إن الصناعات الصحفية اليوم، لم تعد مقتصرة على عدد الصفحات الورقية و أرقام السحب و لقاءات الشارع ووقت مُحدد ل"البوكلاج"، بل اختُزلت في برامج معلوماتية و أجهزة رقمية ومنصات للتواصل الاجتماعي، و غدت تنبني على"المهارة" أكثر منه على "الشهادة"، فالعالم تغير وتغير معه الإعلام وكل ما ارتبط به، وصرنا اليوم في مرحلة التجريب التي تسبق مرحلة التقعيد، اذا ما استقرت يوماً كل التحولات التي تؤثر في البنيات المؤسِسة لنظريات و واقع الإعلام. هذا التبدل في حامل عرض المحتوى المرتبط بأهداف الاخبار والاعلام، لم يكن محصورا على نوع واحد من الصحافة، بل شمل حتى المحلية منها، و صار فاعلا أساسا إلى جانب الفاعلين الترابيين و الجماعيين و الاقتصاديين، استنادا على الأثر المجتمعي، على الاقل، حيث غدت الصحافة الرقمية اكثر قربا من المجتمعات المحلية و الاكثر نجاعة في التأثير في السياسات المحلية المحدودة المجال. ان الصحافة الرقمية اليوم، أضحت الوسيلة الإعلامية الاكثر نجاحا و تداولا بين الجمهور، الذي أصبح متعطشا للخبر المحلي، الذي يرصد تفاصيل واقع يمسه بشكل مباشر و ينهي بحثه الحثيث، الذي كان يبوء بالفشل في السابق، عن كل ما يستجيب لقانون القرب في المعالجات الصحفية؛ و بالتالي فرضت، بحكم الواقع، مكانا رئيسا في عملية صياغة و تنزيل السياسات العمومية، على المستوى الوطني والجهوي والاقليمي. من هذا المنطلق، لا يمكن المجادلة في كون الإعلام أكثر ركيزة يمكن عبرها تسويق مجال ترابي ما، وبالتالي تعزيز الجاذبية الترابية و تحقيق التنافسية بين الوحدات الترابية المعنية،عبر ابراز مختلف المقدرات الطبيعية و الباطنية و السياحية و الثقافية، وكل المؤهلات التي يمكن بها حفز الاستثمار وتحقيق التنمية الاقتصادية ذات الوقع الاجتماعي الإيجابي. عبر هذا المنطق، يكون الفاعلون المكلفون بالتدبير العمومي، مدعوون لمواكبة هذا التحول، و لاستحضار آلية التسويق الترابي، كآلية معاصرة لتلبية احتياجات المجال الذي يدبرونه، والذي يعني عرض مختلف الموارد والخصائص والمؤهلات التي يتوفر عليها هذا المجال ووضعها موضع تحليل ونقاش جدي ومسؤول وعلمي، يحول نقاط الضعف إلى قوة و المخاطر الى فرص والتهديدات الى محفزات، و يجعله (المجال) أكثر قابلية و جاذبية. إن تسخير صحافة القرب/المحلية، لخدمة أهداف السياسات العمومية الترابية، و أهداف التنمية المندمجة، سيمكن لا محالة من تقديم حلول جديدة لتحديات التنمية و تعزيز البنيات الاقتصادية لمختلف الوحدات الانتاجية و تحفيز المنافسة، وعبرها سيمكن تجويد الخدمات الاجتماعية و الاقتصادية الموجهة للساكنة. لابد لهذا النوع من الصحافة، أن يعالج مواضيعه بشكل ذا عمق أكثر باستخدام أدوات علمية بحثية يمكن قياس اثرها، و بتوخي الدقة العلمية، لمواجهة المعلومات المضللة و البروباغندا المنحازة، و للمساهمة في التخفيف من آثار الفقر و التفكك المجتمعي، عبر النظر في كيفيات تنفيذ هذه السياسات التنموية على ارض الواقع تجاه من يفترض فيهم الاستفادة منها، و تحديد الالتقائية بينها و بين واقع المواطنين. في المقابل، وفي ما يتعلق بالبنية المحيطة بعمل هذا النوع من الصحافة، على القائمين على التدبير العمومي توفير مناخ تعددي تسوده حرية تداول المعطيات و الاستقلالية و طرح الآراء المتعارضة، من أجل تجنب الرؤية الإعلامية الوحيدة و الرأي الوحيد، و من أجل تجنيب وسائل الاعلام أن تغدو أدوات دعائية ذات مصلحة غير المصلحة التنموية المُجتمعية. و تبرز هنا، إشكاليات عديدة، أبرزها التحديين الاقتصادي و الأخلاقي للصحافة، بحيث تتعرض هذه الأخيرة إلى الخرق والتجاوز، في حالة ضعف البنية الاقتصادية للوسيلة الاعلامية، لأن احترامها من عدمه، يتحدد بتأثير عوامل كثيرة في عملية الإنتاج الإعلامي أو في الوضعية التواصلية، والملاحظ أنها غالبا ما تتهدد، بتغليب التحدي الاقتصادي على حساب التحدي الأخلاقي، حيث تغدو الإشكالية أكثر تعقيدا عند حضور منافسة شديدة بين مقاولات لها نفس الأنشطة الاقتصادية ونفس الظروف البيئية المحيطة. إن النموذج الاقتصادي الحالي للصحف الرقمية بالمغرب، نموذج ليس أمامه سوى التبدلببيع المحتوى وإرغام الباحثين عن المعلومة على الدفع من أجل استهلاكها، أو مزاولة أنشطة إعلامية جانبية غير مضمونة، غير أن الخصوصية المغربية في هذا المجال، تتيح له الاستمرار لمزيد من الزمن، إذ أن القطاع سائر في التطور بتطور التكنولوجيا الأم، وأن النماذج التحريرية والتنظيمية والاقتصادية، لابد لها من مسايرة هذا التطور والتحول، وأن الإشهار يساهم في ظروف معينة بحصة الأسد في تمويل المقاولة الصحفية الرقمية وفي تحقيق التوازن المالي المنشود؛ لكن ليس لفترة طويلة جدا. مجموعة من الدراسات العلمية الأكاديمية، خلصت إلى أنه بإتباع النموذج الاقتصادي الذي وقفت عليه الصحافة التقليدية، في الاستثمار في الصحافة الرقمية، سيواجه أرباب هذه المؤسسات الاعلامية مجموعة من التحديات؛ بالنظر إلى أن الإنتاج الإعلامي يسير في اتجاه أن يصبح حقا إنسانيا، حيث أضحى "المؤثرون" على موقع اليوتيوب، ينافسون كبار المؤسسات الإعلامية في حصص الإشهار، وفي جذب قواعد جماهيرية كبيرة، وأصبح المجال غاصا بمنتجي المحتوى الإعلامي من هواة ومواطنون صحفيون ورواد شبكات التواصل الاجتماعي، ولم يعد ممكنا التمييز بين السمين والغث. الدراسات نفسها، تؤكد أن نموذج التمويل الجماهيري ينمو وسط البلدان التي تشهد ثقافة الدفع من أجل الاستهلاك الثقافي، أي البلدان التي ازدهرت فيها الصناعات الثقافية، بما فيها الصحافة المطبوعة وتتوفر فيها الصحف على مشتركين بمئات الآلاف. وفي ظل تعوّد القارئ المغربي على الأخبار المجانية وتعثر عدة مشاريع إعلامية في المنطقة، التي عملت بمنطق الدفع مقابل القراءة، يخلق التمويل الجماعي تحدياً كبيراً لدى أرباب الجرائد الرقمية المغربية، مما يعني أنه على الصحافة الرقمية المغربية التفكير في بنية جديدة لنموذجها الاقتصادي، قبل أن يحين وقت انهياره، بتغير الظروف الحالية القائمة. إن حيوية الإعلام الجهوي/المحلي، تتأكد في تقرير نشره مركز الأبحاث PEW بإحصائية خلصت إلى أن قرابة تسعة أعشار السكان يتابعون الأخبار المحلية عن كثب، و علق عليها الصحفي جوش ستيرن ب"الناس جائعون للأخبار المحلية وتتبع القضايا المحلية والنقاشات عن كثب"، إلا أن ضمان الاستمرارية والاستدامة لهذا النوع من الاعلام رهين بوصول الصحفي/المنشأة الصحفية إلى مناطق أبعد و أعمق، تحقق الاستجابة لأغلب قواعد قانون القرب المؤسِسة للصحافة، و تصيخ السمع للمجتمعات المحلية. لقد برزت الحاجة مع حاجيات الجمهور المحلي الجديدة، إلى ابتكار أنماط مختلفة لمزاولة هذه "الحرفة" كاستخدام الفيديو و الانفوغرافيا و منصات التواصل الاجتماعي، من اجل إشراك الجمهور في الإنتاج و في التقويم والتقييم، ضمانا للاستقلالية والنزاهة، أي تحويل الخدمة الاعلامية، إلى إعلام خدماتي، يمكنه من تلبية حاجيات الجمهور المختلفة والمندرجة ضمن الحاجيات الاعلامية غير الخبرية، والمتسمة بالقرب و المحلية. "الأخبار المحلية ليست مقاسا يناسب الجميع" هكذا اختتم بحث "PEW" ، الذي أقر بانه من الفرادة ان تمتلك المجتمعات المحلية أفكارا مختلفة لما تريده من الأخبار المحلية، إذ أن لكل حيز جغرافي "أولويات" في تحقيق الإشباع "الإعلامي"، حيث تظل صحافة القرب "صوت الأخبار الوحيد في المجتمع". حفيظ كرومي طالب باحث في سلك الدكتوراه