الكثيرون يرددون مقولة "لولا أبناء الفقراء لضاع العلم"، والواقع يشهد فعلا أن الفقراء يبذلون كل ما يستطيعون، وينفقون الكثير من القليل الذي يملكون من أجل تعليم أبنائهم، كما يشهد الواقع أيضا أن أبناء الفقراء يتكدسون في المدارس العمومية، وفي أقسام آيلة للسقوط أرضها شبه مزبلة، وجدرانها لوحة فنية تضم كل التعابير النابية والشعارات السياسية والفرق الرياضية وأسماء العشاق من التلميذات والتلاميذ وألقاب الأساتذة... أما المقاعد المهترئة فلا تقل فنية عن الجدران بل إنها أمتع بكثير من غالبية الجرائد التي تصدر يوميا ويدعي أصحابها أنها جرائد مستقلة تنقل هموم الفقراء للرأي العام و الخاص. يجلس أبناء الفقراء أمام أستاذ هو أيضا ابن فقير ولولاه لضاع العلم، يخبرهم أنه في زمانه كان التعليم بخير وكان ولم يكن... واليوم وللأسف يجد أمامه شبابا مستسلما يائسا كل ما يشغله جديد الموضى و ... ورغم الفقر فالفقراء -ولله الحمد- في غالب الأحيان يجدون ما يشترون به تلفازا ليسمعوا كلام المسؤولين، ويتابعوا التدشينات اليومية، ويركزون أكثر على نشرات الطقس لأن الأهم من كل الضجيج الذي يملأ التلفاز هو المطر... دون أن يغفلوا متابعة المسلسلات التي تعاد كل يوم منذ سنين دون أن يملوا، فهم وطنيون لدرجة تجعلهم يرتبون القناتين الأولى والثانية 1 و2 في لائحة قنواتهم على جهاز الاستقبال"بارابول". ومع أن أغلبهم صار يعرف القراءة والكتابة والحساب وإرسال رسالة نصية عربية بحروف لاتينية فإن الفقراء مع ذلك لا يفهمون: لا يفهمون أن يكون في البلد الواحد مدارس خاصة بالأغنياء وأخرى خاصة بالفقراء، الأولى تعلم زبناءَها كيف يسيرون شركات، وكيف يصبحون وزراء في خمسة أيام بدون ضمير... بينما تعلم الثانية لفقرائها كيف يختصرون أحلامهم في "طرف د الخبز ومرا باش يعمر الدار لملء الحالة المدنية" وتعلمهم كيف يدافعون عن الوطن دون أن يهربوا كما يهرب الآخرون مع أموالهم. لا يفهمون أن يسمعوا كلاما كثيرا عن التغيير ولم يتغير شيء، فما زالوا مضطرين لدفع الرشوة من أجل التطبيب ومن أجل المرور أمام الشرطة والدرك، وما زالوا مضطرين للانتظار ساعات من أجل الحصول على وثيقة إدارية بائسة. يفهمون أن يسمعوا عن الأزمة الاقتصادية، ويصدقون ما يقال عنها وعن حاجة الدول إلى التقشف، لكنهم لا يفهمون كيف يلزمهم وحدهم فقط أن يتقشفوا، فلم يسمعوا بمسؤول باع بيته أو غير سيارته أو حرم ابنه من شيء أو ألغى سفره... بسبب الأزمة الاقتصادية... لا يفهمون كيف يموتون جوعا وبردا ولا يحتاجون إلا إلى ملابس مستعملة، وإلى خبز وزيت وكأس شاي ليحمدوا الله ويلعنوا من لم يحمد بعدما أكل وشرب، بينما ينفق البعض ملايين من أجل شيء تافه جدا كالشوكولا أو إصلاح حمام منزلي مثلا. لا يفهمون شيئا في من يحكم ولا من يعارض فكلهم "أبناء الذين" يظهرون في التلفاز ولا يجيدون غير الكلام وبيع الأوهام، أما الحقيقة فهي أنه على الفقير أن يقوم باكرا ليتحمل جميع أنواع الاستغلال حتى يعود بكسرة خبز لأبنائه حتى لا يضيع العلم ! سيفهمون يوم ينظر إليهم باعتبارهم مواطنين كاملين وليسوا مجرد أرقام وأوراق انتخابية. سيفهمون يوم يسود العدل المجتمع، ويكون الوطن للجميع، وخيراته للجميع، ويأكل العسل من "تحمل لسعات النحل"، وليس أن يتحملوا هم "قريص النحل" بينما من أكل العسل مازال يأكل العسل. أفهمتم أيها السادة الكرام أصحاب "الفهامات" لماذا الفقراء لا يفهمون؟