مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    ربط كهربائي ومعبر جديد.. المغرب وموريتانيا يرسّخان جسور الوحدة والنماء    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهبي يكتب: مشروع قانون المسطرة المدنية والحاجة إلى النقد البناء
نشر في العمق المغربي يوم 23 - 08 - 2024

إذا كان من السهل، في إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة للجميع، والحوار الفكري المحمود، الاستمرار في انتقاد مشروع قانون المسطرة المدنية، وهو أمر إيجابي للإشارة، بالنظر لما ينتج عن النقاش القانوني عموما من آراء تغني وتجود المقتضى القانوني موضوع النقاش، فإن المطالبة، بناء على اعتبارات مهنية ودون موجب سليم، بسحب مشروع قانون المسطرة المدنية من البرلمان رغم المصادقة عليه من طرف ممثلي الأمة بمجلس النواب، والاعتراض على إحالته على مجلس المنافسة لإبداء رأيها الاستشاري في بعض مقتضياته، يستوجب أن يتحلى الجميع بالمسؤولية العلمية لتقديم قراءات جادة للمقتضيات الدستورية والقانونية موضوع النقاش، والتقيد بما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وما جاء في الصكوك الدولية، التي تحدد بشكل واضح عددا من المفاهيم المتصلة بالعدالة، وحقوق الانسان عموما، كالمساواة، والتمييز، بالنظر إلى أن الاحتجاج بعدم احترام هذه المفاهيم، لا يمكن أن يكون خارج ما هو مقرر في الوثيقة الدستورية، وفي قرارات القضاء الدستوري، وفي غيرها من الوثائق الأممية التي يكتسي الكثير منها طابع الإلزام، باعتبارها الإطار المعياري الأممي المتوافق عليه من طرف المجتمع الدولي.
ولا يخفى أن حرصنا على مواكبة هذا النقاش، والتفاعل معه بكل جدية ومسؤولية، ما هو إلا تجسيد لأهمية الحوار الفكري البناء، وتعزيز للنقاش المجتمعي الذي يكون مؤطرا بالدستور والقانون، وتكون غايته الأساسية، مقارعة الآراء والحجج بناء على أسس علمية، بغية الوصول إلى هدف أسمى، هو تجويد النص التشريعي بما يحقق المصلحة العامة، ويعزز حقوق المواطن وعموم المرتفقين على قدم المساواة، في ظل دولة المؤسسات.
والأكيد أن الآراء المعبر عنها بهذا الشأن، بتعدد مصادرها وتنوع زوايا مقارباتها واختلاف قيمتها القانونية وترتيب أولوياتها تخلق مجالا خصبا لنهل الأفكار وتقاسم التجارب والممارسات الفضلى، غير أن هذا النقاش لا يعد، في أي حال من الأحوال، بديلا عن اختصاصات المحكمة الدستورية في مراقبة مدى مطابقة القانون للدستور، ولا مصادرا لحقها في ممارسة اختصاصاتها المخولة لها بموجب الدستور، وهي الممارسة التي أصبحت جزءا من المشهد التشريعي ببلادنا، وهو ما يعتبر انتصارا لقيم الديموقراطية وضمانة لحماية الحقوق والحريات والدفاع عن الدستور، وترسيخا لحكم القانون، وهو على كل حال، نقاش ينسجم مع ما ذهب إليه بعض الفقه، عندما اعتبر أن المحكمة الدستورية يجب ألا تكتفي بإعلان الحقيقة حول معاني الدستور فقط، ولكن يتعين عليها أن تجعل القانون أيضا، "حقيقة حية" تمتثل إليها المؤسسات والهيئات والمواطنين والمجتمع برمته وتحرك ممارساتهم الاجتماعية.
إن استمرار بعض الأحكام المسبقة المتداولة أخيرا حول خرق مشروع قانون المسطرة المدنية لبعض مبادئ حقوق الانسان ، لا يمكن بأي حال، أن يسهم في تقديم قراءة علمية موضوعية لبسط وجهات النظر، وفقا للإطار المعياري المسلم به في القانون الدولي لحقوق الانسان ، مما يفقد هذه الأحكام أهميتها العلمية، إذ أن الاحتجاج بخرق مبادئ متعارف عليها عالميا، لا يكون مقنعا إلا بالانضباط للمفاهيم المقررة في هذه الوثائق وفي مختلف الاجتهادات القضائية والفقهية، وهو الأمر الذي لم يهتدى إليه في عدد من الكتابات والآراء المعبر عنها أخيرا في هذا الصدد.
بل إن منها من ذهب إلى القول إن المغرب ليس في حاجة إلى قانون جديد، وأن قانون المسطرة المدنية الصادر سنة 1974 كان كافيا رغم مرور ما يناهز نصف قرن على إصداره، مفضلين إبقاء الأمر على ما كان عليه، والركون إلى ملائمة المتغير والمستجد باعتماد التفسير والتأويل، والسعي من منظور ضيق إلى اعتماد منهج التوجيه بالغاية بدل التوجيه والتأطير بالنص التشريعي المعتمد ديموقراطيا في إطار دولة المؤسسات والسلط المستقلة، في محاولة لفرض تفسيرات خاصة للحقوق الدستورية، لا يمكن اعتمادها دعامة لمشاريع تشريعية حكيمة لافتقارها إلى التأصيل السليم، والتسبيب المقنع والموضوعية في التحليل التي تستحضر مصالح جميع المتدخلين والمعنيين بسير مرفق العدالة.
إن وصف عمل الهيئات التي أشرفت على إعداد مشروع قانون المسطرة المدنية، على اختلاف مشاربها، بكونه مجرد مبادرة تشريعية من حكومة مطمئنة لأغلبيتها داخل البرلمان لتكريس "التغول التشريعي"، هو قول يتناقض مع قيم المجتمع الديموقراطي، الذي يحتكم إلى الدستور، والذي تكون فيه المبادرة التشريعية فضيلة، وممارسة المؤسسات والسلطات لاختصاصاتها الدستورية نجاح للديمقراطية.
إن قيام السلطة التنفيذية بإنتاج مشاريع قوانين تعبير صريح عن حيوتها وتحملها للمسؤولية والاستعداد للدفاع عن قناعاتها في إطار الملائمة التي يمنحها إياها الدستور ، ولا تخضع في إطاره لمراقبة المحكمة الدستورية لأنه مجال يرتبط بالسياسة التشريعية التي تملك فيه السلطة التنفيدية كامل الحرية لأنه مجال سياسي.
ومن منطلق الوعي بأهمية مواصلة الانخراط في النقاش العمومي المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية ، وحرصا على تنوير الرأي العام ، فقد ارتأينا أن نستمر وفق نفس المنهج القائم على الحوار، في التفاعل مع الآراء المعبر عنها بهذا الخصوص، وذلك من خلال الوقوف مرة أخرى، على بعض ما حملته من توجهات، من أجل قراءتها قراءة هادئة في ضوء الدستور، والمعايير الدولية لحقوق الانسان، علما أن مجموع النصوص موضوع النقد، في الكتابات والآراء المعبر عنها في هذا السياق، يمكن اختزالها في عشرة مواد من مجموع مواد المشروع التي تصل إلى 644 مادة.
والتزاما بكل ما تقدم، فقد ارتأينا الحديث (أولا)، عن مفهوم السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستوري، ونطاق هذه السلطة، وذلك من أجل المساعدة على تقريب بعض المفاهيم المتعلقة بحدود السلطة التقديرية للبرلمان، بغية رفع اللبس الحاصل في معاني عدم الدستورية، على أن نقف (ثانيا)، على تحديد مفهوم التمييز وفق الدستور والمعايير الدولية لحقوق الانسان، لنبرز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم، للقول بعدم دستورية بعض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، على أن نخلص (ثالثا) إلى التفاعل مع النقاش المثار بخصوص مدى دستورية وقانونية طلب رأي مجلس المنافسة في بعض النصوص المتعلقة بموضوع ممارسة المهن القانونية الحرة.
أولا: السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستور ي(الملائمة).
إن مفهوم السلطة التقديرية للبرلمان يستند في فقه القانون العام، من جهة أولى، على طبيعة وظيفة السلطة التشريعية، التي تتطلب مساحة من حرية التقدير التي تمكنها من مواجهة ما يعرض عليها من أمور وقضايا، تحتاج إلى تدخلها. كما يستند، من جهة ثانية، على طبيعة حركة الحياة التي تتطور بصفة دائمة، وتفرض إقرار قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، التي تستوجب تدخل المشرع بصفته صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع، دون المس بالحقوق والحريات الأساسية المضمونة دستوريا، وبالتالي، لا بد من الاعتراف له بجانب من حرية التقدير، التي تعرف بالسلطة التقديرية للمشرع أو الملائمة، وفقا للمبادئ المستقر عليها في القضاء الدستوري.
إن هذا المفهوم دفع الفقه إلى استبعاد تفسير النص الدستوري باعتباره وثيقة ثابتة في اللفظ والمعنى، ودعا بدلا عن ذلك، إلى النظر إلى الدستور بما يحويه من قيم ثابتة يجب أن تطبق بمرونة على الظروف المتغيرة دوما، فممارسة الحق في الولوج إلى القضاء، كقيمة ثابتة، لا يمكن أن ينظر إليه بالصورة التي كانت تمارس بها خلال سنة 1913 في ظل أول قانون للمسطرة المدنية أو سنة 1974 بمناسبة تعديل قانون المسطرة المدنية، بل يتعين النظر إلى هذا المقتضى الدستوري باستحضار كيفية تطبيق القيم الكامنة خلف النص الدستوري اليوم، في ظروف اختلفت كثيرا عن سنوات 1913 و1974، وربما لم تكن في حسبان المشرع الدستوري عند وضعه للدستور، فمن كان يتصور آثار الثورة الرقمية في مجمل المجالات بما فيها مجال القانون والعدالة.
ولا شك أن مسؤولية المحكمة الدستورية تكمن في قدرتها على الاستدلال على احترام القانون للقيم الثابتة المتضمنة في الدستور في ظل الظروف المتغيرة بالاستناد إلى معياري القيم والتناسب. والذكاء المنشود للسلطة التنفيذية صاحبة المبادرة التشريعية، يكمن في تحقيق الملائمة بين القيم الدستورية الثابتة والاحتياجات التشريعية المتغيرة، في إطار مهامها بتدبير الشأن العام، على اعتبار أن مجال الملائمة التشريعية يبقى مجالا خاصا وحصريا للسلطة التنفيذية وهو ما سيساعد من جهة أولى، على جعل القانون، يحقق على نحو أفضل الأهداف الموضوعية للدستور، ومن جهة أخرى، على خلق تشريعات ديموقراطية قادرة على العمل في احترام كامل للحقوق والحريات، وضمان دولة المؤسسات.
وقد أكد القضاء الدستوري على أهمية السلطة التقديرية للمشرع في عدد من قراراته، والتي من بينها، القرار رقم 11/817، الصادر عن المجلس الدستوري بتاريخ 13 أكتوبر 2011، الذي جاء فيه ما يلي، "وحيث إنه ليس من صلاحيات المجلس الدستوري التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع في اختيار نوعية التدابير التشريعية التي يرتضيها سبيلا لبلوغ أهداف مقررة في الدستور طالما أن ذلك لا يخالف أحكام هذا الأخير...".
وهو نفس التوجه الذي أكدته المحكمة الدستورية العليا المصرية، إذ جاء في قرارها الصادر بتاريخ 02/01/2011، في القضية رقم (5) ما يلي: " ...ذلك أن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، وذلك ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط محددة تحد من إطلاقها...".
فالسلطة التقديرية للمشرع، تقوم على عدة مبادئ من بينها، مبدأ عدم امتداد رقابة القضاء الدستوري إلى بواعث القانون، وهذا المبدأ استقر عليه قضاء المحكمة العليا الأمريكية منذ حكمها الصادر عام 1810 في قضية،)فلشر ضد بك v. Peck Fletchre (، إذ أكدت في عدد من أحكامها، أنه إذا كان القانون مستوفيا لكافة الشروط والأشكال القانونية، فإن المحكمة لا تستطيع أن تؤيد أحد الخصوم في طعنه بعدم دستوريته، بحجة أن القانون صدر عن بواعث غير شريفة أثرت في بعض أعضاء السلطة التشريعية التي سنت القانون.
ذلك أنه إذا كان القانون في ظاهره، وكما يتضح من نصوصه غير متعارض مع الدستور، ويدخل في السلطات التي يسمح لسلطة التشريع بممارستها، فإنه لا يمكن للقضاء الدستوري، وفق لهذا المبدأ، البحث عما وراء النصوص من بواعث مشروعة أو غير مشروعة، تكون قد دفعت السلطة التشريعية إلى إقرار هذا القانون.
وفضلا عن ذلك، فإن تقدير الحاجة إلى القانون ومدى ضرورته يدخل في اختصاص السلطة التشريعية وحدها بوصفها عنصرا من عناصر السياسة التشريعية التي لا يمكن للمحاكم الدستورية التدخل فيها، وقد أكد القاضي هولمز عن هذا المبدأ في قضية لوتشنر ضد نيويورك عام 1905، بقوله، " إن القانون قد يكون ملائما أو غير ملائم، ولكن كل هذا ليس لنا شأن به طالما أنه يصدر في حدود الدستور".
لقد استقرت المحكمة العليا الأمريكية، على أن تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، معتبرة أنه إذا كان ظاهر القانون يدخل ضمن السلطات التي يسمح بها الدستور للسلطة التشريعية، فإنه لا يمكن لها التنقيب والبحث في مدى ملائمته وفق ما عبر عنه القاضي هولمز.
إن القضاء الدستوري، كان حاسما في عدد من قراراته التي لا يتسع المجال للاستشهاد بها، في منح المشرع مساحة هامة لممارسة سلطته التقديرية، حتى يتمكن من الاضطلاع بدوره الأصيل في التشريع، وإقرار التدابير التي يراها مناسبة لتنزيل الحقوق الواردة في الدستور، وتنظيم المجالات التي يختص بها، وتحديد اختياراته التشريعية التي لا رقابة للقضاء الدستوري عليها، إلا ما كان مخالفا لصريح الدستور، ومصادرا للحقوق والحريات التي يضمنها، وذلك وفق المقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة لاختصاصه في البت في مدى مطابقة القوانين للدستور، علما أن قراراته نهائية ولا تعقيب عليها، وفي هذا السياق، نستحضر ما قاله الفقيه روبرت جاكسون عندما علق على وصف نهائية أحكام المحكمة الدستورية بالقول " إن المحكمة ليست نهائية لأنها لا تخطئ بل هي " لا تخطئ" فقط لأنها نهائية" وقضاتها معصومون من الخطأ فقط بقدر ما تكون كلمتهم نهائية".
وتكمن أهمية الضمانة الأساسية لقضاة المحكمة الدستورية أيضا، في كونهم ليسوا بالضرورة سياسيين فهم بالدرجة الأولى خبراء متخصصون وملمون بالقانون، ذلك أنهم إذا ركنوا في تقديرهم لبناء أحكامهم على المنظور السياسي فيمكن لوجهات نظرهم أن تنقلب لتصبح خاطئة بشكل كامل لكون المتحكم الأساسي في العمل السياسي هو متحول بطبيعته.
ثانيا: تحديد مفهوم التمييز في الدستور والمعايير الدولية لحقوق الانسان، وإبراز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم.
إن الآراء المعبر عنها بخصوص خرق مبدأ المساواة، وإقرار نوع من التمييز في مشروع قانون المسطرة المدنية، بين المواطنين على أساس المال، وبين المواطن والإدارة، وبين الجهات، يظهر حجم اللبس الذي وقع فيه أصحاب هذه الآراء في تحديد معاني التمييز الواردة في الدستور، وفي القانون الدولي لحقوق الانسان.
ولمناقشة مفهوم التمييز وعلاقته بتحقيق مبدأ المساواة، لا بد من الوقوف بداية على المقتضيات الدستورية التي تناولته، من جهة أولى، وتحديد مفهومه وفق المعايير الدولية لحقوق الانسان، من جهة ثانية، على أن نقف من جهة ثالثة لإبراز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم.
1– مفهوم التمييز وفق الدستور:
أكد دستور المملكة المغربية في عدد من مقتضياته على مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز، إذ نص في ديباجته، على التزام المملكة المغربية بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون، أو المعتقد، أو الثقافة، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان...".
كما نص في الفقرة الأولى من الفصل 6 منه على أن، " القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين، أو اعتباريين، بمن فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له...".
وللتأكيد على عزم المملكة المغربية على القضاء على كل صور التمييز نصت الفقرة الأخيرة من الفصل 19 من الدستور، على إحداث هيئة للمناصفة، ومكافحة كل أشكال التمييز، وحدد مهامها في الفصل 164 منه، في السهر على احترام الحقوق والحريات المنصوص عليها في الفصل المذكور.
وإذا كان حظر جميع أشكال التمييز هو الذي يكفل تحقيق مبدأ المساواة باعتبارهما عنصران مترابطان، فإن التساؤل المطروح، ما هي أشكال التمييز المحظورة دستوريا؟
لقد أكد القضاء الدستوري في عدد من قراراته على أن مبدأ المساواة لا يقيد المشرع، اعتمادا على أسس موضوعية، في إقرار تمييز معين بين المراكز التي ينظمها، وفي هذا الصدد أكدت المحكمة الدستورية العليا المصرية في حكمها الصادر في القضية رقم 36، للسنة القضائية السابعة عشرة بتاريخ 2 يناير 1999، على ما يلي:
"...إن مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، ليس مبدأ تلقينيا جامدا منافيا للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها...".
وقد سبق لمحكمة التحكيم البلجيكية أن أكدت نفس التوجه في قرارها الصادر تحت رقم 1366/1992، الذي جاء فيه:
"...إن القواعد الدستورية المتعلقة بمساواة البلجيكيين، وعدم التمييز بينهم لا تستبعد إمكانية إرساء معاملة مختلفة لفئات معينة بين المتقاضين...".
فانطلاقا مما تقدم، يتضح أن مفهوم التمييز المنصوص عليه في الدستور، لا يمكنه أن يقيد من السلطة التقديرية للمشرع لإقرار اختيارات تشريعية تتلاءم مع الحاجيات العملية، التي تفرض سن قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، والتي قد تترتب عنها إرساء معاملة مختلفة لفئات معينة من المتقاضين.
2– مفهوم التمييز وفق المعايير الدولية لحقوق الانسان.
إذا كان من المعلوم، أن كل الصكوك الدولية لحقوق الانسان، أجمعت على مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز، فإن الكتابات والآراء المعبر عنها في سياق النقاش العمومي المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية بخصوص احتواء المشروع على عدد من المقتضيات التمييزية، لا تمت بصلة للمعايير الدولية لحقوق الانسان، المحددة لمفهوم التمييز الوارد في الدستور، ذلك أنه بالرجوع إلى الشروحات التي أوردتها عدد من الآليات الأممية لحقوق الانسان ،في إطار دورها المتعلق بتفسير مواد الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، يتضح بشكل واضح، حجم اللبس الحاصل، و في هذا الصدد يمكن التذكير على سبيل المثال، لا الحصر، بالتعليق العام رقم 20 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ماي 2009، والتي أكدت من خلاله، أن التمييز يتمثل في أي تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل، أو غير ذلك من أوجه المعاملة التفاضلية المبنية بشكل مباشر أو غير مباشر على أسباب تمييز محظورة، بقصد إبطال أو إضعاف الإقرار بالحقوق أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة، أو بما يؤدي إلى ذلك ويشمل التمييز أيضاً التحريض على التمييز والمضايقة.
فالملاحظ من خلال التعليق العام المذكور، وغيره من التعليقات الكثيرة الواردة في هذا الصدد، أن أساس التمييز، يقوم على التفاضل المبني على أسباب محظورة، كالأسباب المشار إليها في دستور المملكة، مثل اللون، أو الجنس، أو المعتقد، أو الثقافة، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان...، والتي تحول دون تمتع الشخص بحقوقه في جميع الحالات، لتلك الأسباب وغيرها من أشكال التمييز المحظورة، والتي يكون جوهرها المس بالكرامة الإنسانية، و خلق نوع من التمييز بين أفراد الأسرة البشرية، وهي أسباب تحول دون ممارسة الحق في التقاضي للمدعي والمدعى عليه على حد سواء.
3: جوانب القصور في توظيف مفهوم التمييز.
بعد البسط الموجز لمفهوم التمييز في الدستور والمعايير الدولية لحقوق الانسان، والذي يتضح بأنه لا يمت بأي صلة للتمييز المعبر عنه في بعض الآراء، لا بأس أن نتساءل أين يتجلى التمييز في المقتضيات المنظمة لممارسة الحق في الاستئناف مثلا، وما هو أساس التمييز في ممارسة هذا الحق؟
إن مفهوم التمييز المحظور، وفق ما بيناه أعلاه، ينصرف إلى أن التمتع بالحق لا يكون إلا على أساس تمييزي سلبي يكون الهدف منه بالأساس ممارسة نوع من التمييز تجاه بعض مكونات المجتمع، كاللون أو الجنس، أو الدين، أو الأصل القومي...، وهو الأمر الذي لا يوجد ضمن مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، التي لا تقييم أي تمييز وفق ذلك المعنى، ذلك أن المدعي يمكن أن يكون مدعى عليه في نفس نوع القضية فأين هو التمييز المحظور دستوريا؟
ورفعا للبس الحاصل، والغلط الواقع في استعمال المفاهيم في غير محلها، من المهم التذكير بأن التشريعات الوطنية والمقارنة، تقر في العديد من المقتضيات تمييزا معينا بين المراكز التي تنظمها، بناء على أسس موضوعية، والتي لا تؤدي إلى مخالفة المبادئ الدستورية، والمعايير الدولية لحقوق الانسان. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة على سبيل المثال، لا الحصر، أن القانون التنظيمي للأحزاب السياسية، نص في مادته الرابعة على بطلان تأسيس حزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي أو بصفة عامة، على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الانسان. وتجسيدا لمبدأ المساواة، خول القانون المذكور، في المادة 19، لكل المواطنات والمواطنين البالغين سن 18 سنة شمسية كاملة، الحق في الانخراط بكل في حرية في أي حزب سياسي مؤسس بصفة قانونية، إلا أنه استثنى في المادة 23 منه، بعض الفئات من الحق في تأسيس الأحزاب السياسية أو الانخراط فيها.
وتطبيقا للفصل 132 من الدستور الذي ينص على فقرته الثانية على أنه " ...تحال إلى المحكمة الدستورية القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في تطبيقها، لتبت في مطابقتها للدستور..."، تمت إحالة القانون التنظيمي المذكور على المجلس الدستوري، (المحكمة الدستورية حاليا) فلم يصرح في قراره رقم، 11/818 الصادر بتاريخ 20 أكتوبر 2011، م.د في الملف عدد 11/1172 بعدم مطابقة المواد المذكورة للدستور أو مخالفته، وهو ما يؤكد انسجام توجه القضاء الدستوري المغربي مع المعايير الدولية لحقوق الانسان في تحديد معنى التمييز المحظور دستوريا.
وفضلا عن ذلك، فإن الدستور نفسه، ينص في عدد من فصوله على إمكانية اتخاذ تدابير تمييزية لفائدة فئات عمرية، أو مكونات مجتمعية، مثل ما نص عليه في الفصل 17، المتعلق بمشاركة المغاربة المقيمين بالخارج في الانتخابات، الذي جاء فيه، "...يحدد القانون المعايير الخاصة بالأهلية للانتخاب وحالات التنافي، كما يحدد شروط وكيفيات الممارسة الفعلية لحق التصويت، وحق الترشيح انطلاقا من بلدان الإقامة...". وكذا ما نص عليه في الفصل 33 الذي جاء فيه، أنه على السلطات العامة اتخاذ تدابير خاصة لفائدة الشباب، فضلا عما جاء في الفصل 34 الذي نص على أنه، " تقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة...".
ويبقى للمحكمة الدستورية متى عرض عليه الأمر وفقا لمقتضيات الفصل 132 من الدستور أعلاه، أن تقول كلمتها في الموضوع المرتبط بالتمييز، أو غيره من المواد أو الفصول التي قد تثير نقاش حول مدى مطابقتها للدستور وإن لم تكن موضوع طعن ولم ترد في مذكرة الطعن ، فإن ذلك لا يقيد المحكمة في رقابتها خاصة وأنها نصوص متصلة وتمثل نسقا عاما وليس في الدستور أو القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية أو النظام الداخلي ما يمنعها من ذلك.
في حين أن إمكانية الطعن وفق مقتضيات المادة 133 من الدستور الممنوحة للمتقاضين أو المحامين فإن المحكمة الدستورية تختص بكل دفع يقوم به أحد الأطراف متى كان له نزاع قضائي غير أنه يقيد المحكمة في رقابة مدى مساس مقتضيات المادة أو المقتضى القانوني المطعون فيه بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور ولا يبسط يد المحكمة لمراقبة باقي المواد الأخرى التي لم يطلها الطعن.
ثالثا: النقاش القانوني بخصوص مدى دستورية وقانونية طلب رأي مجلس المنافسة في المهن القانونية الحرة.
من المستغرب أن يواجه الموقف المتعلق بإحالة مشروع قانون المسطرة المدنية على مؤسسة دستورية لتقديم استشارتها، بنوع من الاعتراض، انطلاقا من قناعات شخصية أو مهنية، بعيدة عن روح الدستور وفلسفته القائمة على تشجيع الممارسات الدستورية، التي من شأنها تعزيز قيم الحكامة والانصاف، وتقوية دور المؤسسات في ممارسة أدوارها الدستورية.
إذ أن رفض الاعتراض على إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية بدعوى عدم اختصاص مجلس المنافسة، لتقديم الاستشارات بخصوص المهن القانونية الحرة، ومنها مهنة المحاماة، وحصر مجال اختصاصه في حالة التركيز الاقتصادي وحرية الأسعار، يتعارض بشكل صريح مع ما نصت عليه مقتضيات المادة الثانية من القانون رقم 13-20، المتعلق بمجلس المنافسة، التي خولت بوضوح تام، للمجلس صلاحيات استشارية هامة إلى جانب سلطته التقريرية في ميدان محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي، كما هي معرفة في القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، إذ نصت المادة المذكورة في فقرتها الثانية، على أن المجلس يكلف بإبداء رأيه بشأن طلبات الاستشارة، كما هو منصوص عليه في هذا القانون والقانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وإصدار دراسات بشأن المناخ العام للمنافسة، قطاعيا ووطنيا.
وقد أكد مجلس المنافسة على هذا الاختصاص بشكل صريح في عدد من قراراته وآرائه، ومنها ما جاء في حيثيات رأيه الصادر عنه تحت عدد ر/3/2019 وتاريخ 26 دجنبر 2019، حول مشروع المرسوم رقم 2.17.481 المتعلق بتحديد مبلغ أتعاب الموثقين وطريقة استيفائها ما يلي:
" ...إن مهنة التوثيق مهنة خاضعة لمنطق السوق في إطار المنافسة الحرة والشريفة، وذلك وفقا لما جاءت به المادة الأولى من القانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، والتي تنص على أن "التوثيق مهنة حرة تمارس وفق الشروط وحسب الاختصاصات المقررة في هذا القانون..."، مؤكدا على: "...خضوع مهنة التوثيق لمنطق السوق شأنها في ذلك شأن باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى، بل وباقي المهن الحرة المقننة كالمحامين، والأطباء، والمهندسين...".
وفضلا عن ذلك، فقد نصت المادة الخامسة، على أنه: "...يدلي المجلس برأيه بطلب من الحكومة في كل مسألة متعلق بالمنافسة...".
فالملاحظ أن هذه المادة لم تقيد اختصاص مجلس المنافسة في إبداء رأيه في نوع معين من المنافسة، وبالتالي فإن القول بعدم اختصاصه في إبداء رأيه حول المهن القانونية الحرة، يعتبر تقييدا غير مبرر من الناحية القانونية، فضلا عن كونه يتعارض مع الهدف من إحداث هذه المؤسسة الدستورية الذي يكمن في تنظيم المنافسة الحرة وضمان الشفافية، ومحاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة، كما يتعارض أيضا مع ما استقر عليه عمل مجلس المنافسة نفسه. بل أكثر من ذلك، يمكن التساؤل، هل ممارسة مهنة المحاماة وغيرها من المهن القانونية الحرة تخلو من المنافسة؟
وفضلا عما تقدم، فقد نصت المادة السابعة من نفس القانون، على أن المجلس يستشار وجوبا من طرف الحكومة في مشاريع النصوص التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بإحداث نظام جديد أو بتغيير نظام قائم يهدف مباشرة إلى: فرض قيود كمية على ممارسة مهنة أو الدخول إلى سوق، أو إقامة احتكارات أو حقوق استئثارية أو خاصة أخرى في التراب المغربي.
من الواضح إذن، أن المهن القانونية الحرة، بما فيها مهنة المحاماة، تخضع في ممارسة أنشطتها لمنطق المنافسة الحرة والشريفة، الذي يتنافى ومنطق الاحتكار أو الاستئثار، وهو ما يخول لمجلس المنافسة، وفق ما بيناه أعلاه، الحق في إبداء آرائه الاستشارية بخصوص بعض المقتضيات القانونية المنظمة لممارسة هذه المهن، وفقا للمساطر القانونية الجاري بها العمل.
وعموما، تبقى مبادرة الإحالة على مجلس المنافسة، من أي جهة مختصة قانونيا، من الممارسات الدستورية التي لا تحتاج إلى النقد بقدر ما تحتاج إلى التثمين، لا سيما أن تقوية دور المؤسسات الدستورية لا يمكن أن يكون إلا في مصلحة الوطن والمواطن وعموم المرتفقين، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على أهمية تعزيز دور المحكمة الدستورية في مراقبة القوانين العادية أيضا، وذلك من أجل تكريس الرقابة الدستورية على القوانين التي تثير نقاشا مجتمعيا.
مشروع قانون المسطرة المدنية والحاجة إلى النقد البناء
بقلم الأستاذ عبد اللطيف وهبي
وزير العدل
إذا كان من السهل، في إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة للجميع، والحوار الفكري المحمود، الاستمرار في انتقاد مشروع قانون المسطرة المدنية، وهو أمر إيجابي للإشارة، بالنظر لما ينتج عن النقاش القانوني عموما من آراء تغني وتجود المقتضى القانوني موضوع النقاش، فإن المطالبة، بناء على اعتبارات مهنية ودون موجب سليم، بسحب مشروع قانون المسطرة المدنية من البرلمان رغم المصادقة عليه من طرف ممثلي الأمة بمجلس النواب، والاعتراض على إحالته على مجلس المنافسة لإبداء رأيها الاستشاري في بعض مقتضياته، يستوجب أن يتحلى الجميع بالمسؤولية العلمية لتقديم قراءات جادة للمقتضيات الدستورية والقانونية موضوع النقاش، والتقيد بما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وما جاء في الصكوك الدولية، التي تحدد بشكل واضح عددا من المفاهيم المتصلة بالعدالة، وحقوق الانسان عموما، كالمساواة، والتمييز، بالنظر إلى أن الاحتجاج بعدم احترام هذه المفاهيم، لا يمكن أن يكون خارج ما هو مقرر في الوثيقة الدستورية، وفي قرارات القضاء الدستوري، وفي غيرها من الوثائق الأممية التي يكتسي الكثير منها طابع الإلزام، باعتبارها الإطار المعياري الأممي المتوافق عليه من طرف المجتمع الدولي.
ولا يخفى أن حرصنا على مواكبة هذا النقاش، والتفاعل معه بكل جدية ومسؤولية، ما هو إلا تجسيد لأهمية الحوار الفكري البناء، وتعزيز للنقاش المجتمعي الذي يكون مؤطرا بالدستور والقانون، وتكون غايته الأساسية، مقارعة الآراء والحجج بناء على أسس علمية، بغية الوصول إلى هدف أسمى، هو تجويد النص التشريعي بما يحقق المصلحة العامة، ويعزز حقوق المواطن وعموم المرتفقين على قدم المساواة، في ظل دولة المؤسسات.
والأكيد أن الآراء المعبر عنها بهذا الشأن، بتعدد مصادرها وتنوع زوايا مقارباتها واختلاف قيمتها القانونية وترتيب أولوياتها تخلق مجالا خصبا لنهل الأفكار وتقاسم التجارب والممارسات الفضلى، غير أن هذا النقاش لا يعد، في أي حال من الأحوال، بديلا عن اختصاصات المحكمة الدستورية في مراقبة مدى مطابقة القانون للدستور، ولا مصادرا لحقها في ممارسة اختصاصاتها المخولة لها بموجب الدستور، وهي الممارسة التي أصبحت جزءا من المشهد التشريعي ببلادنا، وهو ما يعتبر انتصارا لقيم الديموقراطية وضمانة لحماية الحقوق والحريات والدفاع عن الدستور، وترسيخا لحكم القانون، وهو على كل حال، نقاش ينسجم مع ما ذهب إليه بعض الفقه، عندما اعتبر أن المحكمة الدستورية يجب ألا تكتفي بإعلان الحقيقة حول معاني الدستور فقط، ولكن يتعين عليها أن تجعل القانون أيضا، "حقيقة حية" تمتثل إليها المؤسسات والهيئات والمواطنين والمجتمع برمته وتحرك ممارساتهم الاجتماعية.
إن استمرار بعض الأحكام المسبقة المتداولة أخيرا حول خرق مشروع قانون المسطرة المدنية لبعض مبادئ حقوق الانسان ، لا يمكن بأي حال، أن يسهم في تقديم قراءة علمية موضوعية لبسط وجهات النظر، وفقا للإطار المعياري المسلم به في القانون الدولي لحقوق الانسان ، مما يفقد هذه الأحكام أهميتها العلمية، إذ أن الاحتجاج بخرق مبادئ متعارف عليها عالميا، لا يكون مقنعا إلا بالانضباط للمفاهيم المقررة في هذه الوثائق وفي مختلف الاجتهادات القضائية والفقهية، وهو الأمر الذي لم يهتدى إليه في عدد من الكتابات والآراء المعبر عنها أخيرا في هذا الصدد.
بل إن منها من ذهب إلى القول إن المغرب ليس في حاجة إلى قانون جديد، وأن قانون المسطرة المدنية الصادر سنة 1974 كان كافيا رغم مرور ما يناهز نصف قرن على إصداره، مفضلين إبقاء الأمر على ما كان عليه، والركون إلى ملائمة المتغير والمستجد باعتماد التفسير والتأويل، والسعي من منظور ضيق إلى اعتماد منهج التوجيه بالغاية بدل التوجيه والتأطير بالنص التشريعي المعتمد ديموقراطيا في إطار دولة المؤسسات والسلط المستقلة، في محاولة لفرض تفسيرات خاصة للحقوق الدستورية، لا يمكن اعتمادها دعامة لمشاريع تشريعية حكيمة لافتقارها إلى التأصيل السليم، والتسبيب المقنع والموضوعية في التحليل التي تستحضر مصالح جميع المتدخلين والمعنيين بسير مرفق العدالة.
إن وصف عمل الهيئات التي أشرفت على إعداد مشروع قانون المسطرة المدنية، على اختلاف مشاربها، بكونه مجرد مبادرة تشريعية من حكومة مطمئنة لأغلبيتها داخل البرلمان لتكريس "التغول التشريعي"، هو قول يتناقض مع قيم المجتمع الديموقراطي، الذي يحتكم إلى الدستور، والذي تكون فيه المبادرة التشريعية فضيلة، وممارسة المؤسسات والسلطات لاختصاصاتها الدستورية نجاح للديمقراطية.
إن قيام السلطة التنفيذية بإنتاج مشاريع قوانين تعبير صريح عن حيوتها وتحملها للمسؤولية والاستعداد للدفاع عن قناعاتها في إطار الملائمة التي يمنحها إياها الدستور ، ولا تخضع في إطاره لمراقبة المحكمة الدستورية لأنه مجال يرتبط بالسياسة التشريعية التي تملك فيه السلطة التنفيدية كامل الحرية لأنه مجال سياسي.
ومن منطلق الوعي بأهمية مواصلة الانخراط في النقاش العمومي المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية ، وحرصا على تنوير الرأي العام ، فقد ارتأينا أن نستمر وفق نفس المنهج القائم على الحوار، في التفاعل مع الآراء المعبر عنها بهذا الخصوص، وذلك من خلال الوقوف مرة أخرى، على بعض ما حملته من توجهات، من أجل قراءتها قراءة هادئة في ضوء الدستور، والمعايير الدولية لحقوق الانسان، علما أن مجموع النصوص موضوع النقد، في الكتابات والآراء المعبر عنها في هذا السياق، يمكن اختزالها في عشرة مواد من مجموع مواد المشروع التي تصل إلى 644 مادة.
والتزاما بكل ما تقدم، فقد ارتأينا الحديث (أولا)، عن مفهوم السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستوري، ونطاق هذه السلطة، وذلك من أجل المساعدة على تقريب بعض المفاهيم المتعلقة بحدود السلطة التقديرية للبرلمان، بغية رفع اللبس الحاصل في معاني عدم الدستورية، على أن نقف (ثانيا)، على تحديد مفهوم التمييز وفق الدستور والمعايير الدولية لحقوق الانسان، لنبرز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم، للقول بعدم دستورية بعض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، على أن نخلص (ثالثا) إلى التفاعل مع النقاش المثار بخصوص مدى دستورية وقانونية طلب رأي مجلس المنافسة في بعض النصوص المتعلقة بموضوع ممارسة المهن القانونية الحرة.
أولا: السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستور ي(الملائمة).
إن مفهوم السلطة التقديرية للبرلمان يستند في فقه القانون العام، من جهة أولى، على طبيعة وظيفة السلطة التشريعية، التي تتطلب مساحة من حرية التقدير التي تمكنها من مواجهة ما يعرض عليها من أمور وقضايا، تحتاج إلى تدخلها. كما يستند، من جهة ثانية، على طبيعة حركة الحياة التي تتطور بصفة دائمة، وتفرض إقرار قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، التي تستوجب تدخل المشرع بصفته صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع، دون المس بالحقوق والحريات الأساسية المضمونة دستوريا، وبالتالي، لا بد من الاعتراف له بجانب من حرية التقدير، التي تعرف بالسلطة التقديرية للمشرع أو الملائمة، وفقا للمبادئ المستقر عليها في القضاء الدستوري.
إن هذا المفهوم دفع الفقه إلى استبعاد تفسير النص الدستوري باعتباره وثيقة ثابتة في اللفظ والمعنى، ودعا بدلا عن ذلك، إلى النظر إلى الدستور بما يحويه من قيم ثابتة يجب أن تطبق بمرونة على الظروف المتغيرة دوما، فممارسة الحق في الولوج إلى القضاء، كقيمة ثابتة، لا يمكن أن ينظر إليه بالصورة التي كانت تمارس بها خلال سنة 1913 في ظل أول قانون للمسطرة المدنية أو سنة 1974 بمناسبة تعديل قانون المسطرة المدنية، بل يتعين النظر إلى هذا المقتضى الدستوري باستحضار كيفية تطبيق القيم الكامنة خلف النص الدستوري اليوم، في ظروف اختلفت كثيرا عن سنوات 1913 و1974، وربما لم تكن في حسبان المشرع الدستوري عند وضعه للدستور، فمن كان يتصور آثار الثورة الرقمية في مجمل المجالات بما فيها مجال القانون والعدالة.
ولا شك أن مسؤولية المحكمة الدستورية تكمن في قدرتها على الاستدلال على احترام القانون للقيم الثابتة المتضمنة في الدستور في ظل الظروف المتغيرة بالاستناد إلى معياري القيم والتناسب. والذكاء المنشود للسلطة التنفيذية صاحبة المبادرة التشريعية، يكمن في تحقيق الملائمة بين القيم الدستورية الثابتة والاحتياجات التشريعية المتغيرة، في إطار مهامها بتدبير الشأن العام، على اعتبار أن مجال الملائمة التشريعية يبقى مجالا خاصا وحصريا للسلطة التنفيذية وهو ما سيساعد من جهة أولى، على جعل القانون، يحقق على نحو أفضل الأهداف الموضوعية للدستور، ومن جهة أخرى، على خلق تشريعات ديموقراطية قادرة على العمل في احترام كامل للحقوق والحريات، وضمان دولة المؤسسات.
وقد أكد القضاء الدستوري على أهمية السلطة التقديرية للمشرع في عدد من قراراته، والتي من بينها، القرار رقم 11/817، الصادر عن المجلس الدستوري بتاريخ 13 أكتوبر 2011، الذي جاء فيه ما يلي، "وحيث إنه ليس من صلاحيات المجلس الدستوري التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع في اختيار نوعية التدابير التشريعية التي يرتضيها سبيلا لبلوغ أهداف مقررة في الدستور طالما أن ذلك لا يخالف أحكام هذا الأخير...".
وهو نفس التوجه الذي أكدته المحكمة الدستورية العليا المصرية، إذ جاء في قرارها الصادر بتاريخ 02/01/2011، في القضية رقم (5) ما يلي: " ...ذلك أن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، وذلك ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط محددة تحد من إطلاقها...".
فالسلطة التقديرية للمشرع، تقوم على عدة مبادئ من بينها، مبدأ عدم امتداد رقابة القضاء الدستوري إلى بواعث القانون، وهذا المبدأ استقر عليه قضاء المحكمة العليا الأمريكية منذ حكمها الصادر عام 1810 في قضية،)فلشر ضد بك v. Peck Fletchre (، إذ أكدت في عدد من أحكامها، أنه إذا كان القانون مستوفيا لكافة الشروط والأشكال القانونية، فإن المحكمة لا تستطيع أن تؤيد أحد الخصوم في طعنه بعدم دستوريته، بحجة أن القانون صدر عن بواعث غير شريفة أثرت في بعض أعضاء السلطة التشريعية التي سنت القانون.
ذلك أنه إذا كان القانون في ظاهره، وكما يتضح من نصوصه غير متعارض مع الدستور، ويدخل في السلطات التي يسمح لسلطة التشريع بممارستها، فإنه لا يمكن للقضاء الدستوري، وفق لهذا المبدأ، البحث عما وراء النصوص من بواعث مشروعة أو غير مشروعة، تكون قد دفعت السلطة التشريعية إلى إقرار هذا القانون.
وفضلا عن ذلك، فإن تقدير الحاجة إلى القانون ومدى ضرورته يدخل في اختصاص السلطة التشريعية وحدها بوصفها عنصرا من عناصر السياسة التشريعية التي لا يمكن للمحاكم الدستورية التدخل فيها، وقد أكد القاضي هولمز عن هذا المبدأ في قضية لوتشنر ضد نيويورك عام 1905، بقوله، " إن القانون قد يكون ملائما أو غير ملائم، ولكن كل هذا ليس لنا شأن به طالما أنه يصدر في حدود الدستور".
لقد استقرت المحكمة العليا الأمريكية، على أن تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، معتبرة أنه إذا كان ظاهر القانون يدخل ضمن السلطات التي يسمح بها الدستور للسلطة التشريعية، فإنه لا يمكن لها التنقيب والبحث في مدى ملائمته وفق ما عبر عنه القاضي هولمز.
إن القضاء الدستوري، كان حاسما في عدد من قراراته التي لا يتسع المجال للاستشهاد بها، في منح المشرع مساحة هامة لممارسة سلطته التقديرية، حتى يتمكن من الاضطلاع بدوره الأصيل في التشريع، وإقرار التدابير التي يراها مناسبة لتنزيل الحقوق الواردة في الدستور، وتنظيم المجالات التي يختص بها، وتحديد اختياراته التشريعية التي لا رقابة للقضاء الدستوري عليها، إلا ما كان مخالفا لصريح الدستور، ومصادرا للحقوق والحريات التي يضمنها، وذلك وفق المقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة لاختصاصه في البت في مدى مطابقة القوانين للدستور، علما أن قراراته نهائية ولا تعقيب عليها، وفي هذا السياق، نستحضر ما قاله الفقيه روبرت جاكسون عندما علق على وصف نهائية أحكام المحكمة الدستورية بالقول " إن المحكمة ليست نهائية لأنها لا تخطئ بل هي " لا تخطئ" فقط لأنها نهائية" وقضاتها معصومون من الخطأ فقط بقدر ما تكون كلمتهم نهائية".
وتكمن أهمية الضمانة الأساسية لقضاة المحكمة الدستورية أيضا، في كونهم ليسوا بالضرورة سياسيين فهم بالدرجة الأولى خبراء متخصصون وملمون بالقانون، ذلك أنهم إذا ركنوا في تقديرهم لبناء أحكامهم على المنظور السياسي فيمكن لوجهات نظرهم أن تنقلب لتصبح خاطئة بشكل كامل لكون المتحكم الأساسي في العمل السياسي هو متحول بطبيعته.
ثانيا: تحديد مفهوم التمييز في الدستور والمعايير الدولية لحقوق الانسان، وإبراز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم.
إن الآراء المعبر عنها بخصوص خرق مبدأ المساواة، وإقرار نوع من التمييز في مشروع قانون المسطرة المدنية، بين المواطنين على أساس المال، وبين المواطن والإدارة، وبين الجهات، يظهر حجم اللبس الذي وقع فيه أصحاب هذه الآراء في تحديد معاني التمييز الواردة في الدستور، وفي القانون الدولي لحقوق الانسان.
ولمناقشة مفهوم التمييز وعلاقته بتحقيق مبدأ المساواة، لا بد من الوقوف بداية على المقتضيات الدستورية التي تناولته، من جهة أولى، وتحديد مفهومه وفق المعايير الدولية لحقوق الانسان، من جهة ثانية، على أن نقف من جهة ثالثة لإبراز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم.
1– مفهوم التمييز وفق الدستور:
أكد دستور المملكة المغربية في عدد من مقتضياته على مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز، إذ نص في ديباجته، على التزام المملكة المغربية بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون، أو المعتقد، أو الثقافة، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان...".
كما نص في الفقرة الأولى من الفصل 6 منه على أن، " القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين، أو اعتباريين، بمن فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له...".
وللتأكيد على عزم المملكة المغربية على القضاء على كل صور التمييز نصت الفقرة الأخيرة من الفصل 19 من الدستور، على إحداث هيئة للمناصفة، ومكافحة كل أشكال التمييز، وحدد مهامها في الفصل 164 منه، في السهر على احترام الحقوق والحريات المنصوص عليها في الفصل المذكور.
وإذا كان حظر جميع أشكال التمييز هو الذي يكفل تحقيق مبدأ المساواة باعتبارهما عنصران مترابطان، فإن التساؤل المطروح، ما هي أشكال التمييز المحظورة دستوريا؟
لقد أكد القضاء الدستوري في عدد من قراراته على أن مبدأ المساواة لا يقيد المشرع، اعتمادا على أسس موضوعية، في إقرار تمييز معين بين المراكز التي ينظمها، وفي هذا الصدد أكدت المحكمة الدستورية العليا المصرية في حكمها الصادر في القضية رقم 36، للسنة القضائية السابعة عشرة بتاريخ 2 يناير 1999، على ما يلي:
"...إن مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، ليس مبدأ تلقينيا جامدا منافيا للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها...".
وقد سبق لمحكمة التحكيم البلجيكية أن أكدت نفس التوجه في قرارها الصادر تحت رقم 1366/1992، الذي جاء فيه:
"...إن القواعد الدستورية المتعلقة بمساواة البلجيكيين، وعدم التمييز بينهم لا تستبعد إمكانية إرساء معاملة مختلفة لفئات معينة بين المتقاضين...".
فانطلاقا مما تقدم، يتضح أن مفهوم التمييز المنصوص عليه في الدستور، لا يمكنه أن يقيد من السلطة التقديرية للمشرع لإقرار اختيارات تشريعية تتلاءم مع الحاجيات العملية، التي تفرض سن قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، والتي قد تترتب عنها إرساء معاملة مختلفة لفئات معينة من المتقاضين.
2– مفهوم التمييز وفق المعايير الدولية لحقوق الانسان.
إذا كان من المعلوم، أن كل الصكوك الدولية لحقوق الانسان، أجمعت على مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز، فإن الكتابات والآراء المعبر عنها في سياق النقاش العمومي المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية بخصوص احتواء المشروع على عدد من المقتضيات التمييزية، لا تمت بصلة للمعايير الدولية لحقوق الانسان، المحددة لمفهوم التمييز الوارد في الدستور، ذلك أنه بالرجوع إلى الشروحات التي أوردتها عدد من الآليات الأممية لحقوق الانسان ،في إطار دورها المتعلق بتفسير مواد الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، يتضح بشكل واضح، حجم اللبس الحاصل، و في هذا الصدد يمكن التذكير على سبيل المثال، لا الحصر، بالتعليق العام رقم 20 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ماي 2009، والتي أكدت من خلاله، أن التمييز يتمثل في أي تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل، أو غير ذلك من أوجه المعاملة التفاضلية المبنية بشكل مباشر أو غير مباشر على أسباب تمييز محظورة، بقصد إبطال أو إضعاف الإقرار بالحقوق أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة، أو بما يؤدي إلى ذلك ويشمل التمييز أيضاً التحريض على التمييز والمضايقة.
فالملاحظ من خلال التعليق العام المذكور، وغيره من التعليقات الكثيرة الواردة في هذا الصدد، أن أساس التمييز، يقوم على التفاضل المبني على أسباب محظورة، كالأسباب المشار إليها في دستور المملكة، مثل اللون، أو الجنس، أو المعتقد، أو الثقافة، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان...، والتي تحول دون تمتع الشخص بحقوقه في جميع الحالات، لتلك الأسباب وغيرها من أشكال التمييز المحظورة، والتي يكون جوهرها المس بالكرامة الإنسانية، و خلق نوع من التمييز بين أفراد الأسرة البشرية، وهي أسباب تحول دون ممارسة الحق في التقاضي للمدعي والمدعى عليه على حد سواء.
3: جوانب القصور في توظيف مفهوم التمييز.
بعد البسط الموجز لمفهوم التمييز في الدستور والمعايير الدولية لحقوق الانسان، والذي يتضح بأنه لا يمت بأي صلة للتمييز المعبر عنه في بعض الآراء، لا بأس أن نتساءل أين يتجلى التمييز في المقتضيات المنظمة لممارسة الحق في الاستئناف مثلا، وما هو أساس التمييز في ممارسة هذا الحق؟
إن مفهوم التمييز المحظور، وفق ما بيناه أعلاه، ينصرف إلى أن التمتع بالحق لا يكون إلا على أساس تمييزي سلبي يكون الهدف منه بالأساس ممارسة نوع من التمييز تجاه بعض مكونات المجتمع، كاللون أو الجنس، أو الدين، أو الأصل القومي...، وهو الأمر الذي لا يوجد ضمن مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، التي لا تقييم أي تمييز وفق ذلك المعنى، ذلك أن المدعي يمكن أن يكون مدعى عليه في نفس نوع القضية فأين هو التمييز المحظور دستوريا؟
ورفعا للبس الحاصل، والغلط الواقع في استعمال المفاهيم في غير محلها، من المهم التذكير بأن التشريعات الوطنية والمقارنة، تقر في العديد من المقتضيات تمييزا معينا بين المراكز التي تنظمها، بناء على أسس موضوعية، والتي لا تؤدي إلى مخالفة المبادئ الدستورية، والمعايير الدولية لحقوق الانسان. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة على سبيل المثال، لا الحصر، أن القانون التنظيمي للأحزاب السياسية، نص في مادته الرابعة على بطلان تأسيس حزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي أو بصفة عامة، على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الانسان. وتجسيدا لمبدأ المساواة، خول القانون المذكور، في المادة 19، لكل المواطنات والمواطنين البالغين سن 18 سنة شمسية كاملة، الحق في الانخراط بكل في حرية في أي حزب سياسي مؤسس بصفة قانونية، إلا أنه استثنى في المادة 23 منه، بعض الفئات من الحق في تأسيس الأحزاب السياسية أو الانخراط فيها.
وتطبيقا للفصل 132 من الدستور الذي ينص على فقرته الثانية على أنه " ...تحال إلى المحكمة الدستورية القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في تطبيقها، لتبت في مطابقتها للدستور..."، تمت إحالة القانون التنظيمي المذكور على المجلس الدستوري، (المحكمة الدستورية حاليا) فلم يصرح في قراره رقم، 11/818 الصادر بتاريخ 20 أكتوبر 2011، م.د في الملف عدد 11/1172 بعدم مطابقة المواد المذكورة للدستور أو مخالفته، وهو ما يؤكد انسجام توجه القضاء الدستوري المغربي مع المعايير الدولية لحقوق الانسان في تحديد معنى التمييز المحظور دستوريا.
وفضلا عن ذلك، فإن الدستور نفسه، ينص في عدد من فصوله على إمكانية اتخاذ تدابير تمييزية لفائدة فئات عمرية، أو مكونات مجتمعية، مثل ما نص عليه في الفصل 17، المتعلق بمشاركة المغاربة المقيمين بالخارج في الانتخابات، الذي جاء فيه، "...يحدد القانون المعايير الخاصة بالأهلية للانتخاب وحالات التنافي، كما يحدد شروط وكيفيات الممارسة الفعلية لحق التصويت، وحق الترشيح انطلاقا من بلدان الإقامة...". وكذا ما نص عليه في الفصل 33 الذي جاء فيه، أنه على السلطات العامة اتخاذ تدابير خاصة لفائدة الشباب، فضلا عما جاء في الفصل 34 الذي نص على أنه، " تقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة...".
ويبقى للمحكمة الدستورية متى عرض عليه الأمر وفقا لمقتضيات الفصل 132 من الدستور أعلاه، أن تقول كلمتها في الموضوع المرتبط بالتمييز، أو غيره من المواد أو الفصول التي قد تثير نقاش حول مدى مطابقتها للدستور وإن لم تكن موضوع طعن ولم ترد في مذكرة الطعن ، فإن ذلك لا يقيد المحكمة في رقابتها خاصة وأنها نصوص متصلة وتمثل نسقا عاما وليس في الدستور أو القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية أو النظام الداخلي ما يمنعها من ذلك.
في حين أن إمكانية الطعن وفق مقتضيات المادة 133 من الدستور الممنوحة للمتقاضين أو المحامين فإن المحكمة الدستورية تختص بكل دفع يقوم به أحد الأطراف متى كان له نزاع قضائي غير أنه يقيد المحكمة في رقابة مدى مساس مقتضيات المادة أو المقتضى القانوني المطعون فيه بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور ولا يبسط يد المحكمة لمراقبة باقي المواد الأخرى التي لم يطلها الطعن.
ثالثا: النقاش القانوني بخصوص مدى دستورية وقانونية طلب رأي مجلس المنافسة في المهن القانونية الحرة.
من المستغرب أن يواجه الموقف المتعلق بإحالة مشروع قانون المسطرة المدنية على مؤسسة دستورية لتقديم استشارتها، بنوع من الاعتراض، انطلاقا من قناعات شخصية أو مهنية، بعيدة عن روح الدستور وفلسفته القائمة على تشجيع الممارسات الدستورية، التي من شأنها تعزيز قيم الحكامة والانصاف، وتقوية دور المؤسسات في ممارسة أدوارها الدستورية.
إذ أن رفض الاعتراض على إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية بدعوى عدم اختصاص مجلس المنافسة، لتقديم الاستشارات بخصوص المهن القانونية الحرة، ومنها مهنة المحاماة، وحصر مجال اختصاصه في حالة التركيز الاقتصادي وحرية الأسعار، يتعارض بشكل صريح مع ما نصت عليه مقتضيات المادة الثانية من القانون رقم 13-20، المتعلق بمجلس المنافسة، التي خولت بوضوح تام، للمجلس صلاحيات استشارية هامة إلى جانب سلطته التقريرية في ميدان محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي، كما هي معرفة في القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، إذ نصت المادة المذكورة في فقرتها الثانية، على أن المجلس يكلف بإبداء رأيه بشأن طلبات الاستشارة، كما هو منصوص عليه في هذا القانون والقانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وإصدار دراسات بشأن المناخ العام للمنافسة، قطاعيا ووطنيا.
وقد أكد مجلس المنافسة على هذا الاختصاص بشكل صريح في عدد من قراراته وآرائه، ومنها ما جاء في حيثيات رأيه الصادر عنه تحت عدد ر/3/2019 وتاريخ 26 دجنبر 2019، حول مشروع المرسوم رقم 2.17.481 المتعلق بتحديد مبلغ أتعاب الموثقين وطريقة استيفائها ما يلي:
" ...إن مهنة التوثيق مهنة خاضعة لمنطق السوق في إطار المنافسة الحرة والشريفة، وذلك وفقا لما جاءت به المادة الأولى من القانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، والتي تنص على أن "التوثيق مهنة حرة تمارس وفق الشروط وحسب الاختصاصات المقررة في هذا القانون..."، مؤكدا على: "...خضوع مهنة التوثيق لمنطق السوق شأنها في ذلك شأن باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى، بل وباقي المهن الحرة المقننة كالمحامين، والأطباء، والمهندسين...".
وفضلا عن ذلك، فقد نصت المادة الخامسة، على أنه: "...يدلي المجلس برأيه بطلب من الحكومة في كل مسألة متعلق بالمنافسة...".
فالملاحظ أن هذه المادة لم تقيد اختصاص مجلس المنافسة في إبداء رأيه في نوع معين من المنافسة، وبالتالي فإن القول بعدم اختصاصه في إبداء رأيه حول المهن القانونية الحرة، يعتبر تقييدا غير مبرر من الناحية القانونية، فضلا عن كونه يتعارض مع الهدف من إحداث هذه المؤسسة الدستورية الذي يكمن في تنظيم المنافسة الحرة وضمان الشفافية، ومحاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة، كما يتعارض أيضا مع ما استقر عليه عمل مجلس المنافسة نفسه. بل أكثر من ذلك، يمكن التساؤل، هل ممارسة مهنة المحاماة وغيرها من المهن القانونية الحرة تخلو من المنافسة؟
وفضلا عما تقدم، فقد نصت المادة السابعة من نفس القانون، على أن المجلس يستشار وجوبا من طرف الحكومة في مشاريع النصوص التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بإحداث نظام جديد أو بتغيير نظام قائم يهدف مباشرة إلى: فرض قيود كمية على ممارسة مهنة أو الدخول إلى سوق، أو إقامة احتكارات أو حقوق استئثارية أو خاصة أخرى في التراب المغربي.
من الواضح إذن، أن المهن القانونية الحرة، بما فيها مهنة المحاماة، تخضع في ممارسة أنشطتها لمنطق المنافسة الحرة والشريفة، الذي يتنافى ومنطق الاحتكار أو الاستئثار، وهو ما يخول لمجلس المنافسة، وفق ما بيناه أعلاه، الحق في إبداء آرائه الاستشارية بخصوص بعض المقتضيات القانونية المنظمة لممارسة هذه المهن، وفقا للمساطر القانونية الجاري بها العمل.
وعموما، تبقى مبادرة الإحالة على مجلس المنافسة، من أي جهة مختصة قانونيا، من الممارسات الدستورية التي لا تحتاج إلى النقد بقدر ما تحتاج إلى التثمين، لا سيما أن تقوية دور المؤسسات الدستورية لا يمكن أن يكون إلا في مصلحة الوطن والمواطن وعموم المرتفقين، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على أهمية تعزيز دور المحكمة الدستورية في مراقبة القوانين العادية أيضا، وذلك من أجل تكريس الرقابة الدستورية على القوانين التي تثير نقاشا مجتمعيا.
بقلم الأستاذ عبد اللطيف وهبي
وزير العدل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.