أتفهم حالة القلق المتزايد لآباء وأولياء طلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان، لاسيما بعد قرار مقاطعة الدورة الاستدراكية 22 يوليوز، خصوصا بعد صمت الحكومة والوزارة، الصمت المنتج للغموض والخوف على مستقببل أبناءهم. الطلبة أطلقوا رصاصتهم الأخيرة، وهنا أحد عناصر سوء تدبير وإدارة الملف، لأن المحتج لا يتخلى عن رصاصته الأخيرة كوسيلة ضغط. الأمر يكشف طبيعة السلوك الاحتجاجي لفئة وجدت نفسها فجأة أمام مشكلة صغيرة، تحولت بفعل التراكم وسوء التدبير إلى مشكلة سياسية معقدة وبأبعاد متداخلة، تجاوزت الكلية والجامعة والوزارة والحكومة وأصبحت في مواجهة الدولة والمجتمع. ثمة ثابت سلوكي وثقافي يميز طلبة الطب؛ هو أنهم غير مبالين بالمجال السياسي وربما لا يستهويهم الأمر، من سلبيات هذه المشكلة أنها جعلت من السياسة أولوية وانشغالا يوميا. تدبير هذه المشكلة المرتبطة بغياب التوافق حول الملف المطلبي بسبب مطلب سنوات التدريس يثير مجموعة من الاستنتاجات. الانتقال الفجائي من الدراسة إلى السياسة، من المدرج إلى الساحات، من التشريح إلى التصريح والاحتجاج قد يكون أحد أسباب التعثر في التدبير والتفاوض الفعال والمنتج. التفاوض ثقافة وخبرة نتيجة تأطير سياسي لتدبير الأزمات وليس مجرد رفض فعل لأزمة مؤقتة. أحد نتائج هذا الانتقال الفجائي هو هيمنة الخطاب العاطفي وغياب الحس النقدي وترسيخ آليات الحشود في الحفاظ على وحدة الصف، فأصبح الرهان الأساسي لدى الطلبة هو الاستقواء بمنطق العدد وإبراز صورة الوحدة والتكتل عبر نسب المقاطعة الكبيرة. سبب ثان في نظري لهذا القصور في إدارة الملف هو سوء قراءة الواقع وعدم القدرة على فهم طبيعة المشكل، مطالب الطلبة بحرية التنقل دستورية كحق إنساني مكفول دستوريا، فإن الامر ليس مطلقا ولكن مقيد كذلك بشرط المشاركة في تحمل الأعباء العامة المنصوص عليها في الدستور المغربي. إضافة إلى أن السياق السياسي العام الموسوم باصلاحات كبرى تنزيلا لرؤية ملكية عبر برنامج حكومي، المتعلق برهانات الدولة الاجتماعية في بعدها الصحي والحاجة إلى موارد بشرية مؤهلة لإجاح هذا الورش. سياق المعركة أهم من أهداف المعركة، لذا فالبحار الخبير يهتم أولا بحالة البحر واتجاه الريح قبل أي إبحار، مما يعني أن تغيب السياق وعدم قدرة على الإقامة في الواقع وفهم طبيعة المرحلة ورهاناتها السياسية الكبرى لاسيما رهان الدولة الاجتماعية، جعل من قرار المواجهة قرارا في التوقيت الخاطئ. من النقط التي أضعفت الملف التفاوضي للطلبة هو شخصنة القضية حصر الجوهر المشكل في شخص وزير لتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار وأصبح موضوع الانتصار على الوزير أهم من الملف المطلبي ذاته. يبدو أننا في حاجة إلى الواقعية وعدم الاختباء وراء الشعارات الكبيرة ون يتم الاعلان عن المطالب الحقيقية وتحديد أساليب وتكلفة تحقيقها . ربما البعض يحلو له ان يسمي ما يجري معركة نضالية كبيرة من أجل تجويد تكوين أطباء الغد ، ومن اجل جودة الاستشفاء وهي شعارات جميلة لكن يصعب تصديقها بالنظر إلى حجم التحولات القيمية التي جعلت من الطب استثمارا ، والا كيف نفهم ان طالبا للطب في سلسلة الاحتجاجات على مشروع وزيرالصحة الأسبق الحسين الوردي الخاص بالخدمة المدنية بالعالم القروي والمناطق الجبلية والبعيدة عن محور البيضاءطنجة ، قرر بيع كلينكس على ان يكون طبيبا بالمغرب الغير النافع وهي قصة لها دلالات كبيرة على حجم التحولات. المطلب مشروع لاسيما المتعلق بطبيعة الأجور وسلة التحفيزات ما بعد التخرج وتحسين شروط وفضاءات العمل ، لكنها مواجهة تخاض بشعارات مغلوطة وفي زمن سياسي غير ملائم . من أجل مشروعية الضغط يجب التفكير في الوسائل الأكثر اقناعا والأكثر تأثيرا، يجب التفكير في خوض معركة بنفس اخلاقي ومؤسسة على سند اخلاقي بما يضمن لها القوة والاقناع والقبول والاستمرارية .قد يحتج البعض ان كل المعارك ليست اخلاقية لانه تعتمد على القوة وليس على الحق ، وهو طرح مقبول ، لكنه مكلف وغير مضمون النتائج . الاكثر تاثيرا ان يكون الحق أساس المعركة ، كل المعارك الكبرى انتصرت للحق وبالحق ، تجربة غاندي ملهم الفكر الثوري الانساني والذي حرر الهند دون عنف . واستلهام روح وفلسفة المسيرة الخضراء 1975 حين الهم الحسن الثاني العالم وأن تحرير الأرض دون اراقة قطرة دم واحد لكن بالكثير من السلم واللاعنف استرجعنا الأرض وحررنا الإنسان . حين نمارس حقنا في الاحتجاج دون تعطيل مصالح الدولة سنكون قد اخترنا السلاح الأكثر قوة والأكثر تاثيرا وهي الاحتضان الشعبي والمجتمعي للقضية. غير ذلك ستكون مواجهة مفتوحة ودائمة الاستنزاف ينتصر فيها من يجيد الاستثمار في ثقافة الأزمة، والانتعاش في الأزمة وتحويلها الى فعل احتجاجي واستنزافي دائم. لذا لكن مهمة الحكومة المزيد من اليقظة والعمل على تجفيف مساحات التوثر من أجل انجاح رهان الدولة الاجتماعية في بعدها الصحي