حدث 2 مارس 1956، أن اعترفت فرنسا رسميا باستقلال المغرب، ثم بعد شهر (7 أبريل) تبعتها إسبانيا، فاستقرّ احتفال المغرب بعيد الاستقلال على تاريخ 18 نونبر من كلّ سنة، وهو يوم يخلّد ذكرى خطاب محمد الخامس بعد عودته من المنفى سنة 1955م. رغم هذا الاحتفال وذكر حيثيات حدث الاستقلال، إلا أنه بعد 66 سنة على رحيل فرنسا من المغرب، لا زال من المغاربة نخبة وفئات شعبية على حدٍّ سواء، يتسرّعون في التلفّظ والتعبير عن أفكار تصاغ بطرق عديدة مثل: المغرب لم يحصل على الاستقلال، فرنسا هي التي تحكم، ماما فرنسا، الاستعمار الثقافي والاقتصادي... مبدئيا، يختلف استقبالنا لهذه العبارات حسب السياق، فإن قيلت على وجه المجاز، فيكون الأمر عاديا، في إطار المبالغة، ولكن حينما ينقلب الأمر إلى قناعة راسخة بأن الاستعمار لا زال يتحكّم في القرارات الاستراتيجية للدولة المغربية، ساعتها تبدو هذه الأفكار في حاجة إلى نقاش. عموما الذي يدفع البعض إلى هذا النوع من التفكير هو الاستياء من الواقع السياسي والاقتصادي والتعليمي للمغرب، فيستنتج مما يستنتجه أن جزء من ثروات البلد ومصالحه تضيع بسبب سطوة الاستعمار التي لم تنقطع بعد الجلاء العسكري لفرنسا، هذه النظرة لا تستحضر التاريخ بتفاصيله، بل تنتقي الأحداث العامة، وبالضبط حدثين: توقيع اتفاقية الحماية 1912م، وإعلان الاستقلال 1956م، فتشكّك، كيف لدولة قوية مثل فرنسا أن تعيد السيادة إلى المغرب بسلاسة وبدون مقابل؟ نقابل هذا السؤال بسؤال آخر؛ ما هي تفاصيل مرحلة الاستعمار؟ هل كان جلاء فرنسا اختياريا؟ ثم هل كانت فرنسا هي الوحيدة التي استعمرت المغرب لتحافظ وحدها على هذا الاستعمار؟ ظاهريا تبدو الإجابات بدهية، والموضوع ليس في حاجة إلى نقاش، لكن ترّسبات مثل هذه الأفكار في ذهنيّة المجتمع، تؤدي إلى العجز على مستوى الفعل المجتمعي، في كلّ المجالات، لأن هذه الطريقة في التفكير تربط مسألة الإصلاح بجوانب غامضة، غير مفهومة، ولا تتوفر عليها معطيات (اتفاقات سريّة بين المغرب وفرنسا، أرشيف سري...). إذا لابد من العودة إلى تفاصيل أحداث الحماية الفرنسية-الإسبانية بالمغرب، لنكتشف أن هذه المرحلة التاريخية احتضنت عملية تحوّل كبيرة بالمغرب في معظم المجالات، لكن من الثوابت التي لم تتغيّر هي رغبة هذا الشعب في أن تكون له السيادة على أرضه، لذلك أبدع أشكالا متعددة من المقاومة، تطوّرت بشكر متسارع، وتلوّنت حسب السياقات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية، ثم جاء حدث الاستقلال في النهاية كنتيجة لفعل المقاومة الذي لم ينقطع طيلة فترة الحماية، ولم يكن حدثا فجائيا، تولّد عن رغبة فرنسية-إسبانية في إعادة الحرية والسيادة للشعب المغربي. بعد الاستقلال راجت أفكار توهم بأن فرنسا لازالت تحكمنا، وهي وقائع حقيقية تفسّر بطريقة خاطئة، لن أتكاسل في استعراض نماذج منها: – الكثير من الشركات الفرنسية تسيطر على الاقتصاد المغربي وتجني أرباحا تَعبر البحر كلّ دقيقة إلى ماما فرنسا. – السيطرة الثقافية الفرنسية على الاقتصاد والإدارة في البلاد، حيث لا زالت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية لمعظم الشركات والإدارات الكبرى بالمغرب. – استمرار تبعية التعليم المغربي للنموذج الفرنكفوني، لغة ومنهجا. لا ينكر مغربي هذه الحقائق، بل يعيشها يوميا وكلّه حسرة، لكن السؤال هل هي قرائن تثبت أن فرنسا لازالت تستعمر المغرب؟ قبل أن نعود إلى التاريخ ليجيبنا عن الحقيقة المعقّدة، فلنبدأ بالحقائق التي ذكرناها، واحدة واحدة. ألم يبق الحضور الاقتصادي الفرنسي بعد الاستقلال قويا في المغرب بينما تمّت تصفية جميع الشركات الإسبانية في الشمال، وأطلال المصانع الإسبانية بهذه المنطقة شاهدة على ذلك، بصيغة أخرى ألم يكن المسؤولون المغاربة قادرون على تخليص الاقتصاد الوطني من قبضة الفرنسيين خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؟ بل حتى في الماضي القريب والحاضر المُعاش ألا يقع الاختيار على الكثير من الشركات الفرنسية لتفويض التدبير في قطاعات مختلفة، وتصرف لهذه الشركات أموال طائلة؟ نفس الأمر بالنسبة للسيطرة الثقافية الفرنسية على الاقتصاد والإدارة، ألم تتح الدساتير المغربية -منذ أول دستور (1962) إلى آخر تعديل دستوري (2011)- لأصحاب الشركات وللمسؤولين عن الإدارات المركزية بالمغرب أن تعرّب لغتها؟ خصوصا أن العربية لغة دستورية وقادرة على فتح أبواب التعاون والتكامل مع دول العالم العربي في هذه المجالات، بل حتى حينما تأكّد للجميع -خلال السبعينيات والثمانينيات- أن الإنجليزية أصبحت لغة الاقتصاد والتكنولوجيا والبحث العلمي بقيّت نخبة معيّنة متمسّكة بالفرنكوفونية. بالنسبة للتعليم بالمغرب، بعد الاستقلال مباشرة، أعلنت اللجنة العليا لإصلاح التعليم سنة 1957، إخراج الفرنسية من النافذة ليعيدها بعد ذلك مسؤولون آخرون من باب "الإصلاحات" التي لم تتوقف إلى اليوم. إن أكبر جريمة ارتكبها الاستعمار هي تكوين نخبة تشرّبت من ثقافته، وانقسمت إلى فئتين بعد الاستقلال: قسم ترتبط مصالحه بمصالح الاستعمار، وقسم ثانٍ مقتنع بثقافة الاستعمار، ويرى فيها طريقا تقود إلى تحديث المغرب وتنميته، وكلتا الفئتين تخدم الدول التي كانت مشاركة في جريمة استعمار المغرب، ومشكلة هذه النخب المُستلبة هي أنها فتحت الباب أمام إخراج ثروات المغرب إلى فرنسا على وجه الخصوص عبر وسائل متعددة. المغرب الآن بلد مستقلّ، تشارك في تدبيره فئة واسعة من النخبة الفرنكوفونية، وهي جزء من الشعب المغربي قبلنا ذلك أم لم نقبل، قد يكون لها دور بنّاء في حالة ما استثمرت إمكاناتها في فتح صفحة جديدة مع فرنسا، نتجاوز فيها عقدة النقص عند المستعمَر، ونرفض من خلالها التماهي مع الإملاءات الخارجية التي تحمل في طيّاتها جينات الاستعمار.