نزعم ببداية هذه المقالة، بأن الذي يجب أن يتركز عليه الاهتمام أكثر اليوم، لا سيما في ظل طفرة التكنولوجيا الرقمية في ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، إنما طبيعة وآليات العلاقة بين هذه الطفرة وبين ما يمكن أن نسميه بتوازن المعرفة بين النخب "العالمة" وبين المواطنين من جهة، وبين من له "الحق" في تحديد حدود المعرفة بجهة: من يمكنه أن يعرف ماذا؟ عمن يعرف؟ ما يمكن إخفاؤه؟ وما يتوجب كشفه؟ ما الذي يجب نشره؟ وما الذي يجب إخفاؤه وطمسه بالأرشيفات وبما سواها؟ ويبدو لنا أن طرحا من هذا القبيل يجد مشروعيته القصوى من كونه يحيل صوبا على إشكالية الصراع على السلطة، باعتباره صراعا غالبا ما تكون الغلبة فيه لمن له القدرة على التحكم في تدفق المعلومة وترويج المعرفة، من زاوية الاحتكار أو التضييق على الولوج أو منع النفاذ لهما بهذا الشكل أو ذاك. هذه مسألة يمكن للمرء أن يتأكد منها بالنظر إلى تاريخ تقنيات الإعلام والاتصال، وكيف أن وصول مستجدات تكنولوجية جديدة غالبا ما كان يتزامن مع صراع مستميت بشأن حق ركوب ناصيتها للوصول إلى المعلومة وإلى المعرفة، وتوظيفهما من لدن هذه الجهة أو تلك، كمنصة للفعل على مستوى الممارسة الاجتماعية والسياسية، ومن ثمة السيطرة على إنتاج المعرفة، ثم إنتاج المعنى، ثم إنتاج "الحقيقة"، حقيقة من يمتلك المعلومة والمعرفة وحواملهما في الآن ذاته. بيد أن الذي يجب الانتباه إليه أن هذه المستجدات لا تقوض بعضها البعض، بقدر ما يؤدي وصول مستجد ما إلى توسيع مساحات إنتاج المعلومة والمعرفة، ووضعهما في المجال العام عوض أن تبقيا حكرا على النخبة وعلى السلطة، والتي دأبت على تمريرهما بطريقة أحادية، فوقية، عمودية وإلى حد ما أبوية. فالسينما لم تقوض الصحافة المكتوبة، والإذاعة لم تركن هذه الأخيرة إلى الجانب، والتلفزة لم تأخذ مكان السينما ولا الصحافة المكتوبة ولا الإذاعة، والإنترنيت لم يقوض كل هذه الحوامل، وهكذا دواليك. صحيح أن هناك تهميشا نسبيا للمتقادم أمام المستجد. وصحيح أن ثمة إعادة نظر حقيقية في تراتبية هذه الحوامل، بمقياس الأهمية والأولوية. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن الذي وقع إنما تحولا في تموقعات القطاعات، وتطور في استراتيجيات الفاعلين من بين ظهرانيها، فيما بقيت إشكالية العلاقة بين منتج المعلومة ومستهلكها شبه ثابتة، لا بل قل إنها سايرت التطورات التقنية، دونما أن ينفذ ذلك إلى جوهرها أو إلى طبيعتها (جوهر وطبيعة العلاقة أقصد)، حتى وإن طالها على مستوى سعة المجال الذي تفعل ذات العلاقة فيه أو تتفاعل معه. ولذلك، فإننا نتصور أن وصول الإعلام الجديد، محمولا على ظهر الشبكات الرقمية، قد مكن وسيمكن أكثر في العقود القادمة، من إعادة ترميم اللاتوازن المعرفي القائم بين النخب عموما، والنخب الحاكمة على وجه التحديد، لصالح الجمهور العام، لا بل إن هذا الأخير قد يصبح هو ذاته، مصدرا مفتوحا لإنتاج المعلومة والمعرفة، ولربما أيضا للمعنى وللحقيقة أو لما سواها، متجاوزا بذلك على أطروحة "صناعة القبول" التي قام بالتنظير لها إينيس وأسس لها تشومسكي فيما بعد. إن المقصود مما سبق إنما القول بأن هذا الإعلام الجديد متزايد المد، سيعيد لا محالة ولو جزئيا، بناء توازن القوى بين السلطة والمعلومة والمعرفة، بفضل توفر الأداة التكنولوجية التي لم تعد حكرا على من يملك ثم على من يعرف، بل أيضا بفضل بروز وتكريس حقوق جديدة تضمن توازنا منصفا فيما بين عناصر الثلاثية وضمنا بالتأكيد الحق في الإعلام، في المعرفة وفي الاتصال. بالتالي فإن مفهوم الأرشيف والسرية والمراقبة والرقابة لن يكون لها بعد اليوم من قوة كبيرة تذكر، على الأقل بحكم ما تمكنه بنية التكنولوجيا الرقمية من سبل تخزين وأرشفة واستعادة المعلومات. هذه أمور باتت من البديهيات حقاً. بيد أن هذه السلطة الرمزية والمادية التي تمنحها التكنولوجيا الرقمية للجمهور العام، تضمر في جوفها نواقص ومفارقات، ومخاطر كبرى فضلا عن ذلك. إنها تمكن الدولة أيضا والنخب عموما، من إعادة بناء شبكتها في الرقابة والمعرفة، أي أنها تمكن الدولة من تجميع المعارف والمعلومات وتوظيفها لمراقبة حل الأفراد والجماعات وترحالهم في الزمن والمكان. الخطر في العملية هو القدرة الفائقة المتوفرة لدى الدولة على حشد الإمكانات التقنية وغيرها من تشفير وحجب بغرض إعادة استنبات أدوات الرقابة. والشاهد على ذلك أن الحكومة الأمريكية زادت من حجم "المواد المصنفة سرية" بأعقاب تسريبات ويكيليكس، من 9 ملايين مادة ممنوعة على الجمهور سنة 2001 إلى 16 مليون مادة في العام 2004.. ثم إن هذه التكنولوجيا الرقمية تمنح الدولة إمكانات هائلة في تتبع وتحديد مواصفات متصفحي الشبكات الرقمية، وتمكنها أيضا من تحديد أماكن تواجدهم والمواقع الإعلامية التي يلجونها أو يتبادلون معلوماتها فيما بينهم. يبدو لنا إذن أن الصراع بين أطراف الثلاثية أعلاه سيشتد ويتعمق، لكنه سيقتني في هذه الحالة، أدوات في المبارزة جديدة ومستجدة.