تروي الحكاية – والعهدة على الراوي – أن ربة بيت، أرادت أن تمسك ابنها بالقرب منها خلال العطلة الصيفية لتحميه من مطبات الشارع ورفقاء السوء، فما كان منها – كي تملأ عليه بعض فراغه – إلا وأن تفتقت عبقريتها عن فكرة انتهت بها إلى أن أخذت تعطيه كل يوم صحنا من العدس وتأمره بتنقيته بإزالة ما علق به من الحصى والشوائب، وكان المسكين يفعل ذلك حتى إذا أنهى مهمته الشاقة، أعادت الأم الحصى والشوائب إلى العدس، فتأمره بإعادة الكرة مرة أخرى، وهكذا دواليك ودواليك، فلا العدس ينقى ولا الولد يرتاح أو يتحرر من عطلة أمه أم العدس، وقد جثمت عليه بمثل هذه اللعبة الثقيلة وبأثقل منها وعلى امتداد 90 يوما والله المستعان. قد يرد المرء مثل هذه الحكاية السمجة، ويتساءل بشأنها العديد من الأسئلة المشروعة والمحيرة، ولكن مجريات الواقع تؤيدها ولا زالت تكشف لنا كل يوم عن العديد من الآباء والأمهات، بل والأسر والمؤسسات تتفتق عبقريتها عن مثل هذه الأفكار والبرامج الصيفية، وهي في حقيقتها لا علاقة لها لا بالتربية ولا بالتكوين فبالأحرى بالعطلة وما تستلزمه من حياة خاصة، أو ما ينبغي أن تعود به هذه البرامج من فوائد متعددة على الفرد وحاجياته وعلى علاقاته بمحيطه والآخرين؟. هل لهذه الأسرة أبناء آخرين بنين وبنات، أم أن هذا الولد وحيدها؟، هل لهم أب يعولهم وله حرفة؟، هل يأكلون العدس كل يوم أم أنهم فقط يتجارون به مع أبناء الحي؟.
قد تكون نوايا الأم في هذه الحكاية طيبة، مثلا، في كون إبقائها ابنها بجانبها إنما تريد حمايته، وما أكثر الأشياء التي ينبغي حماية الأطفال منها ولا يهتم الكثيرون بذلك، أو في كونها تكلفه بتنقية العدس ، إنما لتعلمه مهارة التنقية، كأبسط شيء في متناوله لتدمجه بواسطته في مساعدة البيت وتقوي فيه شعور الانتماء إليه، وأن هذا الانتماء يستوجب تقديم أي شيء من طرف الجميع، و أكيد، أن ذلك سيمكنها من زرع الثقة في نفسية الطفل عندما يحس عبر عمله هذا أن لديه شيئا/خدمة يقدمها للبيت، ما سيجعله يفتخر بذلك، ومن يدري، ربما كان واجب الطفولة المضني هذا، نواة لاكتساب الابن فكرة مشروع مستقبلي في مطعمة العدس أو حتى التجارة فيه؟.
غير أنه مهما كانت نوايا الأم طيبة، ومهما كانت لعبتها مع ابنها من قبيل الأشياء التي لا يتعلمها المرء إلا في البيت المربي والبيت المنتج، فإنها ولا شك مدخل غير واعي لعلاقة مدمرة بين الابن وأمه، أخطر مظاهره فقدان الثقة في الولد، تقييد حركته ونفي اختياره، إهانته بإعادة الشوائب في العدس وتحطيم عمله ومعنوياته وهدر جهده، مما سيزرع فيه قبول الإهانة من الآخرين، والخوف منهم وعدم الرد على آرائهم واختياراتهم مهما كانت به مضرة؟. إنه سيحتاج دائما في حياته إلى غيره، ذلك أن أمه قد حبسته بجانبها ولم ترسخ فيه القيم الإيجابية وتتركه يعش طفولته مع أقرانه من الأطفال يعاركهم ويعاركونه، ويدفعونه للتفكير والتقرير كما إليهما قد دفعهم؟.
ما أكثر أمهات "العداديس" وآباء "البطاطيس" وعطل اللاعطل، فمن لا يمنحك غير تجزية الصيف مع تنقية "العداديس" وقلي "البطاطيس" أو أي عمل في أي ورشة للأعمال الشاقة، ومن لا يتيح لك غير تجزيته في "كارطونات الديطاي" وعربات "الهندية وبولو .. وميكا درهم"، ومن لا يرحمك من أن تنام وتستيقظ على الرسومات المتحركة ومدبلجات كل شعوب العالم على الهواتف والحواسيب واللوحات والشاشات، ومن لا يبالي بك تقضي الأيام كلها في الشارع مع من كان، ولا يبالي بك أديت عباداتك أم تركتها، انسجمت معها أخلاقك أم ناقضتها؟، ومن يلزمك طوال الصيف بمراجعة المقررات الدراسية السابقة منها أو اللاحقة وكأن الدراسة عنده لازالت مستمرة وبإيقاعها القصوي؟، ومن لا يجوب بك غير شوارع المدينة صعودا ونزولا وإذا قعد بك ففي المقاهي والطرقات ولا يؤدء حقها؟. ومن.. ومن.. ومن..، فكل ذلك من سغب عطلة اللاعطلة؟.
عطلة اللاعطلة هذه، قد تطال حتى العديد من الهيئات والمؤسسات والشركات، فحين لا تمنح بعض هذه الشركات لبعض مستخدميها ولا يوم عطلة، أو عطلة بدون تعويض، اللهم ما قد يكون من تعويضهم هم أنفسهم في مناصبهم ورواتبهم؟، حين تأكل بعض المؤسسات بنهم من عطلة الموظفين من ثلاثة أشهر إلى شهرين إلى شهر واحد، وهو لا يكفي حتى للبحث عن بعض ملابس العطلة الصيفية أو بعض الملابس الجديدة والضرورية لاستئناف العمل في الموسم الجديد، فما بالك بإزالة المتراكم من توترات وضغوطات العمل التي من أجلها شرعت العطل؟. عندما نجد جمعية في مخيماتها لا تستطيع تغطية أكثر من 12 يوما من عطلة الطفل الممتدة على طول 12 أسبوعا، وسرعان ما تعيده بعدها إلى هول الفراغ بلا هوادة؟، وعندما تجد بعض القطاعات الوزارية لا ترسل أساتذتها للاستمتاع بالعطلة إلا من جدران أقسام البئر القديم إلى جدران أقسام البئر الجديد، أو الحجز المسبق في إقامات محنطة لا زالت تحسبها منتجعات رائعة بما لا تكفيها خلال إجازة الأسبوع والأسبوعين حوالة السنة والسنتين، فهل هذه عطلة إم إيداع واستيداع؟.
إن العطلة الصيفية في حياة الشعوب لها ما يبررها، من بحث الناس عن المنتجعات الباردة والأجواء المنعشة هربا من حرارة الصيف التي لا يتحملونها، ومن ضرورة التخلص مما تراكم فيهم جراء العمل السنوي الشاق والحياة اليومية المعقدة التي تشبعهم توترات وضغوطات وطاقة سلبية معيقة للعمل والإنتاج بشكل عام، ورغمها فإن المجمل من عطلنا المنظمة وغير المنظمة، لا تزال في حاجة إلى تفكير جاد وجهد جماعي رسمي ومدني، تؤطره القاعدة الكونية التي تقول بضرورة حسن تدبير الوقت الثالث، بما يعود على الفرد بالراحة والترفيه والتربية والابداع، وعلى الوطن بالتنمية والرخاء والتقدم والازدهار، وللشعوب المتقدمة في هذا المضمار تجارب وتجارب (اليابان وكوريا الجنوبية نموذجا)، تجارب وطنية رائدة أكسبتهما كل الألوية الخضراء والزرقاء، بل وأدخلتهما المراتب الأولى في مؤشر سعادة الشعوب ورفاهها، بعيدا عن هذا الذي نتخبط فيه نحن وغيرنا من: " خنفس دنفس ودوز العطلة، وطبعا لا يكون الأمر غير : "عطلة أم العدس وأبو البطاطيس"؟.