"تداعيات غير مسبوقة للفساد على الثقة في المؤسسات والجهود المبذولة" أكدت نتائج الدراسات والأبحاث والتقارير التي أنجزتها الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، وكان آخرها تقريرها السنوي لسنة 2021، "التداعيات غير المسبوقة لآفة الفساد على اهتزاز الثقة العامة في المؤسسات وفي مختلف الجهود المبذولة والتي يعد تعزيزها جسرًا أساسيًا لا محيد عنه لوضع قطار التنمية على سكة مسار متين وشمولي ومستدام، وخلُصت الهيئة إلى التأكيد على أن التداعيات الوخيمة للفساد تمتد إلى إضعاف دينامية التنمية، وإعاقة بنيات الإنتاج، وتعميق الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية". ولم يفت الهيئة أن ترصد تطور الفساد على المستوى الوطني من خلال استطلاعات الرأي المنجزة في إطار مؤشر الثقة الذي جاءت نتائجه برسم سنة 2021 لتؤكد على التغلغل الكبير للفساد، حيث اعتبر 95 في المائة من المستطلعين أن الرشوة منتشرة على نطاق واسع في المغرب، منهم 66 في المائة يعتقدون أنها منتشرة جدا، و 27 في المائة يرون أنها منتشرة إلى حد ما. في الحقيقة هناك إجماع حول ما خلصت إليه الهيئة من تحاليل واستنتاجات، في تقريرها السنوي الأخير لسنة 2021، حول واقع الفساد في بلادنا بل ونبهت إليه منذ سنوات عدد من التقارير الوطنية والدولية التي ما فتئت تدعو إلى تصحيحه بإجراءات هيكلية ملموسة، ومنها تقرير بنك المغرب الأخير، برسم سنة 2021، والذي قدم أمام جلالة الملك، والذي كان واضحا في تأكيده على أن هذا الوضع يستدعي إعادة النظر في المقاربات المتبعة إلى الآن، واتخاذ إجراءات أكثر قوة وحزما. "المراجعة العميقة والشاملة لمنظومة مكافحة الفساد" وفي هذا الاتجاه عمل التقرير السنوي للهيئة، من خلال الطرح التشخيصي والاقتراحي والتدبيري الذي قدمه، على إثارة الانتباه إلى ضرورة التحلي بالجرأة اللازمة لمراجعة عميقة وشمولية لمنظومة مكافحة الفساد، في ظل عجز المجهودات المبذولة حاليا عن إخراج بلادنا من خانة الدول التي تعرف منحنيات متردية للفساد. صحيح لا يمكن إنكار أن هناك مجهودات تبدل من خلال بعض السياسات العمومية، إلا أن تأثيرها الفعلي والإيجابي يبقى ضعيفا وغير ملموس ولا يعتد به، وما يؤكد ذلك هو تفاقم الفساد بمختلف أشكاله وصوره وفي عدة مجالات وقطاعات استراتيجية وحساسة الشيء الذي يضعف دينامية التنمية والنمو الاقتصادي، ويهدد التماسك الاجتماعي، ويعوق وضوح الرؤية مما يقف حائلا دون بلوغ الإمكانات الحقيقية للتنمية ببلادنا، والتي سبق وتطرق لها تقرير لجنة النموذج التنموي. وبناء على هذا الواقع خلص التقرير السنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها إلى أنه "أصبح من الضروري تسريع الانتقال الفعلي والنوعي إلى مرحلة جديدة في مكافحة الفساد ببلادنا قوامها التماس الوقع المباشر على الشرائح الاجتماعية الواسعة، وإعادة بناء الثقة لدى سائر المعنيين لضمان انخراطهم في مسار هذه النقلة". إلا أن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق دون رؤية شاملة وموحدة يتم تصريفها عبر سياسات جريئة وحازمة لتطويق ممارسات الفساد ومواجهة الأعطاب التي تطال منظومة الحكامة في بلادنا، وأيضا من خلال أولويات ذات أثر ملموس تجعل من الفساد يأخذ منحنى تنازليا قويا ومستداما. ولتحقيق النقلة النوعية المطلوبة والتفاعل العملي والموضوعي مع واقع الفساد في بلادنا قدم التقرير عددا من الخلاصات والتوجهات العامة والتوصيات انتهت من خلالها الهيئة إلى التأكيد على ضرورة جعل محور الحكامة ومكافحة الفساد يتبوأ موقع الصدارة في بلورة وإعداد السياسات العمومية الهادفة إلى تحقيق التنمية، لضمان بلوغها وتحقيقها للأهداف المسطرة . كما أكدت على أهمية الرفع من منسوب الثقة والانخراط في جهود مكافحة الفساد، من خلال ضمان شروط النهوض بحركية مواطنة تدعم الجهود المؤسساتية برفض الفساد والتبليغ عنه. وأوصت الهيئة أيضا بتثبيت المفاهيم الجديدة للخدمة العامة المؤطَّرة بالحكامة المسؤولة. كما أكدت على أهمية تعميق المعرفة الموضوعية بظاهرة الفساد للتمكن من رصد تمظهراته وبؤر انتشاره، واستظهار أسبابه وآثاره، وصولا نحو استهدافه بالآليات المناسبة لمكافحته والوقاية منه. انعدام التجاوب والتفاعل مع التقارير والتوصيات يعيق محاربة الفساد. في ظل انعدام تجاوب وتفاعل الجهات والسلطات المعنية مع التوصيات الصادرة عن الهيئة في تقاريرها السنوية منذ 2019،وهذا ما أكدته من جديد في تقريرها السنوي الأخير، ماعدا الاستجابة النسبية لتوصياتها المتعلقة بمراجعة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، سيجعل من تحقيق النقلة النوعية في محاربة الفساد مجرد يوتوبيا/أحلام وأماني، وهنا يطرح التساؤل: عن جدوى تقارير وتوصيات هذا النوع من المؤسسات الدستورية وعن مبرر وجودها أصلا ولما تصرف عليها الأموال وما القيمة المضافة لها في البناء المؤسساتي، وما علاقاتها بباقي المؤسسات والسلطات الأخرى إذا لم تجد، على الأقل وذلك أضعف الإيمان، تقاريرها وتوصياتها وآراءها طريقها إلى التفعيل والتفاعل معها بما يخدم دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون ويدعم ويوطد مسلسل الدمقرطة في بلادنا ولكي لا تتحول إلى مجرد تخمة مؤسساتية زائدة، شكلية، صورية، ومكلفة. وفي الأخير يطرح أيضا التساؤل: "هل هناك إرادة سياسية حقيقة لجعل بلادنا قادرة على تطويق آفة الفساد والتحرر من آثاره والارتقاء بها إلى المستوى اللائق بها عالميا، وضمان ظروف الكرامة والازدهار والرخاء لكافة المواطنين من الأجيال الحالية والمستقبلية... !؟ * د.هشام مدعشا/جامعي