يبدو اننا امام ازمة جديدة بساحات المدرسية العمومية، وزارة تصر على تنزيل النظام الاساسي الجديد ، و النقابات المشاركة في صياغة النظام صامتة، في حالة فشل كلي و التنسيقيات تتكاثر، و تتبنى خطابات التصعيد و التلميذ الخاسر الاكبر. التوثر الذي يسود يكشف ان عمق الازمة يكن في تقتيت العمل النقابي ،و ان النقابات لم يعد لها قدرة على التاطير وفرض الالتزام و انها فقدت سلطتها الرمزية و الشرعية . فرضية "موت العمل النقابي" هو افتراض بتداعيات خطيرة ، الامر يقود الى الفوضى و الشتات وهو ما يقع الان، كل فئة تنسق دفاعا عن مصالحها الخاصة ، و هنا تكمن هشاشتها في غياب المبدا المؤسس . الترافع هو موقف قيمي و قناعة اخلاقية و التزام اخلاقي ، اما التنسيق المرحلي فهو مجرد تكتيك خاضع لمنطق الحسابات و السياقات . عمق الازمة يكمن في طبيعة الفعل النقابي الذي فقد بريقه، حين اصبح فعلا محصورا في اللقاءات المكيفة ،و اخ الصور و ترك الساحات فارغة و ترك الاستاذ يعيش محنته وحيدا . فالنظام الاساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية دخل حيز التطبيق بمجرد نشره بالجريدة الرسمية تنفيذا لمخرجات الاتفاق بين الوزارة الوصية و النقابات الاربع الاكثر تمثيلية و الذي ثم تحت اشراف رئيس الحكومة بتاريخ 14 يناير 2023 . النظام الاساسي الجديد انتج لكثير من الصمت لمن يؤيدون النظام و الكثير من الاحتجاج لمن يرفضون ، بين النقابات تعيش لحظات خواء و غياب الوزن ربما هي تعيش خارج الزمن اليومي للاستاذ . جملة ملاحظات تستوقف أي مهتم بالمدرسة المغربية العمومية ، ان السياق الحالي يوحي باجواء مواجهة مفتوحة ، اكثر من اربعة عشر تنسيقا فئويا يقررون الاتفاق على مواجهة النظام الاساسي و تحويل ايام الدراسة الى ايام عطل . الإصرار في لعبة شد الحبل، والتهديد بمقاطعة الدراسة من طرف التنسيقيات الرافضة يكشف ان المواجهة ستكون قاسية بين الوزارة و التنسيقيات في غياب مؤسسات الوساطة لاسيما النقابات و دون استحضار حق التلميذ في التمدرس . الازمة معقدة ، الصراع مرشح ان يكون طويلا اذا لم تنتصر الحكمة ،و الانتصار للطرف الاضعف في المنظومة : التلميذ و الاسرة البسيطة التي تراهن على المدرسة العمومية ، اما من يستطيع الدفع فالخيار السهل هو التعليم الخصوصي . الوازرة لا تملك فرصة التراجع ، و التنسيقات مصرة على المواجهة ، مما يرشح الوضع لمزيد من تبديد الزمن المدرسي وتوثير الأجواء. اربعة عشر تنسيقا من اجل اسقاط النظام الاساسي ، رغم اختلاف المطالب و الوضعيات والضحية معروف سلفا. الطرف الأضعف في المواجهة، التلميذ الذي لا يملك نقابة تدافع عنه، وهنا تكمن عمق المشكلة، ربما هو ليس طرفا بقدر ماهو مجال مواجهة، وحقل صراع فيه تخاض المواجهات باسم التلميذ وليس من أجله. قد يعتبر البعض أنها مواجهة غير اخلاقية، لان التلميذ اصبح رهينة ووسيلة ضغط من أجل تحقيق مطالب المحتجين. الواقعية تعني أنه لا توجد مواجهة أخلاقية، كل طرف يبحث عن كسب المزيد من النقاط في مواجهة صعبة .تحويل التلميذ الى رهينة سلوك غير مقبول، وعدم مراعاة الوزارة لحساسية الوضع و بناء نظام تحفيزي غير عادل من خلال نظام التعويضات الذي انتصر لفئات الادارة و التفتيش على حساب هيئات التدريس ، ما يمنح للصراع مقومات استمرار التوتر وهو مؤشر ان الطرفين معا على خطأ. لذا، من أجل التلميذ تبرز الحاجة الى حوار جدي يجعل من مصلحته رهانا مشتركا، آنذاك ستذوب كل الخلافات من أجل التفرغ لتدبير الزمن المدرسي بشكل فعال وناجع، بدل تبديده في مواجهات الاستنزاف. الاعتقاد ان الانحياز لحق التلميذ في التمدرس هو موقف ضد الأستاذ، هو استنتاج غير دقيق، لأن مهمة الأستاذ انسانية في جوهره و تكمن في ضمان حق التلميذ من أجل التعلم، وأن جوهر التدريس هو رسالة قبل أن يكون وظيفة. ربما البعض يحلو له ان يسمي ما يجري معركة نضالية كبيرة من أجل تحرير المدرسة العمومية من الفوضى، ورد الاعتبار لها وهو اشارات كبيرة تستحق المساءلة، وأن رفع شعار كبير مثل اعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، وبشكل فجائي يشكل أمر غير مقبول في معارك ذاتية. أن الشعارات الكبرى لا تخدم اية قضية، وإنما هي سبب في خلق الازمات وليس حلها، وهو ما أشار إليه المفكر الماركسي جورج سوريل حين اعتبر أن الازمات الكبرى ارتبطت برفع الشعارات الكبرى . إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية لا يمكن ان يكون قرارا ظرفيا مرتبط بفئة لها سلة مطالب اهمها رفع الأجور تماشيا مع واقع التضخم وارتفاع الأسعار. المطلب مشروع لكن يخاض بشعارات مغلوطة، فالمدرسة العمومية هي عنوان أزمة بنيوية معقدة و كبيرة، حلها لا يرتبط برفع شعار أو تنظيم مسيرة حتى لو كانت مليونية، وإنما مرتبط بطبيعة ورهانات الدولة، أولا ويقظة المجتمع ثانيا، والتوافق بين مؤسسات الدولة والمجتمع. لعل تاريخ تحويل الظرفي الى أمر دائم ، هو ثابت تنظيمي في تدبير الشأن التعليمي، الأساتذة العرضيين ثم إدماجهم، ومنشطو التربية الغير النظامية ثم إدماجهم، والراسبون في امتحانات التخرج في مدارس التبريز ثم ترسيمهم. نفس الحالة ونفس الهدف ادماج المتعاقدين بغض النظر عن التسمية لأن المهمة اهم من التسميات. المواجهة مع الوزارة من أجل الإدماج هي مواجهة لها ما يبررها، لكنها للأسف مواجهة على حساب التلميذ و حق التلميذ في التعلم، الوزارة ربما اخطات حين انجزت اكثر من 14 اجتماعا من نقابات يبدو انها صورية لا تملك حضورا في الواقع ، و انها في لحظات الازمة تختفي و تترك المواجهة مفتوحة بين طرفين يصعب ان يلتقيا لان الوزارة يصعب عليها التعامل مع القطاع بهذه الطريقة المفتتة حيت تتكاثر التنسيقات بشكل غريب . أهداف الاحتجاجات مشروعة لكنها تتم بطرق غير اخلاقية، حين يتم تجاهل حق التلميذ في التمدرس ، لأنه لا يعقل أن تطالب بحق على حساب حقوق الآخرين . بالامس ثم حرمان تلميذ من فرحة الاضطلاع على نتائج عمله ، من المفارقات ان يحرم الأطفال ما تستفيد منه الكبار في لحظات ترقب نتائج امتحانات الترقية او الحركة الانتقالية. من أجل مشروعية الضغط يجب التفكير اكثر قوة واكثر اقناعا و أكثر تأثيرا، يجب التفكير في خوض معركة بنفس اخلاقي ومؤسسة على سند اخلاقي بما يضمن لها القوة و الاقناع و القبول والاستمرارية .قد يحتج البعض ان كل المعارك ليست اخلاقية لانه تعتمد على القوة و ليس على الحق ، وهنا يكمن سر القوة ان يكون الحق أساس المعركة وبالحق ،أن تصبح المعركة اخلاقية معناه ان يمارس الاحتجاج و كل الأشكال النضالية في وقت الاستاذ وليس في وقت التلميذ .حين نرى احتجاجات الاساتذة في أيام العطل سيتحول الاستاذ الى قدوة يقود التغيير انذلك ستصبح المعركة معركة الجميع .سيكون مدهشا مواجهة وزارة متعنتة بالأخلاق ومن اجل الاخلاق كما فعل غاندي ملهم الفكر الثوري الانساني و الذي حرر الهند دون عنف . واستلهام روح وفلسفة المسيرة الخضراء 1975 حين الهم الحسن الثاني العالم وأن تحرير الأرض دون اراقة قطرة دم واحد لكن بالكثير من السلم واللاعنف استرجعنا الأرض و حررنا الإنسان .حين نضمن حق التلميذ في التمدرس سنكون قد اخترنا السلاح الأكثر قوة والأكثر تاثيرا وهي الاحتضان الشعبي والمجتمعي للقضية . غير ذلك ستكون مواجهة بالعنف وسينتصر من يملك مصادر القوة المادية، أما المنهزم فهو التلميذ و اسرة التلميذ و مجتمع التلميذ . قد نتفهم حضور الفعل السياسي لبعض التنظيمات التي تحاول بناء ذاتها من خلال الاستثمار في ثقافة الأزمة، والانتعاش في الأزمة وتحويلها الى فعل نقابي لكن مهمة الوزارة هو تجفيف مساحات التوثر من أجل التلميذ، بضمان وحماية الزمن الدراسي بدل تبديده.