مع مرور قرابة سنتين من سيطرة حركة طالبان على أفغانستان؛ وتشكيل حكومة مؤقتة تمسك بزمام أمورها الحركة؛ بدأت تلوح في الأفق بعض ملامح النظام السياسي التي تسعى الحركة لرسم معالمه؛ ويبدو أن الحركة بدأت تستوعب دروس الماضي؛ وتتجه نحو ( مراجعات فكرية ) يترجمها عمل الواقع والميدان... من هنا يمكن القول أن من يصنف جماعة طالبان في خانة السلفيين الجهاديين فهو حتما لا يفهم طبيعة التركيبة الجهادية؛ أو أن معلوماته عن الحركة سطحية ولو ادعى خلاف ذلك ! وهناك الكثير من الباحثين يخلط بين منهج طالبان وبين منهج داعش والقاعدة والجماعات السلفية الجهادية المتطرفة الأخرى؛ في هذه الورقة سأحاول وضع أوجه الفرق بين جماعة طالبان وباقي التيارات السلفية الجهادية الأخرى؛ وذلك بناءا على مجموعة من المعايير الفكرية والأدبية والحركية التي يمكن من خلالها التمييز بين منهج الحركة وباقي الجماعات الجهادية الأخرى ؛ خاصة تنظيمي الدولة والقاعدة. أولا: حركة طالبان هي حركة تحرر وطني؛ وإن أعطيت صبغة دينية فهي لا ترى بالعمل خارج حدودها؛ وتؤمن بمبدأ الوطنية ومبدأ السيادة؛ عكس باقي التيارات الجهادية التي ترى في الوطنية وثن يعبد من دون الله؛ وأن لا سيادة إلا لله؛ والحركة ترغب في تأسيس العلاقات مع دول الجوار؛ وقد سعت فعلا إلى ذلك عبر نسج علاقات دبلوماسية مع مجموعة من الدول على رأسها باكستانوإيران وطاجكستان وغيرها من الدول؛ وهي بهذا تؤمن بمبدأ الحدود التي تعتبرها الجماعات الجهادية الأخرى أنها مجرد ( أوثان ) صنعت على يد سايكس _ بيكو .. كما أن الحركة تسعى لبناء علاقة مع النظام الدولي ؛ وتعمل على استعادة مقعدها في منظمة الأممالمتحدة؛ وقد صرح وزير الخارجية في حكومة طالبان المولوي أمير خان متقي؛ أن الحركة تسعى لبناء علاقات طيبة مع كل دول العالم بما فيهم الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ وهي بذلك تعترف بالمنتظم الدولي بما فيه من عيوب وعوار.. ثانيا: عقديا هي أشعرية ماتريدية؛ حنفية في المذهب؛ صوفية في السلوك؛ وهم ما بين نقشبندية أو قادرية وهم من أهل الذكر والخلوات وربما وصلت خلوة أحدهم أكثر من أربعين يوما ! وهكذا تكون الحركة نقيضة للوهابية في كثير من مباحث الاعتقاد خاصة الأسماء والصفات وأقسام التوحيد؛ يتهمها الوهابيون والسلفيون؛ بمختلف مشاربهم أنهم فرقة ضالة مبتدعة معطلة للأسماء والصفات ! وقد كانت الحركة تمنع كتب الوهابية من الدخول إلى أفغانستان أيام حكمها وكانت تصادرها خاصة تلك التي كانت تحمل شعار " يهدى ولا يباع " ! وهذا بشهادة من عادوا من هناك؛ والكثير من الباحثين لم ينتبهوا إلى نقطة مهمة حين دخل شباب الحركة إلى القصر الرئاسي ؛ حيث قاموا بقراءة مقاطع من أذكار كتاب ( دلائل الخيرات ) ! وهو كتاب من تأليف محمد بن سليمان الجزولي المتوفى سنة 870 ه، جمع فيه صيغ في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو يعدّ من أشهر الكتب في هذا المجال؛ مما جعله محط اهتمام كثير من العلماء قديما وحديثا وخصوصا الصوفية منهم، فجعلوه جزءا من أورادهم التي يقرأونها صباحاً ومساءً. وقد بذل أيضا حكام المسلمين وأمراؤهم بهذا الكتاب وبذلوا في نسخه وتوزيعه بين البلاد وكان آخرهم السلطان عبد الحميد العثماني؛ وحين دخل شباب الحركة القصر قرؤوا مقتطفا من كتاب دلائل الخيرات وهو كما قلنا كتاب جمع فيه صيغ الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ هذا الكتاب يعتمده الصوفية في ممارستهم الدينية ؛ ويقرؤونه في الزوايا والأضرحة؛ وفي المغرب يتلى في قناة السادسة بين الفينة والأخرى؛ ما يعني أن الحركة بعيدة كل البعد عن التيارات السلفية خاصة الوهابية منها ..! ثالثا: الحركة طورت في بنيتها الفكرية؛ واستفادت كثيرا من المذهب الحنفي المرن بشكل أكبر؛ خاصة في باب العلاقات مع الآخرين؛ فالمذهب الحنفي لا يرى بما يسمى " جهاد الطلب " وهكذا هي لا ترى بالعمل خارج حدودها؛ ولا تتبنى مشاريع توسعية ولا حتى مشروع ( الخلافة ) ! وهناك من يعتقد أن الحركة أيدت تنظيم القاعدة في استهدافها للولايات المتحدة في عملية 11 سبتمبر 2001 ؛ مع أن القاعدة خططت للعملية وتبنتها دون علم مسبق من الحركة؛ وهناك روايات تناقلتها ألسن من كانوا في القاعدة؛ خاصة من كانوا في مجلس الشورى القاعدة؛ مثل أبو حفص الموريتاني؛ حيث يقول أن طالبان لم تكن على علم مسبق بعمليات الحادي عشر من سبتمبر؛ وهناك رواية أخرى تفيد أن بن لادن عرض الفكرة على الملا عمر ورفضها؛ وهو ما يظهر جليا الفرق المنهجي والفكري والحركي بين الحركة والقاعدة؛ ويظهر هذا جليا حين ينقلب الزرقاوي على الحركة؛ ويعود للعراق ليكفر الحركة؛ وهو ماسبب في خلاف وانقسام داخلي في تنظيم القاعدة؛ فكيف تكون الحركة سلفية جهادية وهم يفكرونها منذ وقت بعيد ! بل إن بعد شباب التيار السلفي ذهب للقتال مع الحركة في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي؛ فرأى بعض أفرادها يدخنون؛ فحمل حقابه وعاد إلى بلاده مُفَسِّقاً مُبَدِّعا مُكَفِّراً لهم! رابعا: يستغرب البعض من استماتة الحركة في التمسك بمواقفها ومبادئها فيما يتعلق بتصورها الخاص للشريعة الإسلامية؛ وفي تقديري أن هذا أمر طبيعي من جماعة خرجت من رحم المدارس الإسلامية التقليدية؛ فجل أفرادها ومنتسبيها وقادتها من الطلبة والعلماء والمشايخ؛ وزعيمهم هبة الله أخ زاده عالم محدث؛ بارع في الحفظ والسند والرواية والدراية ! والمولوي عبد الحكيم حقاني؛ رئيس القضاة؛ كان رئيس فريق التفاوض؛ وخدم رياسات ( محكمة التمييز ) ودار الإفتاء ؛ له عدة كتب منها (روضة القضاء ) ( والشمائل ) وهو رجل ضليع في مبادئ ومنهجيات الاشتقاق الفقهي؛ وله قدرة عجيبة في استنباط النصوص القانونية والفقهية معا ! حيث طريقته في ذلك تنزيلها مع مراعاة الأهداف الشاملة من حيث صلتها بالمقاصد والضرورات ! أما المولوي شهاب الدين ديلوار؛ عضو المكتب السياسي للحركة؛ فقد شغل سابقا منصب رئيس محكمة النقض؛ وكان سفيرا في إسلام أباد ثم المملكة العربية السعودية؛ يجيد اللغة العربية والإنجليزية والرادية والباشتو؛ وقد ألف شرحا لصحيح البخاري من أربع مجلدات؛ سماه (شهاب الباري في شرح صحيح البخاري) ومجلس الشورى عندهم يتكون من العلماء والفقهاء؛ فهي إذا هي جماعة ثيوقراطية دينية؛ لذلك يخشى الغرب أن تنشأ عنها دولة ثيوقراطية لا تتماشى مع مبادئ النظام الدولي وقيمه التي ترى الحركة أنها تخالف الشريعة الإسلامية. خامسا: الحركة غيرت كثيرا في بعض أفكارها؛ وطورت منهجها الحركي؛ بحيث أصبح لها خطاب سياسي أكثر مرونة واعتدالا ونضجا مما كان عليه في السابق؛ حتى أنهم تفوقوا بذلك على جماعة الإسلام السياسي؛ وسر ذلك أن خطابهم يتسم بالصراحة والضوح في الطرح والرؤى؛ ولا يعرفون لغة الخشب والمراوغة والمناورة ! سادسا : الحركة أظهرت حسن نيتها في تأسيس نظام يجمع كل أطياف المجتمع الأفغاني بغض النظر عن طبيعة هذا النظام؛ وذهبوا أبعد من ذلك حيث عبروا عن نياتهم في إشراك جميع مكونات الشعب الأفغاني في الحكومة التي يراد تشكيلها. وأصدروا عفوا عاما شاملا على كل خصومهم السياسيين بمن فيهم أشرس معارضيهم ( عبد الرشيد دستم؛ بينما داعش كانت تستتيب خصومها لأنها ترى فيهم مرتدين ! بل وتبين لاحقا أن داعش قتلت وأعدمت حتى من استتابتهم ! انفتاح الحركة وتسامحها هذا وضع الغرب في حرج ؛ بحيث لا هو استطاع قطع العلاقة كليا مع الحركة؛ وفرض حصار عليها؛ ولا هو اعترف بها كممثل رسمي للشعب الأفغاني؛ كما أنه فوت الفرصة على الغرب في التدخل في شؤون أفغانستان الداخلية؛ وهو الأمر الذي أصر عليه حركة طالبان بحيث تطالب الدول الغربية باستمرار بعدم التدخل في شؤونها الداخلية. سابعا: الحركة أظهرت منذ 2018 قدرة عالية في المفاوضات؛ وقد نجحت في ذلك بالتوازي مع نجاحها في الميدان؛ وأرسلت وفودها إلى كل الدول المجاورة؛ في خطوة منها لطمئنة جيرانها والرغبة في بناء علاقة جوار قوية؛ وقبل ذلك وقعت مذكرة اتفاق مع واشنطن.. ووزعت الاتفاقية على الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي وتم إقرارها في أحد قرارات مجلس الأمن الدولي؛ وهذا اعتراف ضمني بأن الحركة باتت منفتحة أكثر من أي وقت مضى. ثامنا: الحركة التزمت بأن تضمن سلامة البعثات الدبلوماسية وتعهدت أمام المجتمع الدولي أن لا تكون أفغانستان حاضنة الإرهاب أو منطلق للعدوان على دول خارج حدود أفغانستان؛ وقدمت في ذلك العهود والمواثيق؛ وهو مافعها لفك الارتباط مع تنظيم القاعدة؛ كما أن هذا الالتزام سبب لها مشاكل مع داعش؛ حيث تقوم هذه الأخيرة بين الفينة والأخرى بشن هجمات إرهابية في أماكن مختلفة في أفغانستان. تاسعا: الحركة سيطرت على معظم الولايات سلميا؛ هنا يمكن أن نوضح الفرق بين استيلاء الحركة على البلاد بطريقة سلمية؛ وإطلاق مشروع العفو العام الشامل؛ وتسامحها مع خصومها؛ وبين استيلاء الدواعش على مساحات شاسعة في العراق وسوريا؛ حيث قاموا بإبادات وحشية وجماعية. عاشرا : قد يكون للحركة نوع من التشدد في بعض القضايا؛ وهذا راجع إلى طبيعتها الدينية والأيديولوجية؛ وقد تقوم بمصادرة بعض الحريات؛ لكن في تقديري مسألة الحريات هي نسبية في كل دول العالم حتى في العالم الغربي المتقدم مثلا ماكرون كان متشدد مع الصحفي الذي رسمه على هيئة هتلر ! وقس على هذا في بعض بلدان العالم العربي وربما أسوأ ! وحتى في مسألة الديموقراطية والحرية هي مسألة تختلف نسبتها حسب البلدان وطبيعة النظم السياسية؛ ففي إيران. توجد دولة ثيوقراطية يسيطر عليها رجال الدين؛ كما في الصين حكم الحزب الواحد؛ كما في كوريا الشمالية غياب لأبسط معالم الديموقراطية. وفيما يتعلق بالأقليات فإن الحركة أبدت تسامحا غير مسبوقا في هذا الجانب؛ وحضرت معهم مراسيم العزاء؛ وطمأنتهم على حريتهم في ممارسة ما يعتقدونه دون خوف أو جلل ! وبسبب التاسمح تواجه الحركة هجمات عنيفة من داعش ؛ وهو ما يضعها في الاختبار الصعب ما إن كانت هذه الحركة قادرة على ضبط زمام الأمور في أفغانستان.