مقدمة:* لله تعالى في خلقه سنن وقوانين تؤطر الحياة البشرية من كل مناحيها، حفاظا على العدل والقسط الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسل الرسل، وحفاظا على تطور المسار الإنساني في مختلف المجالات، وهذه السنن والقوانين تدرك بدراسة التاريخ تفكرا وتدبرا وبتحليل تطور الاجتماع الإنساني. ومن أهم هذه النواميس الكونية قدرة تجاوب التشريعات المؤطرة للعلاقات الإنسانية مع المتغيرات الاجتماعية على مر التاريخ، وتقديم المصلحة وتلبية الحاجات الظرفية بما يخدم قيم العدل والتوازن والتطور، وهذه العوامل هي مدار نجاح الحضارات في تدبير الشأن العام بين المواطنين. فالتغير وعدم الثبات طبيعة كل القوانين التي تدبر شأن العلاقات بين البشر، ومن المسلمات البديهية في علم الاجتماع أن التغير في البنى والأدوار الاجتماعية يوازيه نفس التغير في القوانين التشريعية، من أجل ذلك نرى أن النص القرآني كان ولازال هاديا إلى التطوير والثورة على الظلم الاجتماعي على جميع المستويات ومنها التشريع، فهو عبر وظيفة الهداية التي وضع من أجلها قابل لاستيعاب التطور التشريعي بما يتوافق والعدل، بل ميزة الاستيعاب الخالد لجميع المستجدات في المجتمعات البشرية، وبهذا الفهم كان المسلمونعبر التاريخ يفهمون روح القرآن ولا يسجنون أنفسهم في ظاهر ومحدودية المعاني،بإعمال الاجتهاد المتفقه أحيانا كما فعل عمر بن الخطاب حين ألغى سهم المؤلفة قلوبهم، وحول أموال الفيء لبيت المال عوض تقسيمها على المقاتلين وغيرها من الحوادث المشابهة،وخضوعا للتطور البشري أحيانا أخرى كما كان الحال مع أحكام الرق وملك اليمين والعتقوالغنائم والفيء، وغيرها من الأحكام التي تجاوزتها البشرية، ولا يمكن العودة لها أبدا إلا في محاولات الخروج عن التاريخ كما هو حال بعض التنظيمات المتطرفة. وانطلاقا من هذه الحقائق التاريخية كان للاجتهاد الدور المحوري في ضمان صلاحية الدين لتأطير الحياة العامة للمجتمع، وفي تخليد محبته في قلوب الناس بعدم تعقيد المعاملات البشرية وتعسيرها، وأفضل من ذلك حين يكون دافعا قويا لتنزيل كل القيم والمثل العليا التي اتفق عليها كل العقلاء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ولا يكون هذا إلا بفتح آفاقالاجتهاد وإعادة قراءة النصوص بنفس مقاصدي وعقلاني. ولم يكن الاجتهاد يوما سببا في تقزيم دور الدين في الحياة أو المجتمع، بل كان الاجتهاد حاميا للدين نفسه من المحدودية عبر تفادي الوقوع في الجمود والتحجر والتعسير على الناس، وحاميا له عند الناس من ربطه بالعسر والتعقيد، كما أن هذا المسارالاجتهادي لم يكن أبدا ليجعل من العقائد والغيبيات هدفا لإلغائها ، ولا سبيلا لتجاوز المقاصد العامة والأحكام الكلية التي هي لب الدين وأساسه وجوهره، كما أن دعوة الاجتهاد لم تكن لتشمل الشعائر التعبدية ذات الطبيعة النقلية البحتة، بل الاجتهاد دعوة تستهدف المعاملات المنظمة للعلاقات داخل المجتمع، وقراءتها بما يتوافق وتغيرات الواقع وتراكم التجارب وتطور حقول المعرفة وإمكانيات التواصل وأساليب وطرق التفكير، دون إخلال أو مس بالمقاصد العامة والأسس الثابتة. وتجدر الإشارة إلى أن الشرائع المعاملاتية التي نص عليها الدين الإسلامي في القرآن الكريم لم تكن قوانين دينية بمعنى كونها ابداعا دينيا خالصا، بل كانت في غالبهاأعرافا إنسانية جارية وأنظمة معلومة جاء الدين لتثبيتها وعقلنتها وإدخال جانب الرحمةوالعدل عليها، بما يتوافق وسياقات التنزيل وظروفه، وضرورة التدرج والتأني في المعالجةوالإلزام، مما يجعل تطوير هذه الأحكام وتحيينها مع الواقع المتغير تتمة لهذا المسار وتكملةله، بل وفاء لروح الدين ومقاصده، وليس مضادة له أو نقضا لأصوله. ولما كانت المساواة بين البشر باختلاف أجناسهم مقصدا شرعيا واضحا، ومطلبا حقوقيا إنسانيا، كان لابد من مواكبة الأحكام والقوانين لهذه القيمة، وكان لزاما تطوير التشريعات وفتح سبل الاجتهاد فيها، بما يجعلها مواكبة لكل منجزات البشرية في هذا الباب،دون التحجر على أحكام كانت وليدة سياقاتها وبيئتها، حماية للدين وصيانة له، وإسهاما منه في تطوير منظومة القيم الإنسانية ونشرها. ولما كان الإرث أحد الأنظمة الاجتماعية المعقدة التي لها أثر بالغ على توزيع الأموال داخل المجتمع، وانتقالها بين أفراده، كان طبيعيا أن يكون هذا الباب مدخلا للحيف والجور وبغي القوي على الضعيف، وكذلك كان الحال في الجزيرة العربية قبل الإسلام، حيث كان نظام الإرث قائما على معايير القوة التي كانت سائدة ذلك الزمن، فكان التقسيم الذي جاء به القرآن رفعا لذلك الجور، وثورة على الظلم الواقع على كل من المرأة والأطفال والضعفاء من العائلة، وفرض تمكينهم من نصيبهم في الميراث، وكانت هذه الثورة معبرة عن عدد منالمبادرات التي هدفت إلى إقرار العدل في الميراث. فقد كان العرب قبل الإسلام تختلف أعرافهم في درجات توريث المستحقين للإرث من غير الأقوياء من الذكور، فأرسى القرآن الكريم بتوسيعه لدائرة المستحقين للإرث قاعدة الإلزام بالعدل وفق معايير العدل الإنسانية، إذ اعترف بدور المرأة في الأسرة، وخصص قدرا وافرا من الإرث للأطفال، وتجاوز منطق الاستحقاق بمعايير القرابة والقوة، وكل ذلك استجابة لتطور المجتمع الإنساني الذي قلت حاجته لقوة الأفراد أمام تعاظم دورالدولة بداية بناء الحضارة الإسلامية. وقد فصل القرآن الكريم في أحكام الميراث إرساء لمعيار العدل الإنساني، وترسيخا لقاعدة العمل بالشرائع الأكثر رحمة وعدلا في أي زمن ومكان، وذلك حين أقرتشريع الأحكام العادلة التي عملت بها بعض القبائل العربية في الميراث بخلاف السائد حينها،فالثابت إذن هو قيمة العدل ابتداء واستئنافا وليس التفاصيل والتنزيلات الظرفية. هذا الفهم المقاصدي عززته تطبيقات واضحة للصحابة رضوان الله عليهمللثابت من آيات الإرث، بمحافظتهم على ثابت العدل في الإرث، ومراجعة المتحول منالوقائع في حياة المجتمع، فاتحين بذلك باب الاجتهاد منذ انطلاق الحضارة الإسلامية ودولها. ورغم أن فقه المواريث شهد جمودا عاما في أحكامه طوال قرون من الزمانعلى مستوى المذاهب الفقهية الأربعة، فإن بعض الاجتهادات الجريئة في فقه الميراثأنصفت المرأة واستكملت المسيرة بفهم جوهر النص القرآني وتوجهه لتحقيق العدل، كمافعل المالكية حين جعلوا للمرأة حق أخذ نصيبها من الكد والسعاية قبل أن تأخذ حقهاالشرعي في الميراث. واعتبار قيمة العدل كان هو الدافع خلف بعض الاجتهادات الفقهية المعاصرة على قلتها، كما في رفع الحيف الجاري على البنت التي يقاسمها ابن عمها الإرث حتى وإن كان بعيدا عن الأب مسافة واهتماما ورعاية، وفي إقرار مفهوم "الوصية الواجبة " للحفيدالذي مات والده أو والدته قبل جده، وتمكينه في حق والده من ميراث الوالد أو الوالدة. ومن أهم القضايا التي يحتدم النقاش حولها فيما يتعلق بالميراث والتركات، ما يعرف عند الفقهاء ب "التعصيب"، بين محافظ يريد الإبقاء على القوانين السابقة في هذا الباب، رغم ما عليها من ملاحظات وانتقادات، وبين من يرى أنه قد آن الأوان لتعديل هذا النظام، بما يتوافق وما عرفته المرأة داخل المجتمع المغربي من تحولات، سواء على مستوى الأدوار أو الاعتبار أو الحقوق والمكتسبات. ومن أجل كل هذا سأقسم هذه الدراسة إلى مبحثين مهمين، يتناول الأول فلسفة الإسلام في المساواة بين الرجال والنساء، ومنهج التشريع القانوني في القرآن الكريم، وكيف قامت قوانين الإرث في الإسلام على قيمة العدل، ثم تحديد الثوابت والمتغيرات في قضايا التركة والميراث، فيما يتعرض المبحث الثاني لقضية التعصيب، وبيان ما جاءت به مدونة الأسرة بخصوصها، ومقارنة ما جاء فيها بالتشريعات التي تعتمدها بعض الدول الإسلامية، وطرح ما يرد على القوانين الحالية من ملاحظات وإشكالات، ثم ختم هذه الدراسة ببعض المقترحات والتعديلات التي يمكن اعتمادها رفعا لكل ظلم محتمل، وتحقيقا لقيم العدل والمساواة. * باحث متخصص في الدراسات الإسلامية