* بدءا التعليم –كما أغلب المهن- لا يعرف تفاصيله وصعوباته إلا أهله، وبالتالي فلا اعتبار لكلام المتحدثين من خارج المهنة ممن لا يرى في التعليم غير العطل وأجر شهري (سمين) لا يتأثر بالجفاف والجراد.. أهل التربية والتعليم وحدهم من يفهم حجم التعب وحجم الجهد الذي تحتاجه هذه المهنة من تحضير وتقديم وتوثيق وتتبع وتقوي وتصحيح... وبين كل ذلك جهد بدني ونفسي وعقلي داخل الفصل يفرض على المدرس قدرا لا يتصور من الهدوء وضبط الأعصاب أمام جماعة من الأطفال أو المراهقين ... والواقع يثبت أن كثيرا من الآباء والأمهات لا يتحمل صخب ابنه ليوم واحد تتعطل فيه المدرسة فيتخلص منه بدفعه خارج البيت أو إشغاله بالهاتف أو التلفاز... * إن جل رجال ونساء التعليم ينحدرون من أوساط اجتماعية فقيرة أو متوسطة في أحسن الأحوال والأجرة التي يراها سمينة من لا أجرة له ويحسدهم عليها حاقد هناك أو هنالك تتوزع بين الأسرة الصغيرة والكبيرة من نفقات يومية وصحة وكراء وتنقل وكثير من الآيادي المحتاجة بين أفراد عائلته... وكم من مدرس يطول به الشهر كالقرن في انتظار راتب يخرجه من ورطة شهر قبله.. وكما غلت المعيشة فمن حق الأستاذ أن يطلب الزيادة في أجره دون أن يشعر بالحرج في ذلك فأروني مسؤولا يشتغل مجانا كي نبعث له رسالة شكر. * إن كثيرا من رجال ونساء التعليم يسدون للدولة خدمة لا تقدر بثمن حتى خارج واجبهم المهني، فهم نشيطون في تأطير الأطفال والشباب داخل النوادي المدرسية والجمعيات المدنية ثقافية وبيئية واجتماعية ورياضية... يعلمونهم الاعتزاز بالوطن والحفاظ على قيمه وتمجيد تاريخه ويعلمونهم البذل دون مقابل، ويملؤون فراغهم حتى لا يكونوا عرضة للتطرف والانحلال... فكم يستحق من يقوم بهذا الدور لو قدرنا ثمن الجهل وتكلفة متطرف واحد يمكن أن يجني على البلاد والعباد.. * هناك خدمة مادية كان يسديها رجال التعليم ونساؤه للوزارة دون أن تنتبه أو انتبهت وشجعتها، وهي خدمة مادية ينفق أهل التربية والتعليم على الحكومة فيشترون الأوراق والأقلام وينسخون الفروض والوثائق ويشغلون حواسيبهم وأحيانا يصبغون الأقسام ويزينونها ويشجرون المؤسسات ويتعاونون على علاج تلميذ أو عون بالمؤسسة ويجهزون قاعة الأساتذة ... وغيرها الكثير من واجبات المشغل مما يدخل في العدة الممدرسية وشروط العمل... كان يقوم بها المدرسون بتطوع "ولا يتحاسبون" كما قال السيد الوزير.. لكنهم الآن صاروا يتحاسبون ومن حقهم ذلك.. فالحكومة التي تجود "بلا حساب" على الرياضة وتجازي موظفيها "الآخرين" على كل صغيرة وكبيرة ثم تتقتر على قطاع هو نبض الدولة ومستقبلها عليها أن تقدر جهود المربين المعلمين لا بالشواهد التقديرية والتنويهات الورقية بل التعويضات المادية المزجية. * إن تعويض أطر الإدارة والتفتيش ليس موضع حسد بالنسبة لرجال التعليم ونسائه. فهؤلاء ينتمون أيضا إلى نفس الحقل ويقومون بدور أساسي في المنظومة لا ينكره إلا جاهل أو جاحد... لكن الذي لم يستسغه المشتغل بالقسم هو تعويض من من مهامهم المراقبة وترك المعنيين بالأمر، القسم للمدرس وهو سيده وأي إصلاح يمر بيد المدرس ونجاح أي إصلاح رهين بانخراط المدرس فيه.. أما تسليط عصا المراقبة على المدرس وإغراقه بالمهام بصفر درهم وتهديده بسيل من العقوبات فهذا ضرب من الجنون أو إقرار ضمني بأنه ليس العنصر الأساسي في المنظومة، وإن كان فلم توقفت الدراسة بمجرد من أضرب الأستاذ وقد حضر باقي الأطراف جميعا؟ ! ثم متى نجحت العقوبات والتأديبات والاستفسارات في خلق جو تربوي مناسب بقدر ما كانت تخلق جوا من التوتر والمشاحنات بين الإدارة والأساتذة يتصيد بعضهم عثرات بعض ليربح نقطا في المعركة. * إن خلط النقابي بالسياسي قصد التحكم في النقابي ووضعه في اليد على المقاس وسكوت كل نقابة يسير حزبها الحكومة عن فظائع ارتكبت في حق المنظومة وأهلها.. أعطى نتائج عكسية ففقدت النقابات مصداقيتها وفقدت قواعدها ومنخرطيها وماتت سبوراتها وأدرك رجال التعليم أن مصيرهم بأيديهم، فتناسلت التنسيقيات بشكل مستفز أحيانا لكنها تعني في المقابل أن هنا أزمة ثقة حقيقية في من يمثلنا، وتعني أيضا أن الأمر سينضج وسيثمر تنظيما قويا يجمع كل الفئات وقد تجلى ذلك في الإضرابات السابقة والوقفات.. فالحضور كان رهيبا ومجمل أهل القسم يؤمنون بضرورة التنسيق والعمل الوحدوي لإسقاط هذا النظام الأساسي وإعادة الهيبة إلى المدرس والمدرسة. * رغم سلبياته التي أهانت أسياد القسم فهذا النظام الأساسي فيكفيه "كرما" أنه أعاد للمدرسة حيوية فقدتها منذ أكثر من عشر سنوات، وأعاد رجال التعليم ونساءه إلى قاعة الأساتذة وشغلهم بشؤون القطاع على منصات التواصل الاجتماعي.. لقد قضى على الكثير من التفرقة التي أمرضت الجسد التعليمي بين نحن وأنتم وبين المرسيمين والمتعاقدين وحزازات الأسلاك ومن المناضل والخائن... فصرنا جسدا واحدا تداعى بالسهر والحمى لما أصابه ويصيبه.. فرب ضارة نافعة. * في سنة التدافع إما أن تكون مهاجما أو مدافعا بقوة، أما السكون فيعني فقد المكتسبات وهذا ما حدث لأهل القسم، فقد استكانوا وناموا لسنوات فلم يستطيعوا الحفاظ على مكتسباتهم، بل وفقدوها واحدة تلو الأخرى فذهب حق الإضراب بالاقتطاع، وذهب التقاعد بنظام التقاعد المتقشف، وذهب التوظيف الرسمي العمومي بالتعاقد... ثم جاء النظام الأساسي ليحصد كل شيء لولا هذه الانتفاضة بعدما "وصل السكين للعظم". * إن الذين اختاروا طوعا الخروج من الجماعة ورضوا بما جاء في النظام الأساسي الجديد من حقهم ذلك وتلك حريتهم لكن من باب المروءة أن يراسلو الوزارة ويعفوها من تغيير وضعهم، ويتنازلوا عن كل الحقوق التي تحققت بالنضال والصمود وتحمل أسياد القسم الاقتطاع والضرب أحيانا والمحاكمات وغيرها... أما أن تختار الخنوع ثم تتسابق إلى الاستفادة من المكتسبات، وتتحدث عن صيغ أخرى للنضال دون إعطاء مثال واحد لهذه الصيغ فهذا العبث والموت قبل الموت "فعش عزيزا أو مت وأنت كريم". * المفروض أن يتضامن الجميع مع أسياد القسم فهم من علمنا أن نكتب هذه الأحرف، وعلموك أن تقرأها.. وجعلوا منك طبيبا أو مهندسا أو شرطيا أو رجل سلطة أو قاضيا أومحاميا أو فقيها أو صحفيا أو أستاذا ومنهم من كتب لك الخطب الانتخابية لتصير برلمانيا أو وزيرا.. فكل بيت فيه طفل سيحتاج إلى معلم، وكل دولة في حاجة إلى مدرسة ناحجة تخرج شبابا يخدمونها في مختلف القطاعات.. والقاعدة مطردة أن الأمم تنهض بأهل العلم والمعلمين، عندما يعملون بحب وإخلاص ويجتهدون بتفان وإبداع وينالون التقدير المادي والمعنوي الذي يليق بهم كي يتحولوا إلى قدوة للأطفال والشباب وإلى رموز في المقررات الدراسية والإعلام... وبذاك فقط نصنع أمة تحضن كل أبنائها وتبني بأيديها أمجادها.. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.