* -أمن إسرائيل الحقيقي والفعلي يمر عبر الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية مع تمتيع هذه الدولة بكل المقومات الضرورية * -لايجب أن تظل إسرائيل" الدولة والمجتمع والنخب " سجينة الرؤية العسكرتارية التي تصور الفلسطيني على أنه إرهابي وخطر لا يؤتمن. ذات مساء من صيف سنة 1995 بالمدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط، والتي كانت في الماضي قلعة لليساريين، وبدعوة آنذاك من اتحاد كتاب المغرب، قرأ الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قصائد انتخبها من دواوينه. كان الشاعر يتصبب شعرية وكانت مفرداته تتدفق كنهر أسطوري بخرير آسر، فيما وجوه وعيون الحاضرين كانت تتصفد عرقا ونشوة وتعج عشقا، لأنها كانت أمام قامة شعرية تفرض عليك جلالها ومصداقيتها، ليس فقط لآن هناك ذريعة التاريخ المأساوي وتراجيديا الوطن المصادر وتجربة المنفى القاسية ورهاب النكبة وتداعيات النكسة وإيقاع الحزن اليومي، بل لأن الشاعر نحت تجربة نوعية وفرض رؤية جديدة ولغة بديلة وأسس لإلقاء شعري يعرف كيف يتسلل إلى الأعماق. أتذكر أنني حاورت محمود درويش في حديقة فندق حسان قبل توجهه إلى المدرسة المحمدية، وطرحت عليه سيلا من الأسئلة. استغرق اللقاء زهاء نصف ساعة، حاولت أن أكتشف فيه دفعة واحدة جوهره الشعري وتجربته الجمالية وحسه الإنساني ونباهته السياسية وحدسه الذي يعبر المسافات الطويلة، ليقتنص حكمة أو صورة نادرة. كان جواد السلام وقتها يبحث عن فارس من نوع آخر، لأن كل ممكنات التفاعل الإيجابي مع حق الآخر-الفلسطيني في العيش فوق وطن آمن وواعد انتفت وتلاشت، بسبب عجز الوعي الإسرائيلي عن إحداث قطيعة بين تاريخ مزيف محشو بالتضليل ومعمد بالإرهاب الشامل والمنظم. وبين مرحلة تستدعي تنظيفا وتحريرا لهذا الوعي، وتطهيرا للمخيلات من أدران أساطير وأوهام مدمرة، حتى تستطيع العقلية الإسرائيلية الانتصار لصالح تكثيف حضور لغة السلام، ونشر قيم التعايش مع الفلسطيني والاعتراف له بحقوقه. لقد استشرف محمود درويش وتنبأ بمأزق عملية السلام الصعب، عندما رد على سؤال طرحته عليه في السياق نفسه قائلا: "إسرائيل تدير السلام بعقلية احتلالية دون الاعتراف بأن العرب شركاء لها، ورابين يمارس على الأرض سياسة الليكود، دون أن يعطي فوارق ملموسة على أن هناك نضجا في معسكر حزب العمل. إن المجتمع الإسرائيلي مازال غير مهيأ لقبول الآخر".. هذا الكلام يعود إلى 1995، أيام كان إسحاق رابين رئيسا للوزراء، وبين ذلك التاريخ ويومنا هذا ،مسافة زمنية غنية بالدلالات، بيد أن الوقائع السياسية على الأرض، لم يطرأ عليها تغيير ملموس وجوهري. فالحكومة اليمينية المتطرفة اليوم في إسرائيل بزعامة بنيامين ناتنياهو، تتمادى في الإنهاك النفسي والاقتصادي للفلسطينيين بشكل يومي، وطورت إستراتجية الحصار والتدمير والاستيطان الجامح والكاسح ، وانتهكت وأهانت المقدسات وعاثت فسادا وعربدة في المسجد الأقصى. ونكلت بالنساء والشيوخ ولم تتوقف عن تنفيذ المجازر والاغتيالات وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ونتيجة لذلك تكاثرت العقبات وتناسلت خيبات الأمل، وبلغ اليأس مداه في المجتمع الفلسطيني، خاصة في ظل انسداد الآفاق بسبب الغطرسة الإسرائيلية ومحدودية فعالية السلطة الفلسطينية و تداعيات انقسام الصف الوطني جراء احتدام الصراع بين حركتي فتح وحماس لسنواتطويلة، والذي لم ينتج غير التشتت والتفكك والهشاشة والمعاناة . ستظل المنطقة مشتعلة وبؤرة ساخنة .وسيظل الصراع محتدما وقائما .مالم تقتنع إسرائيل بحقوق الفلسطينيين. ومالم تقتنع بأن امنها الحقيقي والفعلي يمر عبر الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية مع تمتيع هذه الدولة بكل المقومات الضرورية وخاصة الأرض والأمن والموارد.لا يجب أن تظل إسرائيل الدولة والمجتمع والنخب سجينة الرؤية العسكرتارية التي تصور الفلسطيني على أنه إرهابي وخطر لا يؤتمن. ومصدر خوف وتوجس مرضي . هناك مسار واحد لضمان الأمن والسلام. هذا المسار هو القبول بفكرة التعايش وبمبدأ حسن الجوار . ليس هناك شك في أن إسرائيل إذا تسلحت بالشجاعة الأخلاقية وأقدمت على مراجعة جريئة لمواقفها المتصلبة ومعتقداتها المطلقة ومسلماتها التي يتأسس معظمها على الأسطورة. وقبلت بإلانسحاب من الأراضي التي احتلها عام 1967 وبتفكيك المستوطنات وذعنت لقرارات الشرعية الدولية وتخلت عن سياسة التمييز العنصري .فإنها سترتاح وتريح .ستضمن السلم وستكون عنصر تقدم وتنمية. و يمكن وقتها أن تتحول الى مصدر إلهام ديمقراطي .وستجد نفسها تمثل الدينامو المحرك لعدد من الانتقالات. وإذا استعصى على إسرائيل الانخراط في هذا الورش التاريخي. فإنه من الممكن أن تفكر في حل الدولة الديمقراطية الواحدة ،المتصالحة مع كل مكوناتها والمؤمنة بحقوق جميع هذه المكونات .دولة متعالية عن العرق والعصبيات والمذاهب والمعتقدات والخرافات .دولة تتسع للجميع وتحترم فيها المؤسسات والفضاءات التي تمارس قيها الشعائر الدنيية . بعيدا عن الاستفزازات واستدعاء الأساطير كما يحدث اليوم لإهانة المسلمين والمسيحيين والمساس بمقداستهم. وما حدث في جنوب إفريقيا عقب إطلاق سراح المناضل نلسون مانديلا بداية التسعينيات. من خلال إنهاء عهد وسياية الأبارتيد واتفاق السود والبيض على التعايش والعيش معا في ظل دولة ديمقراطية تحكمها القوانين والمؤسسات والقيم المشتركة .علما أن تاريخ البيض والسود في جنوب إفريقيا يضج بالمجازر والمآسي وأقصى درجات الإهانة والاحتقار والحيف والاضطهاد والإقصاء والنبذ. لكن عندما احتكم البيض الى الحكمة والتعقل والواقعية وقرروا طي صفحة الصراع والاحتقان ودفن سياسة الميز العنصري. والدخول في عهد جديد تحت مسمى العدالة الانتقالية بعيدا عن أي انتقام أو حسابات ضيقة .وانتخاب مانديلا السجين السياسي السابق أول رئيس أسود وصل الى السلطة بشكل ديمقراطي. انتهى كل شيء وأصبح تاريخ معمد بالدم والصرخات والأنين والاعتقالات والمذابح جزءا من الماضي . طبعآ النسيان تمرين صعب. لكن إرادة البناء والعيش المشترك انتصرت في النهاية. وهاهي إفريقيا الجنوبية تعيش في سلام وامن رغم أن المسار لم يكن كله مفروشا بالورود. أكيد أنه كانت هناك تحديات ومشاطل وصعوبات ومخاضات .لكن مع مرور السنوات كان قطار السلم والأمن والتعايش والاندماج يتقدم أماما ويسير بسرعة الى محطة الأمان. هذا مشروع ثوري يتطلب قدرا عاليا من الاستعداد الذهني والنفسي ومن التضحية لقبول عدو الأمس جارا أو مواطنا في نفس الدولة .كما يستدعي تراضيا وتوافقا وتفاهما واتفاقا مع هذا العدو. وسواء قبلت إسرائيل باتخاذ قرار تاريخي بالانسحاب من كل الأراضي التي احتلتها 1967و بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين واعترفت بها دولة كاملة السيادةوبعودة اللاجئين . أو انتصرت للخيار الآخر المتمثل في حل الدولة الواحدة الديمقراطية المتعددة العلمانية . رغم أن هذا الخيار استنادا الى الواقع النعقد والوقائع المؤلمة والتلريخ المتورم .قد يبدو ضربا من الخيال.في كلتا الحالتين سيرحب بها الجميع .وستصبح إسرائيل جزءا من جغرافيتنا و محيطنا .ولن تبقى مرتبطة في الأذهان والعقول والذاكرات بالقمع والإسيتطان والاحتلال والميز العنصري والتعصب والعربدة والعجرفة .