الحملة الانتخابية لرئاسيات، نهاية الصيف المقبل، في الجزائر، انطلقت بلقاء الرئيس عبد المجيد تبون مع الصحافة المحلية، السبت 30 مارس، والذي بُثَّ عبر عديد القنوات السمعية البصرية، ونُشر نَصًّا أو مُلَخَّصا في الصحافة المكتوبة والمواقع الإعلامية... بذلك اللِّقاء، وبُعَيْد إعلان الرئيس عن موْعد تلك الانتخابات، في شكله فضلا على مضمونه، يكون الرئيس، وهو مُرشَّح مُفترض، ومُتوَقّع، لتلك الرئاسيات، قد أطلق حملةً دِعائيةً، سابقة لأوانها، كما سبق له وأن بكر موْعد الانتخابات عن موعدها المفترض، (ديسمبر المقبل)، وذلك دون انْتظار أن تقوم "الهيئة المستقلة لتنظيم الانتخابات" بتقْنين الحَمْلة، من حيث آجالها وأدواتها وأخلاقياتها، ضمانا لتكافُؤ الفرص بين المرشحين لها... في اللقاء الصحفي، لم يقل الرئيس أنه مُرشح للرئاسيات، ولم يقل أنه لن يترشح لها... في ما يُشبه "مراوغة" انتخابية لمنافسيه المفترضين، في احْتمال ترَشُّحه، أُبْقى لهم سؤالا مُبْهم الجواب، "ضخْما"، "نافرًا"، في تخطيطهم لقراراتهم بشأن الانتخابات... سؤال يبدأ لبعضهم، مِنْ هل سيترشحون لها أم يكتفون بدعم مرشح جنرالات الحكم... والأهمُّ مَن هُوَ مُرشح أولائك الجنرالات؟ والَّذي ستُفتح له طريق "سَيَّار" نحو قصر المُرادية... السيد تبون وفي نفس سياق جوابه، بتأجيل الإفصاح عن قراره للترشُّح أو عدمه، سيتحدث عن انْشغاله، باستكمال برنامج زياراته للولايات، وقد بقي منها خمسة، كما قال... بما يُفيد بأن الحملة الدعائية السابقة لأوانها، للرئيس الذي أجَّل الإعلان عن ترشيحه، بدأت بالإعلام وستتواصل بزيارات ميْدانية لولايات جزائرية، والتي لا شك سيحمل لها هدايا، في شكل وُعود تنمية، هو أصلا سَخيٌّ فيها، كما فعل في مجلس الوزراء الأخير، وبقرار مزاجي، حين رفع حصة ولاية تيسميلت من السكن الريفي إلى 15000 وحدة من أصل 3000 وحدة كانت مبرمجة في دراسات الوزارة المعنية... وما هيَ إلا وُعود، خَفيفةٌ في اللسان وقابلة للتحلُّل في النِّسيان... حديث الرئيس مع الصحافة الجزائرية، فيه من الوعود التي أطلقها ما جاوَز المُباح، من نسبتها في حملة دعائية انتخابية... ومن ذلك أنه وعد برفع أجور الجزائريين، لتبلغ بدأ من آفاق 2026 نسبة 100%. إنه سخاء انتخابي، غير واقعي في اقْتصاديات الجزائر حاليا... والمُهم فيه أنه وعدٌ من مُرشح، لم يقُل بعد أنّه مرشح، ويرى نفسه رئيسا لما بعد 2026... في السياق نفسه، وعد الرئيس، الذي لم يترشح بعد للرئاسيات، بإنجاز مزْرعة لإنتاج حليب الغبرة (مسحوق الحليب)، بتعاوُن مع بلد عربي، مساحتها 100 ألف هكتار... جريدة "الشعب" شَطّبَت الهكتار وعوضته ب 100 ألف رأس... الجريدة صوبت قَوْل الرئيس... الوَعد الرئاسي فضلا على ضَخامته وغرابته، يعكس انشغال الرئيس بطَمْأنَة الجزائريين، إلى حدّ المبالغة، بتوفير الحليب، ولو في صيغة مسحوق، وهو واحدة من مُعضلات ومُعاناة الحياة اليومية، في بلد غني بمداخيل الطاقة الأحفورية. المبالغة، أو القفشات، كان لها حضورها في حديث الرئيس تبّون إلى بعض صحافة بلاده... كما كانت مُلازمة له في سوابق أحاديثه على طول ولايته هذه... مثلا، المبالغة في تضخيم دور الجزائر في النزاعات الدولية، بدأها بِتَنْسيب قرار مجلس الأمن (غير الملزم)، الخاص بوقف إطلاق النار في غزة، للخارجية الجزائرية، دون سِواها. بينما القرار أنضجته روسيا، وأتاح صدوره امتناع واشنطن... وهذه مُبَالغة، في باب "نرجسية وطنية" غير واقعية، ولكنها جائزة... المُضِر، وغير المقبول هو أن تمتدَّ المبالغات إلى تحريف التاريخ... قال عن المكانة الفاعلة للجزائر، ما يُمكن أن يُقال عنه جهل بالتاريخ، أو إقحامٌ فيه، دعائي، لوقائع مُتخيَّلة... من نوع دور الجزائر في الصراع الإيراني، العراقي، بتوقيع اتفاقية وقْف الحرب بينهما في الجزائر... الواقع أن ما تمّ توقيعه في الجزائر في شهر مارس 1975، بين شاه إيران رِضا بَهلَوي وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي، هو اتفاق ترسيم الحدود بين البلدين، ولم يكونا في حالة حرب... أما حرب الخليج الأولى، في ثمانينيات القرن الماضي، فقد انتهت، بإعلان هزيمة إيران، والتي وَصفها آية الله الخميني بأنها "أشد عليه من تجرُّع السُّم"... ولم يكن لا للجزائر ولا لغيرها أيُّ دور في وقف الحرب، ولم توَقّع أية اتفاقية في شأنها... والمبالغة الأكثر غرابة، والتي حمله عليها اشتداد حماسه في الغضب من "بلد عربي" بل وتهديده له، مذكرا إياه بأن الجزائر، دفاعا عن كرامتها، في رصيدها خمسة ملايين وستمائة ألف شهيد !!! بينما المتداول، ومنذ أن أطلقته إذاعة صوت العرب المصرية، بداية ستينيات القرن الماضي، هو مليون ونصف المليون شهيد... لقد استبدّت به "النَّخوَة" التي يطلبُها للجزائريين، أن ضَخَّم، بما يفوق التَّضخيم، عدد الشهداء... وهو رقم يُقال لأوَّل مرَّة... هي مُبالغة تشكك في قُدرة الرئيس على صَوْن دِقّة الأرقام عامَّة، ويُشَكِّك في صدقية دفاعه عن ذاكرة الكفاح التحرُّري الجزائري... ويحيي في الذهن، واحدة من أشهر قفشاته، حين تحدث أمام وزير الخارجية الأمريكية، عن المُسدَّسات التي أهداها جورج واشنطن إلى الأمير عبد القادر... وفي التاريخ الحقيقي، أن واشنطن توفي تسع سنوات قبل ولادة الأمير عبد القادر... النخوة يا سيدي، لا تتأتَّى ولا تُصطنع باختلاق عظمة مُفتعلة... الكفاح التحرري الجزائري، مُحترم كما جرى فعلا وشهداؤه مقدرون بعددهم الواقعي، وبتضحياتهم الفِعْلية، وللجزائر الاحترام الّذي يستحقه شعبها، ولا يُنقص منه أن يتراجع وقْع ديبلوماسيتها، على ما كان عليه أواسط سبعينيات القرن الماضي. اليوم، قيادة الجزائر، لا يُتوقع أن تحافظ حتى على ثقة حلفائها، كما حدث في رفض طلبها الانضمام لمجموعة "البريكس"... بإدمان الرئيس ومُواليه وإعلامهم على استحضار الماضي، واستعمال "الشّهداء"، للتستر على نزوع هيْمني في الجوار المغاربي والإفريقي للجزائر، نُزوع بفراغ من القدرات والمقوّمات، ومُنطلق من اتجاه مُعاكس للتاريخ، منذ أن سنّه هواري بومدين، وإلى هذا اليوم الذي يعبث به السيد تبون... وهو ومن معه من قادة الجيش بذلك النزوع، يشوشون على التوازنات الجيواستراتيجية في شمال إفريقيا، برعايتهم لجماعة انفصالية مُتَّصلة بمنطقة الساحل والصحراء الملتهبة، وأيضا بافتعال نزاع وتوتر مع المغرب، يُبقي المنطقة مهددة بتصعيد لا أحد من المعنيين والمهتمين بالمنطقة، دُوَليا، يدرجه في مصلحته. يهمُّني من "عبث" السيد تبون، ما له صلة بالمغرب... أن يُبالغ في الشأن الجزائري، ويحاول رفع منسوب الحماس والمعنويات، أو ما سماها النخوة، في الجزائريين، ذلك شأن داخلي، كما هو أمر ترشحه للرئاسيات من عدمه... بخُصوص المغرب، كاد الحق أن يُنطقه، لكنّه حاد عنه، ولم يرتب على مقدمة كلامه نتيجته المنطقية... حين "تأسَّف" على النزاع حول الصحراء المغربية، مؤكدا "وُجود حلٍّ، لو استُعمل العقل عِوَض التهديد"... وفعلا، المغرب انْحاز إلى العقل، حين بادر جلالة الملك المحمد السادس "بمُقترح الحكم الذاتي"... هو مقترح متعقل ولكي يعقل سياسة قادة الجزائر تُجاه المغرب ويُخلصها من عقدة "الحكرة" والتي أعلنها الرئيس بَنْبلة من جهة المغرب، في أول عهد الدولة الجزائرية المستقلة... نعم للحل الذي يقود إليه العقل ولا للعدوانية التي تنهج التهديد... المغرب في أرضه، يصون وحدَتها، ولا يهدد أحدا، قدر ما يُلح على قادة الجزائر، بالحوار، التفاهم والتعاون لما فيه حق وواجب الأخوة، الجوار والمصير المغاربي المشترك... العقل الذي يطلبه السيد تبون موجود في المغرب، وقد اقترح الحل الذي وافق على مضمونه مجلس الأمن الأممي وعشرات الدول "العاقلة"، وضمنها كل الدول العربية باستثناء الجزائر. السيد تبون في "بَوْحِهِ" للصحافة، حاول نزع أنبوب الإنعاش عن "اتحاد المغرب العربي"... "الاتحاد" في غرفة الإنعاش، غير أن النبض لم يتوقف فيه، بينما أعلن السيد تبون عن سعيه لتأسيس كيان وَحدَوي "لشمال إفريقيا"... قرر من تلقاء نفسه شَطب الاتحاد المغاربي من التاريخ، والخوض في إطار خاص بشمال إفريقيا... هذا بعد أن اعترف بوجود تشرذم عربي، وقال أنه لا يريد أن "يزيد في الطين بلة"... وهاهو يزيد الوضع المغاربي وَحَلاً... بَرَّر تنسيقه مع تونس وليبيا، بسعيه إلى إخراج المنطقة من فَراغ وَحدَوي... والقادة في الجزائر هم مَن أفرغ الإطار المغاربي من معناه، وعطَّل جدواه... وزير الخارجية الليبية، الاثنين الماضي، أعلن عن تشبُّت بلاده باتحاد المغرب العربي، وألحَّ على أن المنطقة لا تحتاج إلى كيان جديد، تحتاج فقط إلى تفعيل وإصلاح الإطار الموجود. ليبيا تخلَّصت من مفعول مجاملة السيد تبون خلال مؤتمر الدول المصدرة للغاز بالجزائر، وعادت إلى المنطق والصواب والاتجاه الصحيح... محاولة السيد تبون انطلقت عرجاء ولن تلبث أن تصاب بالكساح... هذا من أجل وهم عزل المغرب، وما تمليه على حكام الجزائر عُقدة معاداة المغرب... لن يفلحوا في مسعى خلق كيان جديد، ما دامو هم أصلا من حاول هدم الكيان الموجود...، ولن ينجحوا في عزل المغرب، ولا في الإضرار به... سيجدون المغرب أمامهم، ورغما عنهم، فاعلا رئيسيا، حقيقيا ومُنتجا للفائدة، في الفضاءات المغاربية، الإفريقية، العربية والمتوسطية... لا مفر... لا بد من المغرب في جغرافية وتاريخ المنطقة... وفي مستقبل الجزائر... *عن جريدة "العرب" الصادرة من لندن