أثارت الأفلام التي كتب لها السيناريو الراحل ممدوح الليثي الكثير من الجدل السياسي، خاصة تلك التي أخذها عن روايات شهيرة لنجيب محفوظ، فقد ركز السيناريست في فترة زمنية على إعادة الصياغة الأدبية لعدد من الأعمال الروائية وتحويلها إلى أفلام سينمائية، وبالطبع كان لهذا دور في تقريب أدب محفوظ الى عوام الناس وبالضرورة اطلع الجمهور على وجهات النظر السياسية لصاحب الروايات في ما يتعلق بالقضايا والمراحل والأشخاص. كانت الرواية الأكثر جذباً بالنسبة لرواد السينما هي ‘الكرنك' لكونها تناقش قضية التعذيب التي أشيع عنها الكثير ونسجت منها مئات القصص والحكايات في أعقاب نكسة يونيو 67 ووجد السادات فيها فرصة لتصفية حساباته مع من أسماهم بمراكز القوى، كان الليثي ذكياً في التنبه لهذه الفكرة فالتقط الخيط وكتب فيلم الكرنك حسب رؤيته وتصوره ونجح بالفعل في إحداث التأثير الشعبي المطلوب في تلك الفترة من سبعينيات القرن الماضي. ليس الكرنك وحده هو الفيلم الذي كتبه ممدوح الليثي، ولكن كان له الفضل في تكرار التجربة بنفس المواصفات في أفلام أخرى هي ميرامار وثرثرة فوق النيل وبالطبع لم يسلم التاريخ الناصري من سهامه النقدية التي وصفت بعض رموز المرحلة بالانتهازية والتسلق فشخصية يوسف شعبان كانت عنوانا للطعن والتنكيل فهو العضو القيادي بالاتحاد الاشتراكي الذي يغرر بشادية ويوقعها في شباكه ثم يلفظها ولا يفي بوعده لها، غير انه الرجل المشبوه المشكوك في نزاهته وضميره. وتتعدد النماذج السلبية في ميرامار للتدليل على ضحايا ثورة يوليو وما جنته على الناس والمجتمع! ولم يقنع صاحب الرؤية السينمائية بفيلمين فقط، وإنما كتب من باب التوثيق للرأي والرؤية فيلماً آخر هو ‘ثرثرة فوق النيل' ليصف فيه النخبة بالانفصال عن الواقع واستغراقهم في الملذات والشهوات وتوهانهم في غيبوبة لا يستفيقون منها إلا قليلا، ولم يكن من بين الشخصيات والأبطال إلا شخصية واحدة فقط هي ‘ماجد الخطيب' التي تحمل ملامح الوطنية وتمثل الضمير الحي للوطن، بينما الآخرون بمن فيهم ‘الكبير' عماد حمدي يشارك في قتل الفلاحة التي صدموها بسيارتهم وهم في صحبة رجب القاضي ‘أحمد رمزي' الفنان الذي يخصص عوامته لكل الموبقات فكل الجرائم تُرتكب من الخيانة الزوجية الى الخيانة العظمى، العصر كله موصوم ولا حيلة لإصلاحه غير أن يحل البواب أحمد الجزيري حبل العوامة لتسير في عرض النيل على غير هدى، في إشارة لا تخفى على اللبيب بأن العوامة صورة من حالة مصر بعد النكسة، حيث باتت مجهولة المصير. هذا ما كتبه صانع الأفلام وسجله عن فترة الستينيات دون ذكر لحسنة وحيدة يشار إليها ولو من بعيد، كتب السيناريست الكبير أفلاما أخرى كانت اكثر تميزا فهو من أبدع ‘الطريق إلى إيلات' ووثق لبطولات حرب الاستنزاف في مرحلة رآها تستوجب الإنصاف لقواتنا المسلحة بعد إعادة بنائها وهو ما يتجه بنا الى الظن بأن الراحل تدارك ما كتبه من قبل وتوخى الموضوعية في ما يتعلق بالانجازات الفعلية عامي 68، 69 وينفي عنه تهمة التربص بالتاريخ الناصري كما كان يظن البعض ويزيد من تعزيز ذلك المفهوم ما أكده في فيلم ‘ناصر 56 ‘ باعتباره العمل الرئيسي المباشر عن جمال عبدالناصر ودوره المهم في المنطقة العربية على المستوى السياسي والبطولي في تلك الفترة. كان الليث متيماً بأدب محفوظ ومدركا لأهميته الإبداعية وبصيرا بمواطن الجمال فيه، لذا لم تفلت منه أمهات أعماله الروائية ولم يفوت فرصة تصويرها سينمائيا لتبقى طويلا في سجل الذاكرة الفنية، ومن دلائل ذلك قيامه بكتابة فيلم ‘امرأة سيئة السمعة' بذات الجرأة التي وردت في الرواية لاعتقاده بأن التخفيف في الصورة الدرامية هو إخفاق وإهدار للقيمة الإبداعية إذ ليس من حق السيناريست التحريف أو المعالجة بشكل يجافي النص الاصلي ويشوهه. الأمر نفسه كان في فيلم ‘لا شيء يهم' ورائعة سعيد مرزوق ‘المذنبون' والأخير على وجه التحرير فتح سجالا طويلا من الجدل حول المشاهد الساخنة ومدى الاستفادة منها في سياق التكوين الفني للفكرة بأبعادها السياسية والإنسانية، ولم يحسم الجدل حول هذه القضية حتى الآن فما زالت هناك اعتراضات واحتجاجات ورؤى متباينة تخص المفهوم العام لحرية الإبداع ودلالاته ومعانيه. الاتفاق أو الاختلاف حول أعمال ممدوح سنة من سنن المجال الإبداعي فليس هناك إجماع كامل أو رفض كامل لكاتب أو مخرج أو ممثل أو فنان تشكيلي فبقدر التأثير يأتي الحراك وبقدر الحراك تنقسم الآراء. ومما لا شك فيه أن الرجل كانت له إسهاماته الإيجابية في الحركة السينمائية، ففضلا عن انه سيناريست متميز كان ايضا قياديا وإداريا متميزاً، فهو من ترأس مواقع مهمة منها قطاع الانتاج بالتليفزيون المصري وجهاز السينما بوزارة الثقافة ورئاسة مجلس إدارة الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما لدورات متتالية، وليس بعيدا عن ذهنية المهتمين بالسينما والمتخصصين فيها إدراك صعوبة هذه المهام وما يحيط بها من متاعب ومشاق. لسنا بصدد تقييم ممدوح الليثي، ولكننا فقط نحاول إلقاء الضوء على مسيرة إبداعية امتدت طويلا وكان لها ما لها وعليها ما عليها.