قال أجدادنا، "اللي فَرّطْ، يْكَرّطْ" ، ورأوا كذلك أنه "تايْقرْ الفايت، ماشي البايت".. فإذا كان مضمون المثل الشعبي الأول لا يوحي بسياقه ولا بدواعي قوله، علما أنه يقال للتعبير عن مواقف الندم و الحسرة و تضييع الفرص، و عدم تحمُّل المسؤولية..، فإن مضمون المثل الثاني قد يسمح بشيء من الاجتهاد في أسباب "نزوله"، بالنظر إلى الظروف الاجتماعية و النموذج الاقتصادي السائد قديما، و الذي كان ينبني — و لا زال في شتى مناحيه إلى يومنا هذا—على الفلاحة و الدواب كوسيلة نقل أولى ليس لها ثاني. و لما كانت الدواب هي المَرْكبات المعتمدة ليس فقط في التنقل بين القرى و المناطق المغربية، بل الفاعل الأول في سلسلة الإمدادات (supply chain) و حمل الأثقال، فإن مالِكوها و أربابها كانوا يُولُون صحتها و سلامتها العناية الكاملة، لأن مرضها أو غيابها، أو مجردَ ضُعفِها و هزالِها، سيكون تهديداً حقيقياًّ لمعيشتهم و اقتصادهم، فإنه غالباً ما كانوا يُثِيرونَها "على أنفسهم و لو كانت بهم خصاصة"، من خلال توفير العلف و الكلأ لها و تأمين استمراريته بالخزن و لربما ["التحنيط"]، كما هو الشأن في طريقة بناء التبن عند نهاية عملية الحصاد و ادِّخار المحصول.. و عليه، فأجدادنا لم يؤمنوا قط بمبدأ "عاجل و مهم"، كأن يفكروا فقط في الاعتناء بدوابهم بشكل أكثر من المعتاد فقط عشية عزمهم على السفر أو القيام بمهمة تستلزم استعمال دابة. ماذا سنقول عنهم لو كان هذا السلوك الأخير هو مقاربتهم السائدة؟ أو ليسه سوء تقدير و قصر نظر، و غياب رؤية؟ و استغلال أحاديُّ الجانب؟ لكن، نظراً لحكمة أجدادنا و صفاء سريرتهم و إيمانهم، فإن مبدأ الاعتناء بدوابهم الذي بلغ درجة الإحسان كان مبدأً قاراً و مُستداما، و استثماراً طويل الأمد، نظراً لإدراكهم أن ما ينفع الدَّابة من حيث الطاقة و السلامة في بنائها البدني هو ما فات من علف و تغذية في السنوات و الشهور السابقة ليوم السفر، و ليس ما يبيت في أحشائها عشية الاستعمال/الاستغلال بعد طول تهميش و نسيان. سياق تدوينتي لهذا اليوم متعدِّدُ الأبعاد، و في مقدمتها أن الأيام الحالية و الأسابيع القادمة ستكون أيام الفلاح بامتياز، هذا الرجل الذي ظل يحرس أمن المغرب و استقراره باجتهاد و نكران ذات دون أن يعترف له أحد بفضل، بل ظل الكل منخرطاً "في أكل غلته، و سب ملَّته"، ولربما السخرية منه، و في أفضل الأحوال التفاوض معه على ثمن عرقه و الانتشاء بنتيجة "رابح/خاسر). الآن ها هو يحترق هو وماشيته بين أباطرة الأزمات و تفاهة القنوات.. سياق آخر لا يقل أهمية هو التهميش الذي راكمته قرى مغرب الهامش على مدى عقود. ألم يكن حريّاً بنا أن نستثمر في عالمنا القروي من زمان؟ هل لنا مِن مفر مِن أن "نُكَرِّطَ" اليوم ندماً على الأموال التي كانت تذهب لجمعيات المهرجانات، و أبطال الحفلات و المدربين "المنتقين"، و الحملات الانتخابية، و الدعم السخي للأحزاب و النقابات، دون عائد تشريعي، أو إصلاحي، أو اجتماعي يُذْكَر، اللهم على المُمسِكين به(الدعم) المباشرين الذين اشتروا الفِلَلْ، و وسعوا المسابح، و هرَّبوا الأموال لباريس و ماربيا و أخواتهما. هذه السلوكيات و السياسات المتواصلة هي التي ظلت تعمق بئر ريان حتى وصلت 32 مترا، قبل أن ينتبه العالم، و يهرع الجميع مهرولا ليكتشف أن الأوان قد فات ، و أن ريان قد مات !!!!