يمشي فخورا بنفسه، لكنه فخر مفتعل غير أصيل، بجسدها أحمد زكي بمشية سريعة يمد فيها ساقية يحاول فرد ظهره كمن يتعلم المشية العسكرية لأول مرة، مع نظرة كسرها الفقر وسوء الحظ في التعليم والعمل، تتطور هذه النظرة مع أحداث الفيلم لتصبح نظرة الذي لا يعرف الصواب من الخطأ لكنه عرف الظلم عندما شاهد تعذيب قدوته المتعلم ابن قريته. روح معذبة بعذابات شخصياتها في لقائه مع الإعلامية فريال صالح وجمهور من النقاد والمخرجين في برنامج « حق الجمهور »، قالت له إحدى الحاضرات من الجمهور إنه « إنسان متقلب، أحيانا بروح طه حسين، وأحيانا بعظمة جمال عبد الناصر، وأحيانا برومانسية عبد الحليم حافظ » ليرد عليها بأنه لا يجسد شخصية إلا إن صدّقها بحق ». وهو ما يتفق مع نظريته في التمثيل بأن « ما أفعله يشبه كثيرا ما يفعله الطبيب النفسي، ولكن الطبيب النفسي يحيد الشخصية التي يقوم بتحليلها عن جهازه العصبي، كي لا يتسلل إليه بعض مما تشكو منه هذه الشخصية، أما أنا فأقوم بنفس العملية، ثم أتلبس هذه الشخصية بشكل مكتمل، أعاني من كل ما تعاني منه الشخصية، وربما قد يستمر الأمر معي حتى بعد نهاية الفيلم، ولكني في النهاية أرى أن ما أؤديه على الشاشة ربما يكون نوعا من العلاج الجماعي »، فهل أكلت الشخصيات التي جسدها من روحه وصحته ليتوفى وهو في ال55 من عمره؟ *الجزيرة