إنتظرته لدقائق و أنا أتأمّل ذاك الكمّ الهائل من الأُسر و الأفراد الذين جمعوا وثائق ملفّاتهم بعناية كمن يجمع حسناته ليوم الحساب، يضعون طلباتهم لدى ملحقة القنصلية الإسبانية بمدينة طنجة قصد الحصول على تأشيرة دول شنغن الأوربية؛ منهم من يُخطط لعطلته، و منهم من حرقه الشّوق لزيارة عائلته، و منهم من يبحث عن تأشيرة لعمله، و منهم من يلتمسُ هروباً قانونياً لتجاوز الحدود للعبور بلا رجعة من وجع وطنه، و منهم أنا، لا أعلم لما أنتظر تلك التأشيرة التي ستسمح لي بزيارة عدد كبيرة من الدول الأوربية، و هل فِعلاً !! سأتمكّن يوماً من زيارة كلّ تلك الدول و أنا لا أوفّر درهماً واحداً من راتبي المتواضع، و هل فِعلاً !! سأزور أوروبا و سأرجع للوطن، أم أنني سأقتفي آثر كل أولئك الذين ذهبوا سياحاً و عادوا بعد سنوات طويلة من الغُربة، عادوا و هُم يحملون لقب المهاجرين المقيمين بالخارج أو عادوا مواطنين بجنسيات أجنبية، أو لم يعودوا نهائياً. مرّت الدقائق و كأنها ساعات من الزمّن، جلستُ هادئاً أتأمّل الوجوه و الحركات والتصرّفات، جلستُ أحمل همّ التأشيرة، سهوتُ في ذلك العالم الصغّير الذي يفتح أبواب أوروبا حتى ناداني موظّف الملحقة و هو يفتح الظرف الذي وُضع فيه جواز سفري، تأكد من هويّتي و سلّمني الظرف و الجواز بدون أدنى ردّة فِعل، إنتظرت الجواب من ملامحه، لكن ملامحه ظلّت محايدة و باردة كبرودة الظرف الذي سلّمني إياه و إنصرف على وجه السرعة، لم أجرؤ على فتح الظّرف و إنصرفت، إنصرفت و بين يديّ خبر لا أعلم أ مفرح هو أم مخيّب لبقية الأمال التي خنقتها سنين الوطن، إنصرفت و أنا أحبس الحزن و الفرح و لا أدري من منها سأواجه.. خرجتُ من باب الملحقة كالخارجِ من قفص الإتهام متأهباً لسماع حُكم القاضي، صعدتُ سيارتي العجوز و سحبت الجواز بهدوء، و كأن جواب القنصلية قد يتغيّر إذا أحسنتُ معاملة الجواز الأخضر، أو أن حدّة الرفض قد تخفّ إذا تأخرت في الإطلاع على جوابهم، فتحتُ الصفحة الأولى، ثم الثانية، بدى لي الجواز غريباً و كأنه قد مُنح لي للتّو أو كأنه يخصّ شخصاً آخر غيري، دبّت بعض البرودة بين كتفي و عنقي عند الوريد، في الصفحة الثالثة كانت تنتظرني تأشيرة إسبانيا لمدة شهرٍ و نصف الشّهر.