إن علاقاتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية في جوهرها تقوم على التعاهد أو المعاهدة، إذ العهد ليس ممارسة مصلحية ودنيوية صرفة، بل هو أكبر من ذلك في التصور الإسلامي، هو ممارسة أخلاقية، يسعى ديننا الحنيف إلى تحريرها من كثير من مظاهر الخلل واللاتوازن التي تعرض لها تحت تأثير اختلال ميزان القوة بين الإرادات المتعاهدة أو استبداد طرف على بقية الأطراف.. إن خُلق العهد والتعاهد في التصور القرآني يقوم على احترام الإرادة المتعاهدة، والاعتراف لها بالحرية والمسؤولية، فلا عهد ولا تعاهد بين مسلوبي الإرادة، لا عهد ولا تعاهد بين قاصرين غير مسؤولين.. إن حياتنا العصرية ونظامنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كله قائم على العهد والتعاهد، فالعلاقة الزوجية عهد؛ والعلاقة المهنية عهد؛ وكثير من العلاقات المدنية عهد؛ والعلاقة السياسية عهد؛ والعلاقة الخارجية عهد...، غير أنه وعلى أهمية العهد والتعاهد في نظامنا، فإن الوعي بأخلاقيته الدينية ضعيف، ويتعامل معه الكثيرون بنوع من الاستخفاف شأنه شأن بقية العاديات، بحيث يتعرض هذا التعاهد يوميا إلى الانتهاك والخرق تحت تأثير قوة أحد أطراف التعاهد، أو بسبب إغراء المصلحة.. فالعهد أيها الأفاضل من القيم الأخلاقية المركزية في التصور القرآني، ومخالفته في نظرنا من الكبائر الأخلاقية التي تؤدي إلى هدّ وتدمير بنيان المجتمع، ومن جميل الأثر في هذا المعنى حديث رسول الله (ص): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ" (مسند الإمام أحمد). إن العهد معناه المَوْثِق الذي يكون بين الناس أفرادا وجماعات. ويتألف من ثلاثة أركان المُعاهِد الذي يعطي الموثق، والمُعاهَد الذي يحصل عليه، وموضوع التعاهد، ويتأرجح وضعه عمَليا بين حال الوفاء وحال النقض، فالعهد إذا كان صحيحا وسليما، ولا يوجد سبب وجيه لنقضه، لا يملك المُعاهِد سواء كان فردا أو جماعة من الناحية الأخلاقية والشرعية إلا الوفاء به، والإتيان بمتطلباته. ويشكل العهد والتعاهد مظهرا رئيسا لنضج الإنسان وقدرته على تدبير علاقاته جميعها مع ربه، ومع محيطه الاجتماعي والسياسي..، وهو من مقتضيات الفطرة السليمة، ومن ثم اشتُرط في صحة العهود وسلامتها شرطي الحرية والمسؤولية كما أسلفنا القول، فالإنسان الذي يفتقد هذين المقومين لا عهد له، وغير موثوق به، ومن ثم لا يصلُح في بناء مجتمع حر ومستقر، فاللَّحظات «الراقية» في الاجتماع البشري هي تلك التي استطاع خلالها الإنسان العيش في إطار من الحرية والمسؤولية أي العيش في «نظام تعاهدي»، يتحمل فيه الجميع المسؤولية، ويتقاسمون فيه الأعمال والوظائف من خلال التعاهد أو المعاهدة. لقد انقسمت بنيات المجتمع التي عاش في كنفها الإنسان – تاريخيا وفي الواقع – بين وضعين رئيسين: بنيات قائمة على أساس الحرية؛ وبنيات قائمة على أساس العبودية وسلب الحرية...، ويزعم "ويل ديورانت" الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي صاحب "قصة الحضارة" أن الإنسان عاش فاقدا للحرية، ومحروما من جل حقوقه تقريبا في مرحلة يسميها «المجتمع الفطري»، وهي المرحلة التي عاش خلالها الإنسان خاضعا للأسرة والقبيلة والعشيرة..، ولم يكتسب بعضا من حقوقه إلا مع ظهور الدولة، حيث أمسى للفرد وجود واقعي متميز، ومن ثم فالحرية في نظره «ترف اقتضاه اطمئنان الحياة، والفرد الحر ثمرة أنتجتها المدنية»،[1] ومع تحفظنا على وصف ديورانت مجتمع ما قبل الحرية ب «الفطري»، وتحفظنا أيضا على ربط الفرد الحر بطور المدنية والدولة الذي أعقب الطور الفطري، فإن المراحل والأطوار التي تمتع فيها الإنسان بالحرية – في نظرنا – ليست تعاقبية، ولا ترتبط لزوما بطور المدنية والدولة، وتنتفي في غيره من الأطوار، بل قد نجد بعض أماراتها في مجتمع القبيلة والعشيرة..، وسائر المجتمعات التي عاشت بالفطرة السليمة من تلقاء ذاتها أو بتوجيه خارجي كالنبوة، كما أن كثيرا من مظاهر العبودية استمرت في طور المدنية والدولة. لقد عاش العرب في العصر الجاهلي في بنيات اجتماعية وسياسية هي أقرب لأنظمة العبودية منها إلى أنظمة الحرية والمسؤولية، فالأصناف التي كان ينقسم إليها الناس، وأشكال التمييز بين الجنسين، وعلاقة القبائل بعضها مع بعض.. تدل على التداخل والتشابك القوي بين بنيات الحرية وبنيات العبودية، الناجم عن الانحراف الثقافي – التاريخي الذي أصاب الاجتماع الإنساني، وغفلة مكوناتِهِ لمقوماتهم الفطرية، فكثير من النساء على سبيل المثال كن في علاقتهن بالرجال إما مملوكين، يبعن ويشترين، ويحق للرجل تبعا لذلك التصرف فيهن كما يتصرف في سائر المتاع، وإما حرائر، بينهن وبينهم عهد،[2] ونفس الوضع كان يعيشه الرجل في علاقته بالأسرة والقبيلة حيث كان يتأرجح هو الآخر بين منزلتي الحرية والعبودية، ونفس الشيء بالنسبة للقبيلة مع القبيلة..، حيث كانت الجهة القوية عادة ما تُخضع لها الأطراف الضعيفة، وتفرض عليها شروط الاستعباد والاستبداد.[3] إن العهد والتعاهد في سياق الفضاء الثقافي القرآني هو من مقتضيات المفهوم القرآني للإنسان كونه حرا ومسؤولا (الحر والمسؤول)، والوسيلة الرئيسة والاستراتيجية لبناء العلاقات المختلفة بين أفراد المجتمع الحر، وبينه وبين المجتمعات الأخرى المجاورة والبعيدة، من زواج، وبيع وشراء، وتحالف، وجوار..، ومن ثم، فتنازل الأفراد أو الجماعات عن بعض معاني الحرية التي يقتضيها بناء النظام الاجتماعي والسياسي في المنظور القرآني يَخرُجُ من شرك الاستعباد إلى فضاء الحرية من خلال آلية العهد والتعاهد. إن المجتمع الجاهلي الذي نزل في إطاره القرآن الكريم كان نضاحا بمعاني العبودية، ومظاهر سلب الحرية، التي كانت أحد المظاهر الرئيسة للنظام الاجتماعي والسياسي الجاهلي، وقد جاء القرآن مناهضا لهذه المظاهر، ومنكرا لها، وعمل في هذا الباب على تفكيك أسس العلاقات الجاهلية، مستبدلا إياها بعلاقات التعاهد، وتدل الآيات الكثيرة التي تناولت موضوع العهد على المركزية الأخلاقية لهذه الوسيلة من جهة، وأهميتها الاستراتيجية من جهة ثانية في بناء النظام الاجتماعي والسياسي الإسلامي. وسنحاول فيما يلي بيان هذا الأمر قدر ما يتحمله الحيز الزمني المخصص لهذه الحلقة. لقد ورد العهد في آيات القرآن بصيغ ومعاني مختلفة، وأشدها ارتباطا بموضوعنا ما يلي: – قوله تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون﴾؛[4] – ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون﴾؛[5] – ﴿بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحبّ المتقين﴾.[6] انطلاقا من هذه الآيات يتخذ العهد في القرآن الكريم صورتين مختلفتين، فمن جهة يتعلق بعلاقة الإنسان بالله عز وجل، والالتزام الإيماني الذي قطعه المؤمن على نفسه، فالإيمان بالله بحسب هذه الآيات هو تعاهد طوعي بين الفرد وربه؛ ومن جهة ثانية يتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان والالتزامات والأوفاق التي تكون بينهما، فالعهد في القرآن يتجه وجهتين الأولى عمودية تهم علاقة الخلق بالخالق، والثانية أفقية دنيوية تهم علاقة الخلق ببعضهم البعض. وفي كلتا الحالتين والصورتين أَمَر الله عز وجل المؤمنين بضرورة الوفاء بالعهد والالتزام به ما تعاهدوا. إن أمثلة العهود التي عرض لها القرآن في الآيات السالفة، والتي تتصل بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان قليلة لا تغطي سائر مجالات الحياة، حيث اقتصرت على المعاهدات الخاصة بحفظ أموال اليتامى، وسائر المعاملات المالية، والجهاد، غير أن هذه الأمثلة على قلتها دالة على وجهة القرآن في هذا الباب وهو انعقاد جانب كبير من المعاملات الإسلامية وانبناؤها على التعاهد، وتُقَدِّم المعاملات الاجتماعية والسياسية وخاصة تلك القائمة على الأخذ والعطاء والأمانات.. أمثلة كثيرة. ونظرا لهذه المكانة التي تحتلها العلاقة التعاهدية في القرآن، والحرص الواضح للوحي على بناء المعاملات بين المسلمين وغيرهم عليها، فقد جعل من مطلب الوفاء بالعهد مطلبا حيويا، وجعله من صفات المؤمنين ومن مظاهر البر الرئيسة، قال تعالى: ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين﴾، إلى قوله:﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون﴾. فالعهد الذي يكون بين الناس ضامنه الأول والشاهد عليه هو الله عز وجل، ويفترض في المؤمن الوفاء بشروطه ومضمونه، وأي إخلال به، ونقض لالتزاماته هو في الجوهر خيانة لله ومن كبائر الذنوب وأخطرها، ولعلها بتأويل معين من نواقض الإيمان، فلا دين ولا إيمان لمن يأكل أموال الناس بالباطل، ويغدر بالناس، ويخون الأمانات وينقض العهود... إلخ. إن العهد من خلال الثقافة القرآنية هو آلية تقتضيها مقومات الإنسان الفطرية، وفي مقدمتها الحرية والمسؤولية، ومن ثم فالعلاقة السوية والسليمة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان يتوجب – مبدئيا – أن تكون علاقة تعاهدية حرَّة ومسؤولة، وهو ما قدم القرآن الكريم أمثلة وافية عنه، فالله عز وجل لم يشأ أن تكون علاقته بالإنسان علاقة استبدادية، علاقة كن فيكون، بل أرادها سبحانه أن تكون علاقة تعاهدية قائمة على الحرية والمسؤولية والاقتناع العقلي، فالإيمان في أصله معاهدة، وعهد بين الله والمؤمن، قال تعالى: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾،[7] وإذا كان هذا الأمر واجبا في الإيمان، وعلاقة الله بعباده، فهو فيما دونه قيمةً أوجب أي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. فالله عز وجل جعل من مسألة الإيمان مسألة اختيارية وتعاهدا بين الله والمؤمن، فالذين يختارون الإيمان لهم مكاسب ومغانم، والتزامات أيضا، والذين يختارون الكفر فهم باختيارهم قرروا عدم الدخول في معاهدة مع الله، ولنا في القرآن شواهد عديدة عن هذا الأمر. يكتسب العهد – كآلية في بناء شرعية بعض العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية – قيمته الأخلاقية من كونه مقتضى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وتتعزز هذه القيمة وتعظم بقيمة أخرى وهي قيمة الوفاء والالتزام، فالعهد يفقد دوره وقيمته إذا فُقد الوفاء، وعليه يكون الإنسان المسلم إزاء العهد بين موقفين أخلاقيين متلازمين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ويشكل الأول قاعدة للثاني: الأول، يتوجب على المسلم بناء علاقاته وانتظاماته في الجماعة على أساس المعاهدات، والابتعاد ما أمكن عن أساليب التسلط والاستبداد والإخضاع؛ والثاني، يُلْزِمه الوفاء بهاته المعاهدات، والالتزام بشروطها مهما كانت الظروف إلا أن يَنْبُذَ المُعاهَد، أو يختل شرط من شروط الانعقاد.. إن التجربة الحضارية للمسلمين في أبعادها المختلفة يعكس جانب منها حرص المسلمين الواضح والدائم على بناء استقرارهم الاجتماعي والسياسي على أساس التعاهد، وقد نجحوا إلى حد كبير في هذه المهمة. وتقدم النظم الإسلامية المختلفة أمثلة رائعة للمعاملات التعاهدية، التي انتشرت بين المسلمين. ومن أبرز النظم التي تجلت عندها قيمة العهد بشكل واضح النظام الاجتماعي والنظام الاقتصادي والنظام السياسي، فالعلاقات التي نشأت في المجال الإسلامي بين الجماعة والحاكم مثلا، والتي وافقت هدي القرآن ورسالته الأخلاقية، كانت علاقات تعاهدية، وكان أول من امتثل هذا الهدي وجسده عمليا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإلحاحه على أن تكون بعض علاقته مع المؤمنين برسالته علاقة تعاهد وتعاقد متجدد. إن العهد والوفاء به كأساس للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. في التصور الإسلامي هو ممارسة أخلاقية تضمنها بالإضافة إلى الشروط التي يشرطها كل طرف لنفسه، والسلطة القانونية، تضمنها أيضا علاقة الإيمان والله عز وجل، فخيانة العهود وعدم الوفاء بها من منظور الإسلام كبيرة أخلاقية ومن أسوء الجرائم وأبغضها للناس أجمعين. وانتشار هذا النوع من الجرائم والمخالفات لا يدل فقط على ترهل الحماية القانونية للحقوق والعهود، بل يدل أيضا على انحطاط في الأخلاق أو سوء فهم للإسلام، فالكثير من المسلمين اليوم يعتبرون مخالفة العهود مخالفات مدنية، وفي بعض الأحيان من صغائر الذنوب، في حين أنها مخالفات دينية وشرعية، ومن الكبائر.. ومن ثم، فاستقامة نظامنا العام وفي سائر المجالات مرتبطة بإعادة الاعتبار لأخلاق المعاهدة والوفاء بها.. [1]ول ديورانت، قصة الحضارة، ج. 1، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، بيروت، ط. 1988، ص. 53، 54. [2] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، ج. 5، م. س. ص. 526. [3] نفسه، ص. 631. [4] النحل، 91. [5] البقرة، 176. [6] آل عمران، 75. [7] الرعد، 22.