حصر النقاش، بعد هجوم الداعية ياسين العمري على شخصية الشيخة حليمة، التي تشخصها الممثلة دنيا بوطازوت، بين من مع هجوم الداعية ومن ضده، وبين من مع الشيخة ومن ضدها. وهذا الحصر، يخفي علينا، رؤية الصورة بشكل أشمل وأعمق، لمن يريد الوعي بالإشكالات الكبرى، أما من يريد تنشيط ليالي الفيسبوك، بمن مع أو ضد، فهذه مادة ستجلب له جمهورا واسعا. ولأنني لست مشاركا في المسابقة الثقافية، للإجابة أسئلة "المع" أو "الضد"، سأقارب هذا الموضوع من زاوية أشمل، مع بيان المآلات. من خصائص الدين الإسلامي، أنه شامل لكل مجالات الحياة، الظاهرة والباطنة. كل من يقرأ القرآن الكريم أو السنة النبوية، سيكتشف أن دين الإسلام ليس شأنا خاصا بالأفراد، بل إنه دين له يدعو إلى نموذج في الحياة، ويتشبك مع باقي النماذج ويقاومها. يعيش الداعية إلى الإسلام صراعا داخليا، بين الدعوة إلى تغيير سلوك الأفراد، وبين الدعوة إلى تغيير نظام قيمي يخترق المجتمع والدولة. ولذلك، الدعاة الذين يهتمون بتغيير سلوك الأفراد وبواطنهم، يتعرضون إلى نقد حاد من قبل الشباب المتحمس، الذي يحب ان يرى الإسلام نموذجا عمليا في جميع مناحي الحياة، باعتبار أنه دين شامل، فيصفونهم "بالدعاة الدراويش" و"الدعاة الجبناء" و"الدعاة الرسميون". بهذه الفكرة، نشأت الحركات الإسلامية أو ما يسمى إعلاميا "بالإسلام السياسي"، بحيث حشد قادة هؤلاء التنظيمات جمهور المسلمين إلى العمل المنظم بفكرة حجاجية قوية: "الإسلام دين ودنيا"، "الإسلام دين ودولة". استطاعوا أن يقنعوا المسلمين، بأن الإسلام لا يعني العبادات فقط، بل عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وللقيام بذلك، فأنت في حاجة إلى عمل جماعي، ولن ينجح العمل الجماعي إلا بتنظيم مؤسسي، ولن ينجح التنظيم المؤسس سواء عمل من داخل مؤسسات الدولة من خارجها، لإطلاق مشاريعه الإصلاحية. يذكرني الداعية ياسين العمري، بخطابات قادة الحركات الإسلامية في الثمانينات والتسعينات، لأنه ليس مثل الشيخ سعيد الكملي، الذي يتحدث بشكل عام دون أن يشتبك مع السياسيات العمومية. ياسين العمري، له هذه القدرة، في ممارسة النقد الديني لهذه السياسات. وبهذا الأسلوب، جمع قادة الحركة الإسلامية الشباب المتحمس، الذي يؤمن بأن الإسلام دين شامل، وينبغي أن يطبق في كل مجالات الحياة. هذا الخطاب الديني، الذي ينقل الفرد من دائرة الاهتمام بذاته، إلى الاهتمام بالشأن العام من منظور ديني، يتوسل بنقض ونقد الواقع، ويستبطن التبشير بالبديل المأمول. حين يصبح الداعية مهموما بالشأن العام، ويوجه مدفعيته النقدية له، يضطر الشباب إلى مطالبة الداعية، بتقديم النموذج البديل. إن أتباع الداعية ياسين العمري، لهم علاقة توتر مع الواقع، ويريدون الالتزام بالإسلام، ولن ينجحوا في ذلك، إلا إذا تجمعوا، لأن العمري، لا يقدم مواعظ صوفية، تركز على الحياة الداخلية للفرد، بل يفكك الواقع بخطاب ديني متماسك، ويبين للشباب أنهم يعيشون في ورطة، وعليهم أن يلتزموا بالإسلام، ولكن هذا الالتزام، لن يتحقق إلا في ظل "الجماعة البديل" لها لغتها، لباسها، علاقتها، ترفيهها، قيمها، فنها، مسلسلاتها، أحلامها… ما يقوم به ياسين العمري، هو الخطوة الأولى، ما قبل "العمل الجماعي المنظم". ها هو الداعية يوجه سهام نقده الديني لواقع ما، وها هو يتجمع حوله الساخطون دينيا عن هذا الواقع. ياسين العمري، نجح في حشد الناس حول شخصه، مع مرور الوقت، سيبدأ الشباب في طرح الأسئلة: ما العمل؟ هل سنظل ننتقد فقط الشيخة حليمة؟ هناك سيفكر الشباب في بديل إسلامي، وهذا يحتاج إلى عمل جماعي منظم. تعاد القصة بنفس الخطوة، كما وقع في السبعينات والثمانينات في المغرب. إن كان يدرك ياسين العمري مآلات خطابه، فإن الخطوة المقبلة، بعد النقد الديني للسياسات العمومي، متمثلا في الإعلام الرسمي، الشق الخاص بالفن، أن يجمع الشباب في عمل جماعي منظم. وهذا له كلفة كبيرة، وبداية الاحتكاك مع وزراة الداخلية. لأن هذا المجهود الذي يقوم به، يحتاج إلى مواكبة ورعاية أتباعه من الشباب، فهم يتطورون مع الزمن، وسيظلون يتساءلون، باستمرار: ها أنت انتقدت الشيخة، وماذا بعد؟ ولذلك، قادة الحركات الإسلامية، كانوا مدركين لذلك، رافقوا الشباب عبر مسارات. لكن إن اكتفى الداعية ياسين العمري، بتحريض الشباب، ضد الواقع، وبناء نموذج إسلامي متخيل، دون النزول إلى الواقع، فكأنه يسكب الماء في الرمل، إن لم أقل إن هؤلاء الشباب مع مرور الوقت، بعضهم قد ينتقم من هذا الخطاب الدعوي، وقد يسبب له الإلحاد، وهو خطاب يشبه ما يقوله مستشقى لمريض، إنك مريض بمرض خطير، ويظل الطبيب المعالج يلعن المرض. لكن المريض، يتساءل: ماذا بعد؟ كفانا من النقد، أنقدوني من الموت. لكن الطبيب المعالج مصر على خطاب التحريض ضد المرض، إلى اضطر المريض إلى لعن طبيبه المعالج، فاستسلم لواقعه المرير. هناك دعاة، يدركون مآلات الخطاب الديني، ومن النادر أن تجدهم يشتبكون مع معطيات الشأن العام، لأنهم يدركون أن الاشتباك الحقيقي ليس بالكلام، بل بعمل في الميدان، عبر عمل منظم. لكن هناك دعاة، لا يدركون المآلات، فيتحمسون ويطلقون مدفعية نقدهم تجاه السياسات العمومية، كما كان يفعل الشيخ أبي النعيم رحمه الله. إن الداعية إلى الإسلام، هو في جوهر صاحب رؤية إصلاحية، تقدم نموذجا في العيش والحكم. أدرك ذلك أم لم يدرك، لأن الإسلام هو كذلك في جوهره. أظن، وإن بعض الظن إثم، أن الداعية ياسين العمري، لن يقبل على الخطوة المقبلة، جمع الشباب في تنظيم معين، لأن هذه الخطوة تتطلب عملا من نوع خاص، وتتطلب ترتيبات، لها علاقة بالسلطة أولا. ما يقوم به ياسين العمري، نقد ديني للواقع، لكن البديل الذي يبشر به، ينتظر منه الشباب، أن ينزل معهم إلى الميدان من أجل العمل، وبناء جماعة لها قيمها، وطقوسها، ولغتها، ولباسها. سيكتشف الشباب بعد سنوات، أن ياسين العمري، قبل بالخطوة الأولى، ثم تركهم لمأساتهم، فعمق فيه مأزق الصراع بين الواقع والبديل الذي رسمه لهم ياسين العمري. الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، كان يدرك مآلات الخطاب الديني، حشد الشباب، لم يتركهم لوحدهم، بل جمعهم في تنظيم، للتفكير والعمل، وهنا يؤدي رجالات الإصلاح الديني الثمن، لأن السلطة تخاف من كل تنظيم جماعي، أما إن كان هذا التنظيم له رؤية دينية أخلاقية تريد استئصالها، فهي تتصدى لهم، ووجد رجالات التنظيم والشباب أنفسهم في ورطة كبيرة. من المفارقات، أن خطاب ياسين العمري الحالي، كان يردده بنكيران في الثمانينات، خطاب النقد الديني للسياسات العمومية، وبعد أن اكمل جميع الخطوات، ببناء التنظيم ومشاركة في المؤسسات، والوصول إلى الحكومة، والخروج منها، رجع بنكيران إلى الخطاب الديني، الذي يهتم بالأفراد لا بالشأن العام، ولن تجده تستوقفه آية يستعملها ضد الربا أو الخمور، التي تستفيد منها ميزانية الدولة. وهذا الخطاب، كان بنكيران زمن شبابه ينتقده، ويعتبر الدعاة إليه، بعيدين عن فهم الإسلام الشمولي، لكنه اليوم وبعد عقود من العمل، اختصر الإسلام في "آية استوقفتني". لو سلمنا أن ياسين العمري، سلك هذا المسار، جمع الشباب في تنظيم، ثم العمل من داخل المؤسسات، ثم اقتراح برامج، ثم المشاركة في الحكومة، سنجده بعد اربعين سنة، قد حلق لحيته، وجلس في صلون بيته، يتحدث بلغة عرفانية حول تأملات قرآنية، يستعد بها لملاقاة ربه، ووسينسى ذلك الخطاب النقدي المشتبك مع الواقع. المهم من كل هذا، ليس هؤلاء الدعاة، بل أن يدرك الشباب مآلات الخطاب الديني في المغرب، ومساراته، لحفظهم من ضياع أعمارهم.