عادة ما تشكل الخطب الملكية في ذكرى عيد العرش مناسبة لبسط حصيلة الإنجازات، وعرض الرؤية الملكية بالنسبة لمستقبل المشاريع التنموية، من خلال توجيه مختلف الفاعلين بشأن خارطة الطريق الواجب اتباعها في مختلف مناحي الحياة العامة. هذه المناسبة تُحاكي اليوم بقرابة ربع قرن من الحكم، عقودا فريدة من الحكامة، لترصع اثنا عشر قرنا من النظام الملكي، وتحول المغرب من بلد يطمح لتعزيز الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي إلى نموذج يقتدى في شمال افريقيا والشرق الأوسط، وتجعل منه قوة إقليمية في هذه المنطقة، وكذا بين ضفتي قارتين عانت من أحداث ومحطات تاريخية حالكة. وإن المؤشرات الفارقة في هذا التحول نلمس معالمها أولا في نموذج الحكامة الملكية الذي شهد بفاعليته ارتقاء اُسلوب تدبير مختلف الأزمات، والتي وضعت التجربة المغربية على المحك، نذكر منها ملف الوحدة الترابية الذي أخرج الآلة الدبلوماسية، بفضل مقترح الحكم الذاتي، من بوثقة الانحسار والجمود إلى دوائر تسجيل الانتصارات المتتالية، وعلى جبهات متعددة أركست أجندات الخصوم ومنحت مناعة وصلابة لمختلف التحركات الدبلوماسية. فلم يعد هناك من سبيل للمناطق الرمادية ضمن مواقف الدول من القضية الوطنية، فإما توضيح الموقف من المقترح المغربي، وإما فداء بأنصاف الحلول، حتى تتضح ملامح التسوية الكاملة لهذا الملف. فكان الرد من القوى الكبرى التي اعترفت بالسيادة الوطنية على الصحراء، وما كان ذلك ليغير من توابث السلوك الخارجي للدولة، بل تزكى بالحفاظ على سياسة اليد المدودة للحوار والمصالحة وفتح الحدود مع الجارة الجزائر، لينم عن رؤية متبصرة وحكمة في تقدير مآلات توازنات القوة في المشهد المغاربي. هذا علاوة على تغطية وملء المحافل الدولية كبديل عن سياسة المقعد الشاغر التي لم تجد إلا التراجع لفائدة الخصوم، وذلك من خلال تأييد المطلب المغربي لدى الرافضين وغير الحاسمين في مواقفهم بمجموعة من الدول الافريقية جنوب الصحراء وفي أمريكا اللاتينية. فكان اختتام الرئيس الأمريكي الأسبق دولاند ترامب ولايته بإعلان الاعتراف بسيادة المغرب على أراضيه الصحراوية خير دليل على نجاعة هذه الحكامة وأقوى مؤشر على مردودية الحصاد الدبلوماسي وتأكيد على منحى الارتقاء. لا ننسى أيضا كيف نجح النموذج المغربي في حسن تقدير مآلات الاحتجاجات الاجتماعية التي عصفت بالعديد من الأنظمة في المنطقة العربية، وكيف كانت تداعياتها مخزية على المجتمع والسلطة والاقتصاد في مجموعة من الأقطار. ولما كان الاستقرار يضاهي من حيث أهميته قيمة أي مؤشر نوعي يساهم في نهضة بلد، كان رد فعل المغرب أسرع من مهب ريح تصدير أزمة أتت على الأخضر واليابس من مقومات أنظمة لم تملك لقدر التاريخ سوى الاذعان لحتمية الزوال. فقد ساهمت الأهلية السياسية التي تمتع بها المغرب اقليميا ودوليا في تدبير المرحلة عقلانيا، وتمكن من إسدال الستار على فصل الربيع العربي من خلال تعاقد اجتماعي جديد خط فصوله دستور فاتح يوليوز لسنة 2011، ليؤكد على سلامة النموذج المغربي في تجاوز كل المخاطر المحدقة، ويبرهن على فاعليته في استباق الزمن من خلال تذليل الانتقال من ملكية تقليدية إلى ملكية عصرية، وتوسع من صلاحيات مؤسسات دستورية دون أن تفقد جوهر وجودها العابق في التاريخ. لا شك أنه إلى جانب التحديات السياسية التي طرحتها المرحلة، كانت الحكامة الملكية ناجعة في تدبير الأزمة الاقتصادية والصحية التي خلفتها جائحة كوفيد. فقد اتخذت تدابير حاسمة وفي توقيت جد مناسب، ساهم في تطويق الأزمة الصحية ومواجهة التحديات الاقتصادية الناجمة عنها. فكانت هذه الجائحة فرصة أعطت للمنتوج والقدرات المغربية مكانتها في المنظومة الإنتاجية، وحصنت السيادة في مختلف أبعادها بسياج منيع لا يسمح باللجوء إلى الخارج إلا للضرورة. فإذا كانت الأزمات في التدبير السياسي محكا حقيقيا في قياس الأداء والتقويم والتصحيح، فإن هذه الأزمة المتعددة الأبعاد، والتي أثرت في قوى اقتصادية وازنة، كانت لها تداعيات على الجانب الاجتماعي والاقتصادي للمغرب، غير أن الملك محمد السادس خلق منها فرصة دافعة للنموذج التنموي بغرض الإعتراف بدور العائد الديموغرافي في تحصين المناعة الوطنية للإنتاج المحلي، وذلك من خلال توجيه السياسات العمومية نحو مزيد من التصنيع والإبداع الاقتصادي، وتحقيق التحول الطاقي عن طريق استدامة الحلول البديلة مراعاة للإكراهات البيئية، وإصلاح المنظومة الاجتماعية بتعزيز مناعة الجسم المغربي من خلال توسيع الحماية الاجتماعية وشمولها لكل الشرائح الاجتماعية. ذلك ومن يعظم شأن الجدية ويحارب العبث التدبيري، فإنها من تمام الحلول السياسية في بلوغ الأهداف والمرامي الناهضة بالأمم. لذا يحتاج صقل النجاح البحث عن شروط استدامته، والنأي به عن كل ما من شأنه أن يعرقل سبيل تحقيق مقوماته. لذا تحتاج المرحلة إلى البحث في أسباب عدم دوران النخب الإدارية والمحلية والسياسية والاقتصادية، بالشكل الذي لا يكفل ضخ دماء جديدة في منسوب الدفع بإنتاجية المجتمع للارتقاء بين مصاف الدول الصاعدة في مختلف المجالات. فالالتزام بالنتيجة في التدبير لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقترن بتواصل استمرار بعض الأمراض التي لا مجال لزوالها من دون استئصالها من الأصل. ذلك أن استمرار المراتب غير المشرفة لمؤشر ادراك الفساد بتقارير العديد من المنظمات المختصة، وعلى الرغم من كل الإجراءات المتخذة والاستراتيجيات والخطط المعتمدة، لا يمكن أن نربطه بمحدودية ربط المسؤولية بالمحاسبة فحسب، بل باستمرار بعض مظاهر الزواج غير الطبيعي الذي تعرفه بعض مواقع المسؤولية السياسية بمنافذ السلطة الاقتصادية، وذلك على النحو الذي تتنازع فيه المصالح وتختلط فيه المزايا، وتضيع فيه المصلحة العامة بين المصالح الخاصة. فالكلفة التي يتكبدها الاقتصاد بالتبعية، والتي تؤثر لا محالة على قطاعات إنتاجية متعددة، تتطلب استعادة النسبة المفقودة من الناتج الإجمالي الوطني جراء هذا الوضع، وتستلزم قرارات جريئة لا تقف عند عتبة الإجراءات الضريبية والجمركية المقحمة في مشاريع قوانين المالية السنوية من لدن الأغلبية لتزيد من حصة المقاولات من الثروة، دون اكتراث بالقدرة الشرائية للمواطن المغربي المتراجعة، بل تتطلب اجراءات جريئة ومبتكرة تساعد النظام الضريبي على القيام بالدور التصحيحي في تحقيق التغيير الاجتماعي، وإعادة توزيع الثروات بين من زادتهم العولمة غنى، ومن حط الريع من مطمح ارتقائهم في السلم الاجتماعي، ولم تترك لهم الرشوة والزبونية مناصا من أمل التفكير في تحقيق الذات أو إثبات الوجود الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. بيت داء الجدية العبثية في التدبير، فحين لا ترسم حدود الاختصاصات تتداخل مصالح القطاعات ويصبح بديل الاحتكام للقانون الاستقواء بالنفوذ، ويضيع تخليق الحياة العامة في بحر ظلمات الارتجالية، فلا تنفع مخططات تنموية ولا تدبير بالتوقع أو رسم للسياسات بتحقيق النتائج، بل يصير مبدأ دولة الحق والقانون شعارا أجوف لا يتناسب مع المستويات الضعيفة لإنفاذ القانون ولنكوص العدل بغياب العدالة. فالثابت عبر الحقب والعصور أن الاحتكام إلى الضوابط القانونية، يبقى الشرط الذي لا محيد عنه لدمقرطة الحياة السياسية وإرساء الحق في مناهضة الإفلات من العقاب والعبث بالمال العام ورهان مأسسة دولة الحق والقانون مهما اختلفت طبيعة أنظمة الحكم أو تغيرت صروف الدهر.