إن الحديث عن إصلاح مدونة الأسرة يقتضي بالضرورة استحضار مسار تنظيم التشريع الأسري بالمغرب الذي كان خاضعا لأحكام المذهب المالكي وإلى العديد من الأعراف المحلية عند العرب والأمازيغ وإلى القانون العبري المطبق على اليهود المغاربة بحيث بقي المغرب متأخرا عن المجهود العام لتدوين الفقه المغربي إلى ما بعد الاستقلال بتنزيل مدونة الأحوال الشخصية لسنتي (1957-1958) حيث كان هاجس المشرع آنذاك تماسك الأسرة واستقرارها عن طريق دعم نموذج الأسرة الأبوية ؛ وهو استقرار كان على حساب حقوق المرأة تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم الأعراف والعادات , خلافا لمدونة الأسرة التي أملتها التحولات التي عرفها العالم وانخراط المغرب في الاتفاقيات الدولية التي تهدف إلى النهوض بأوضاع المرأة ووفاءا لتعهده الدستوري الذي يلزمه بملاءمة تشريعاته الأسرية مع الاتفاقيات الدولية . والجدير بالذكر أن مدونة الأسرة تعتبر خطوة هامة ولبنة أولية نحو إصلاح شامل وحقيقي لتنظيم أسري رغم محدودية نتائجها قياسا مع ما هدف إليه المشرع المغربي ومن ورائه المجتمع المدني حينما انطلق من حقيقة مفادها أنها نصوص قانونية تتطور بتطور المجتمع وقابلة للتغيير وليست وحيا من السماء ولا علاقة لها بالطابع القدسي المطلق الذي حاول البعض أن يحيطها به. فما هي إذن آفاق الإصلاح المنتظر للمدونة؟ إن المتتبع لمسار تنزيل مدونة الأسرة سيلاحظ لا محالة أنها مرت عبر القنوات التشريعية العادية بعد المخاض الذي عرفته رغم كونها من صلاحيات الملك وهي سابقة خلصت التنظيم الأسري من تلك القدسية التي كانت تكتنفه حيث مكنت ممثلي الشعب من أخذ المبادرة. فإذا كانت مدونة الأحوال الشخصية لسنتي 1957 -1958 قد وضعت قبل أن يكون للمغرب برلمان فإن التعديلات التي طالتها سنة 1993 كانت في فترة انتقالية وصدرت بمقتضى ظهير بمثابة قانون. وأعتقد أنه آن الأوان لفتح نقاش هادئ وشجاع لتحقيق توازن أسري يتجلى في إصلاح بعض الاختلالات التي طالت تطبيق المدونة من جهة ومن جهة أخرى للقطع مع التردد بشأن سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية. أولا : إصلاح بعض الاختلالات إن أهم مقصد لتحقيق التغيير المنشود في مدونة الأسرة هو البدء بإصلاح بعض الاختلالات التي طالت تطبيق بعض نصوص مدونة الأسرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: – مسطرة الصلح في الطلاق أمام المحكمة والتي أضحت مجرد إجراء تقتضيه المسطرة بعيدا عن الهدف الذي ابتغاه المشرع ويستحيل معها تحقيق صلح. وبالتالي فإن الأمر يقتضي التفكير في الآليات التي تجعل من مرحلة الصلح مرحلة منتجة وذات أثر على مستقبل العلاقة الزوجية. – المادة 16 من مدونة الأسرة التي تنص على أن " وثيقة الزواج هي الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج. وإذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات و كذا الخبرة. و تأخذ المحكمة بعين الاعتبار وهي تنظر في دعوى الزوجية وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية، و ما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين. ويعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ «فالاستثناء المذكور في هذه المادة المتعلق بعدم توثيق العقد أصبح عبئا على المدونة وخلط الكثير من الأوراق في مجال التطبيق حين أعطى للزوج مبررات قانونية للتحايل على القانون للعقد على قاصرة متى أنجبت ولدا بعد رفع دعوى الزوجية بمبرر أن الشرع متشوف إلى حفظ الأنساب، وسمح للزوج بالتعدد استنادا لنفس المبررات المذكورة – أي بالتزوج بالفاتحة ثم رفع دعوى الزوجية بعد الولادة. بل الأخطر من ذلك أن هذه الوضعية تسببت في حرمان الزوجة – التي لا تقبل بالتعدد – من حقها في المتعة حينما تصبح مرغمة طالبة للطلاق. ناهيك عما أفرزته وثيقة الإقرار ببنوة من حلول إدارية تفتقر للمبررات القانونية ويقتضي الأمر إعادة النظر فيها . – المادة 49 من مدونة الأسرة الذي يسمح للزوجين بالاتفاق بينهما في وثيقة مستقلة عند عقد الزواج على تدبير الشؤون المالية التي سيتم اكتسابها خلال فترة الزواج . هذه المادة لم ترق إلى مستوى فقهائنا القدامى في الكد والسعاية الذين جعلوا من استثمار وتوزيع الأموال المكتسبة خلال الزواج جوهر النظام المالي في المغرب , أي أن نظام الاشتراك في الاموال المشتركة المكتسبة هو الأصل ويمكن للزوجين الاتفاق على خلاف ذلك و هي مقتضيات جد متقدمة على تشريعنا الحالي و التي أبدعت فيها بعض مناطق العرف . – الفصل 400 الذي نص على أن : " كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي و الاجتهاد الذي يراعى فيه قيم الإسلام في العدل و المساواة و المعاشرة بالمعروف ." و هي عبارات فضفاضة تشكل في حد ذاتها ولوحدها مدونة مستترة قد يتسبب في الإجهاض على كثير من المكتسبات التي تتضمنها , فهو بكل بساطة نص أريد به ترضية الجناح المحافظ في اللجنة التي كلفت بإعداد مدونة الأسرة أكثر مما سعت إلى تطوير النظام الأسري . – بعض الفصول التي تعتبر حشوا و لا مبرر لاستمرار وجودها في ظل خضوع مسطرة الطلاق للقضاء من قبيل طلاق السكران و المكره و الغضبان و الحلف باليمين ، الفصل 90 و ما يليه من مدونة الأسرة و غيرها من النصوص التي يضيق المقام لذكرها .. ثانيا: القطع مع التردد بشأن سمو الاتفاقيات الدولية فيما يخص القطع مع التردد مع مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية مع التشريعات الوطنية فأعتقد أن المغرب انضم إلى المفهوم العالمي لحقوق الإنسان أي إلى مزيج من الثقافات و بالتالي فإن عليه أن يحسم في إشكال القيود الثلاثة المنصوص عليها في الفقرة ما قبل الأخيرة من تصدير الدستور المغربي والتي تعترض سريان المعاهدة و نفاذها في النظام القانوني الوطني , وهي احكام الدستور ,قوانين المملكة و الهوية الوطنية الراسخة . ففي اعتقادي أن مراعاة هذه القيود يقع على عاتق الحكومة المغربية أثناء مصادقتها على الاتفاقيات ومن تم التحفظ على كل نص مخالف للدستور ومتعارض مع النظام العام المغربي، أي أن الدستور سيد نفسه قبل المصادقة وبالتالي فلا مجال للبحث عن تأويلات تتنكر إلى مبدأ سمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية وتسعى إلى قلب القاعدة بالبحث عن ملاءمة الاتفاقيات الدولية مع القوانين الوطنية ما دام قد تم رفع التحفظات. فالمغرب انخرط في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان بالمصادقة على معظم الآليات الجوهرية لحقوق الإنسان (العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز العنصري، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة إلى غير ذلك من الاتفاقيات..) كما أن المغرب وفي إطار ورش استكمال انخراطه في المنظمة الحقوقية رفع جل تحفظاته. وبالتالي لم يبق أي مبرر لاستمرار وجود بعض المقتضيات التمييزية في مدونة الأسرة. وما دامت النصوص الحالية لم تسعف القضاء في تنزيل قرارات قضائية من شأنها تفعيل التغيير الذي ينهي التردد الذي طبع مفهوم المساواة بين الجنسين فإن الأمر يقتضي تنزيل نصوص قانونية صريحة تقطع مع التردد. إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة قبول بعض الأمور المستفزة والغريبة على مجتمعنا من قبيل زواج المثليين أوما شابهه. بل إن هناك من القضايا القابلة للنقاش ولم لا للتغيير باعتبار أن هناك مجال للتعايش بين ما هو ديني وما هو قانوني من منطلق استحضار كوننا نعيش في القرن 21 بكافة تجلياته. فلا أريد في هذا الحيز الضيق أن أعطي وصفة جاهزة لإصلاح مدونة الأسرة أو الخوض في بعض التفاصيل إلا أن ذلك لا يمنعني من الجزم بأن إصلاح التنظيم الأسري ممكن بدءا ببعض المقتضيات كما هو الشأن بمنع التعدد وزواج القاصر ولم لا تغيير بعض قواعد الميراث كالإرث بالتعصيب.. ولا أعتقد أن في ذلك مساس بالنظام العام المغربي الذي لا يستسيغ حرمان المرأة من الإرث كما كان سائدا في بعض مناطق العرف رغم مخالفته للشريعة الإسلامية السمحاء .. حسن مزوزي.. محامي وباحث