ظهر معروضا للبيع في الأكشاك والمكتبات كتابٌ تحت عنوان: أوراق من زمن السياسة: اليوسفي كما عشناه، والكتاب عن الراحل عبد الرحمان اليوسفي حين كان كاتبا أولا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحين عُيِّن وبات، انطلاقا من هذا المنصب، وزيرا أول في أولى حكومة مغربية تقودها المعارضة وسميت حينئذ حكومة (( التناوب التوافقي)). والكتاب من تأليف محمد حفيظ وأحمد البوز اللذان يشغلان حاليا أستاذين بالجامعة المغربية. محمد حفيظ الذي صار كاتبا عاما للشبيبة الاتحادية حين عُين اليوسفي وزيرا أول، ورفض المقعد البرلماني الذي أُعلن عن فوزه به في انتخابات سنة 1997 بعدما تبيّن له أن تلاعبا جرى خلال عملية فرز الأصوات، لتصبح النتيجة مزورة لصالحه، وكان مديرا لجريدتي النشرة والصحيفة، وأحمد البوز كان عضوا في المجلس الوطني إلى جوار حفيظ في الشبيبة الاتحادية، وكانا معا، عضوين في هيئة تحرير جريدة النشرة التي كانت تصدرها الشبيبة الاتحادية، ولقد وضع المقدمة للكتاب المذكور، الأستاذ المغربي الأنثروبولوجي عبدالله حمودي الذي يُدرّسُ بجامعة برنستون في الولاياتالمتحدةالأمريكية.. تنبع أهمية الكتاب ليس من كونه مؤلفا من طرف شابين اثنين مارسا السياسة، بالقرب من اليوسفي، وكانا، على احتكاكٍ دائب به، وبالتالي على دراية جيدة بالحقل السياسي المغربي، ولكن أهمية الكتاب تتأتى من كونه، ربما الكتاب الأوحد، حسب معرفتنا، الذي يتناول شخصية الراحل اليوسفي بنوعٍ من النقد الجاد عن الكيفية التي قَبِل بها منصب وزير أول، وكيف أدار الشأن الحزبي والحكومي، بصفته كاتبا أولا للاتحاد الاشتراكي، الحزب الذي ظل، منذ خمسينات القرن الماضي إلى سنة 1998، يرفض المشاركة في الحكومة، إذا استثنينا مشاركته الرمزية، ولمدتين قصيرتين، في حكومة إجماع وطني في مناسبتين لهما علاقة بتطورات قضية الصحراء، وظل الحزب يربط أي مشاركة في الحكومة، بإجراء إصلاح دستوري عميق، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، تعبِّرُ، بنتائجها، عن الإرادة الشعبية، وبتوفير الوسائل القانونية والمادية للحكومة، لكي تنفذ برنامجها الذي تتعاقد مع الشعب حول بنوده.. فإلى حدود نشر هذا الكتاب، فإن أغلبية المقالات الصحفية والتصريحات السياسية، وفي مجمل المناسبات، لا يكاد يُذكَرُ فيها، اسم عبدالرحمان اليوسفي، إلا مقترنا بآيات المدح والإطراء في شخصه، وفي تجربته في الحزب وعلى رأس الحكومة، وأحيطت شخصيته بهالة كبيرة من التمجيد، تكاد تقترب من التقديس، ونادرة جدا هي الكتابات التي تناقش، تجربة اليوسفي على رأس الاتحاد الاشتراكي، ووزيرا أول، وتضعها موضع مساءلة نقدية، بطريقة علمية تروم الاتزان والدقة.. فحتى الذين كانوا ينتقدون اليوسفي، فإن نقدهم له كان يتم من موقعهم كيمينيين ومقربين، في معظمهم، من الأجهزة الإدارية النافذة، وكانوا يلومونه على مواقفه، بلغة رجعية متخلفة، وأكثر يمينية منه، وهو في رئاسة الحكومة، وهذا النوع من النقد، كان، في الواقع، نقدا يخدم اليوسفي، ويلمِّعُ، بشكلٍ من الأشكال، صورته، إذ يُظهره متقدما في الخطاب والممارسة عن الجهة التي تنتقده، كما أنه نقدٌ يحاول التزلف للسلطات العليا في البلد، حتى إن كان يجد نفسه، دون إرادة منه، في تعارضٍ، مع العناية الخاصة التي ظلت الجهة الرسمية العليا في البلد توليها لصورة اليوسفي، تزيينا وتوضيبا، ما دام أنه كان يمثل حاجة لديها. لقد كنا أمام نقدٍ يحاول أن يكون ملكيا أكثر من الملك، فصار يبدو، بسبب مزايدته، نقدا خاليا من المصداقية، بل فيه دعاية غير مباشرة لليوسفي. لكن الكتاب الذي نعرضه حاليا، يختلف في مقاربته لأداء اليوسفي، مضمونا وشكلا، فهو مكتوب بوازعٍ علمي، واستنادا إلى مراجع دقيقة، وواضح أن صاحبيه تحذوهما، رغبة تقييمية، لتجربة حكم اليوسفي، بنزعة نقدية تحررية وحداثية. والكتاب كبير في حجمه، وبصفحاته 477، مع الصور التي تحتويها، ولذلك لا يمكن أن نتناول منه، بالإشارة، إلا بعض الفقرات المعبرة بكثافة عن مضمونه، في محاولة لاستقرائها، واستنتاج الخلاصات المنشودة منها. يتناول الكتاب إقدام اليوسفي على الاستقالة من الكتابة الأولى للاتحاد الاشتراكي سنة 1993، بعد عام ونصف من توليه منصب الكاتب الأول للحزب، وذلك عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية، فبعد تقديمه الاستقالة، دون تحديد بواعثها من طرفه، تاركا للمكتب السياسي، أمرَ تفسير أسبابها، غادر اليوسفي المغرب، متجها إلى مدينة كان الفرنسية، وتمَّ تفسير الاستقالة للقواعد الحزبية بأنها احتجاج على التزوير الفاضح الذي طال نتائج الانتخابات التي جرت في نفس السنة، أي 1993. هذا التفسير الذي قُدم للاستقالة، لم يُقنعِ الكاتبين. بالنسبة لهما كانت الاستقالة، حقا، نوعا من الاحتجاج، ولكنه احتجاج على تناوب كان يرغب اليوسفي أن يتم بقيادته سنة 1993، دون أن يحدث وقتها، بسبب ترتيب الاتحاد الاشتراكي المتدني في قائمة الأحزاب المعلن عن فوزها في الانتخابات، فلقد جاء الاتحاد في المرتبة الخامسة، وصار من المتعذر عليه قيادة الحكومة.. وفي هذا السياق، يشير الكتاب إلى لقاءات عدة كان اليوسفي يعقدها في منفاه الاختياري بفرنسا مع بعض مستشاري الملك الحسن الثاني الذي كان يبعثهم إليه في مدينة كان، ومن السهل الاستنتاج أن تلكم اللقاءات كانت تهدف إلى التشاور مع اليوسفي، حول الخطوات والتدابير الواجب اتخاذها، لتأمين عودته في ظروف تلائمه، وبما يؤدي إلى تنصيبه على رأس الحكومة. فلو كان اليوسفي قد استقال فعلا، بسبب التزوير، فإن استقالته ستكون نهائية، ولن يقبل عقد لقاءات بمستشاري الملك، لأن تاريخ الانتخابات المغربية كان حافلا بالتزوير، ولم يكن لدى اليوسفي ما يقنعه بأن التزوير لن يتكرر في الاستحقاقات المقبلة.. يخرج الكاتبان في الكتاب من التخمين والاستنتاج، ويقدمان الدليل المادي على أن الاحتجاج على تزوير نتائج الانتخابات لم يكن السبب الحقيقي للاستقالة، والدليل هو أن التزوير طال نتائج انتخابات سنة 1997، ولم يحل التزوير دون حدوث التناوب التوافقي، وقبول اليوسفي تعيينه وزيرا أول، بفضل التزوير الانتخابي. ويستعرض الكتاب نموذجا صارخا لتزويرٍ لنتيجة الاقتراع متمثلا في حالة محمد حفيظ، حيث تم التلاعب بالنتيجة، وجعلوا منه الفائز في الدائرة التي ترشح فيها، وأصرَّ حفيظ على التخلي عن جبة النائب البرلماني التي أرادوا تلبيسها له، ووجد، ومعه قيادات اتحادية، صعوبة كبيرة في إقناع اليوسفي بنشر الرسالة التي يتم الإعلان فيها عن عدم فوز حفيظ بالمقعد البرلماني، في الجريدة التي يديرها اليوسفي نفسه.. فبعد مماطلة وتسويف، أقدم اليوسفي على نشر الرسالة، ولكن بعد اتصال بوزير الداخلية إدريس البصري وقتها، والتشاور معه حول الموضوع، كما سيقف على هذه الحقيقة المُرَّة، محمد حفيظ، حين أجرى، لاحقا، لفائدة جريدة الصحيفة، استجوابا مع الوزير المذكور، عقب إقالته من منصبه، فأباح له البصري حينها بتلك الحقيقة المؤلمة، ولقد أورد حفيظ هذه الواقعة في الكتاب. وكانت الصحافة المغربية قد تطرقت وقتئذ لحالات لمرشحين للانتخابات باسم الاتحاد الاشتراكي، أُعلن عن حصولهم على مقاعد نيابية، بالتزوير، وقُدّر عددهم على الأقل بحوالي 13 عضوا. ولقد شكّل اليوسفي لجنة للبحث والتقصي للوقوف على حقيقة النتائج التي تم تزويرها لفائدة الاتحاد الاشتراكي وللتدقيق فيها، لكن اللجنة لم تجتمع ولم يصدر عنها أي تقرير، ويبدو أن الأمر جرى، بعضِّ الطرف من طرف اليوسفي، لأنه لم يحرص على قيام اللجنة التي أنشأها، بعملها، وتقديم تقريرها، لاستجلاء الحقائق كما هي مجسدة في الواقع الانتخابي.. يتناول الكتاب كيف أن اليوسفي، بعد تراجعه عن الاستقالة وعودته كاتبا أولا للاتحاد، ضغط بكل ثقله على المكتب السياسي، لكي يصبح مديرَ جريدة الاتحاد الاشتراكي، وحين صار الرجلُ، الكاتبَ الأول للحزب، ومدير جريدته، وعُيِّن وزيرا أول، يشير الكتابُ إلى أن (( مسؤوليات قيادة الحكومة لم تمنع اليوسفي من التتبع اليومي الدقيق لما ينشر في الجريدة التي ظل متشبثا بإدارتها، فقد كانت الصفحة الأولى تصله حيثما وجد، داخل المغرب أو خارجه، ولم يكن ينشغل بمضمون المواد وعناوينها فقط، بل كان يتدخل حتى في الصور وحجمها ومكانها على الصفحة الأولى، التي قلما كانت تخلو من صورة له مرفقة بخبر أو أكثر عن أنشطته الحكومية..))، لقد باتت الجريدة وكأنها ملكية خاصة لليوسفي، ووسيلة دعائية لشخصه.. يؤكد الكاتبان أن إشراف وإدارة اليوسفي للجريدة، نتج عنه (( تراجع المستوى المهني في منتوجها الإعلامي وانخفضت مبيعاتها بشكل كبير))، ويخلصان إلى التالي: (( لقد تسلم اليوسفي جريدة كانت في وضعية جيدة، وتركها حين غادرها، في وضعية منهارة)). وهذا طبيعي، فالصحافة سلطة رابعة مستقلة عن باقي السلط، وإذا أضحت تابعة لأي سلطة أخرى، وتحت نفوذها، وتنحصر مهمتها في ممارسة الدعاية الفجة، فإن الصحافة تذبل وتضمحل، لأنها لم تعد تؤدي الدور المنوط أصلا بها، الذي هو النقد، وهي المراقبة والمحاسبة.. يتطرق الكتاب إلى الموقف المتناقض الذي اتخذه المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي بقيادة اليوسفي وبإلحاح منه والقاضي بالتصويت بنعم على دستور 1996، الدستور الذي كان متخلفا بالقياس مع دستور 1992 الذي امتنع الحزب عن التصويت عليه، وكان الامتناع في عهد الحسن الثاني بمثابة لا كبيرة. فبعد العودة من المنفى والشروع في اتخاذ الترتيبات اللازمة لتشكيل حكومة التناوب التوافقي بقيادة اليوسفي، كان لا بد من القبول بدستور يقترحه الملك الراحل كيفما كانت بنوده. ففي نظر اليوسفي، الهدف من التصويت بنعم على دستور 1996 هو (( إعطاء إشارة سياسية لخلق جو الثقة بين الأطراف وتجاوز الإشكالية الدستورية)).. فتعديل النص الدستوري ودمقرطته، لم يعد شرطا اتحاديا أساسيا للقبول بالمشاركة في الحكومة، توارى هذا الشرط، وصار بالنسبة لليوسفي، ثانويا أو ملغيا.. وبعد التصويت بنعم على دستور 1996 يورد الكاتبان: (( وقتها بدأت تترسخ لدى الكثيرين في الحزب ونحن منهم، أن رجوع اليوسفي كان مرتبا، وأنه لم يعدل عن استقالته إلا بعد أن حصل على ضمانات بأن الحسن الثاني يريد أن يكون التناوب مع الاتحاد الاشتراكي الذي لم يحكم المغرب بعد)). فلما اشتد المرض بالملك الراحل، وبات يشعر أن نهايته أضحت قريبة، صار يحثُّ الخطى لتأليف حكومة بقيادة الاتحاد الاشتراكي تساهم في نقل السلطة لولي العهد الذي سيصبح الملك محمد السادس، نقْلِها بسهولة وسلاسة، وكان اليوسفي متلهفا لأداء هذه المهمة دون أدنى انشغالٍ بتوفير الضمانات اللازمة لإجراء إصلاحات تتراكم، للتمهيد لإنتاج ديمقراطية مغربية، تتقدم وتتطور من تجربة إلى أخرى.. وبالفعل، كُلّف اليوسفي من طرف الحسن الثاني بتشكيل الحكومة يوم 4 فبراير 1998، والمثير، كما يشير الكتاب إلى ذلك، هو أن التكليف جرى، دون أن يكون للحزب ولأجهزته التقريرية رأي في مشاركة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، لقد قبِل الكاتب الأول للحزب تعيينه في المنصب، وكأن هذا القبول أمر شخصي لا يهمُّه إلا هو من جهة، والملك من الجهة الأخرى، وبعد التعيين بثلاثة أيام استدعى اليوسفي اللجنة المركزية التي كانت تمثل الهيئة التقريرية وتحدد للمكتب السياسي ما يتعين عليه اتخاذه من قرارات وتنفيذها، جمعها ليبلغها بتعيينه وزيرا أول، فالكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي تجاوز قوانين الحزب وأدبياته، وفرض الأمر الواقع على أعضائه، وباتوا مكرهين على تجرُّعها.. ويروي الكتاب ما جري بين اليوسفي وصديقه في الحزب وفي المنفى الفقيه محمد البصري حين لامه على عدم أخذه رأي الحزب قبل قبول التعيين وزيرا أول، حيث أجابه اليوسفي: (( سي محمد، المغاربة كلهم معي، ومن سيقف أمامي سأطحنه))، لقد تحوّل اليوسفي إلى طاحونة لسحق من يخالفه الرأي، وسُحقت بذلك الديمقراطية في صفوف الحزب الذي عاش لعقود يناضل من أجل ترسيخها في المجتمع.. ويضيف الكتاب أن اليوسفي أمعن في تهميش الحزب أثناء تشكيل الحكومة، وفي إعداد البرنامج الحكومي: (( باختصار، لقد أصبح الحزب هو اليوسفي واليوسفي هو الحزب، فوحده قرر قبول التكليف الملكي بتعيينه وزيرا أول، ووحده قرر مشاركة الحزب في الحكومة، ووحده تحكم في وضع لائحة وزراء الاتحاد الاشتراكي المشاركين فيها..)). وتشكلت الحكومة من 41 وزيرا، وكانت الوزارات السيادية الدسمة، من داخلية، وخارجية، وعدل، وأوقاف وشؤون إسلامية، وأمانة عامة للحكومة، بأيدي وزراء تكنوقراط يتلقون التعليمات مباشرة من الملك، وليست للوزير الأول عمليا صلة بهم.. وحين توفي الحسن الثاني وتولى محمد السادس المُلك، وبعد إقالته لوزير الداخلية إدريس البصري، صَدَمَ اليوسفي الرأي العام المغربي بتنظيم حفل تكريمي بإقامته الحكومية، للوزير البصري المقال الذي كان بالنسبة للمغاربة يشكل رمزا للقمع ولتزوير الإرادة الشعبية. وعقب الانشقاق الثاني الذي حصل في الحزب في مؤتمره المنعقد سنة 2001 بإشراف اليوسفي، غادرت الاتحاد، مضطرة، نخبة من المناضلين ينتمون للشبيبة الاتحادية، وللطبقة العاملة ممثلة في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وكان هؤلاء، في أغلبيتهم المطلقة، الذرع الواقي لليوسفي من منافسيه والمتربصين به في الحزب، حين كان في المعارضة، ولم يتخذ اليوسفي، ولا مبادرة واحدة، للحيلولة دون التخلي عن هؤلاء من صفوف الاتحاد الاشتراكي، في مؤتمر كان لا يزال فيه، ربان سفينة الحزب، ولا يزال رئيسا للحكومة.. ويضيف الكتاب أنه مع مرور الأيام، بدأت الانتقادات تنهال على الأداء الاقتصادي لحكومة اليوسفي من طرف بعض مستشاري الملك، وبعد انتهاء الولاية الحكومية لليوسفي، ورغم أن حزبه الاتحاد الاشتراكي احتل المرتبة الأولى، وفقا لنتائج انتخابات 2002، فإن الملك محمد السادس لم يجدد لليوسفي تعيينه لولاية ثانية، وإنما قام بتعيين التكنوقراطي إدريس جطو وزيرا أول لحكومة سيقوم بتشكيلها، وقبِل الاتحادُ الاستمرار في المشاركة فيها، رغم أنه أصدر بيانا ينتقد فيه التخلي عن المنهجية الديمقراطية في تعيين الوزير الأول، لأن التعيين لم يكن لقيادي اتحادي، والحزب في موقع المتصدر لنتائج الانتخابات.. وتمثلت واحدة من الضربات القوية التي تلقاها اليوسفي، لاحقا، في اعتقال القيادي الاتحادي خالد عليوة ومحاكمته بتهم فساد حين كان رئيسا مديرا عاما للقرض السياحي والعقاري، فلقد كان عليوة من المقربين جدا من اليوسفي، وشغل في عهده، عدة مناصب وزارية رفيعة، وكان ناطقا رسميا باسم الحكومة، وانتقاه اليوسفي لينوب عنه في الإشراف في غيبته على الجريدة، وكان يهيئه ليكون عمدة مدينة الدارالبيضاء، لكن حين أصدرت المحكمة، بعد مدة، ضده حكما بالسجن النافذ بسبب الفساد، أسقِط الأمر في يد اليوسفي، وتأكد أن واحدا من مساعديه الأقربين، والذين كان أهلا لثقته، رجلٌ فاسد.. لقد كان الشعب المغربي يعقد آمالا كبيرة على حزب الشهيد المهدي بن بركة في إخراجه من دوامة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تخنقه، إثر قيادته للحكومة، وساهمت الدعاية الإعلامية الرسمية في ترسيخ هذه القناعة لدى الشعب عقب تولي اليوسفي منصب الوزير الأول. لكن، في ظل النتائج الاقتصادية الهزيلة التي أسفرت عنها قيادته للحكومة، طبقا لتصريحات بعض مستشاري الملك، تأكد أن الفشل كان نصيب الحزب في إنجاز المهمة الإنقاذية التي نذر نفسه لها، وتوقعها منه الرأي العام المغربي.. ويُستنتج من الكتاب أنه مع استمرار الاتحاد الاشتراكي مشاركا في حكومة، يقودها وزير أول تكنوقراطي، من غير أن يكون للحزب تأثير عليها، بدأ الإشعاع الجماهيري الذي كان الاتحاد لا يزال يتمتع ببعضٍ منه، جراء التضحيات التي قدمها أعضاؤه في المعتقلات السرية وفي السجون، وهو في المعارضة، بدأ هذا الإشعاع يتلاشى تدريجيا، ويخفت، إلى أن انتهى الأمر بالحزب حاليا إلى مؤسسة لا تقوى على الحصول على فريق في مجلس النواب، إلا بدعمٍ من الإدارة، وبقبول ترشيح الأعيان وأصحاب الشكارة باسم الحزب، رغم أن لا علاقة تنظيمية، أو عقائدية تجمعهم به… جرى كل ذلك، وفقا للكاتبين، بسبب مشاركة الحزب في الحكومة، المشاركة التي استمات اليوسفي من أجل إقرارها وقيادتها، دون أن يوفر لنفسه، الوسائل والضمانات، لإنجاحها.. إذا كانت هذه مقتطفات مركزة وقيمِّةٌ مما حفل به الكتاب، يكون من الضروري الإشارة إلى بعض الملاحظات التي تثير الانتباه وتشدُّ إليها في دفاته، فلقد أشاد الكتاب ببعض الأشخاص، رغم أن هؤلاء كانوا قياديين في الشبيبة الاتحادية، وكان منهم من يزايد على الكاتب العام للشبيبة محمد الساسي في معارضته للدستور، ويرفع صوته أكثر من اللازم رفضا لخيارات القيادة الحزبية، ولكنهم حين عيّن اليوسفي وزيرا أول، وجدناهم يتحولون بسرعة الضوء إلى موالين له، ومنهم من عُينوا مدراء ووزراء، وارتقوا اجتماعيا، ومنهم من وجهت لهم الصحافة المغربية تهم بالفساد.. فهؤلاء لا يستحقون، الإشادة التي أغدق عليهم الكتاب بها، حيث وصفهم بالمناضلين، والذين جرى الانتقام منهم بسبب نضالهم كذا.. كما يصعب فهم لماذا رَبْطُ كل عمل سيء كان يجري في أروقة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بما كان يصدر في جريدة (( الأحداث المغربية))، يَستخلصُ القارئ أن كل خبر أو تقرير صحافي كان ينشر عن الحزب في هذه الجريدة، كان مخدوما، وبنية سيئة، فحتى لو كان نفس الخبر منشورا في جريدة أخرى، فإن لا ضرر في ذلك، ولكن إذا نُشر ذات الخبر في (( الأحداث المغربية))، فإنه خبر مشبوه، ويدل على وجود مؤامرة ما خلف نشره، ولعل في هذا الأمر بعض المبالغة، لأن نفس الجريدة كانت تنتقد اليوسفي وحكومته بضراوة، اليوسفي الذي كان موضوعا للنقد والمحاسبة، في هذا الكتاب.. لقد انتقد حفيظ والبوز في كتابهما بشدة أداء الإعلام الحزبي في عهد اليوسفي، قياسا بالعهد السابق الذي كانت فيه جريدة الاتحاد الاشتراكي تشكل مجالا واسعا للنقد وللمساءلة، ونشر الثقافة التحديثية، والوقوف إلى جانب الطبقة العاملة، ومساندة الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية، وتغطية الإضرابات التي كانت تخوضها الطبقات المسحوقة، ولكن الكاتبين لا يشيران إلى أن من كان يدير جريدة الاتحاد الاشتراكي إبانها، هو الطاقم الإداري الذي صار يصدر جريدة (( الأحداث المغربية))، الطاقم الذي أقصاه اليوسفي من إدارة وتحرير الاتحاد، ودفعه دفعا لمغادرتها، في شطط واضح لاستعمال السلطة.. ولعل الذي لم يسمح المجال للكاتبين بتناوله، هو أن وصول اليوسفي، بدعم من السلطة، بسفينة الاتحاديين إلى المشاركة في حكومة ما يسمى بالتناوب التوافقي، لم يكن إلا تتويجا لسلسلة من القرارات التي اتخذتها القيادة الحزبية على مدى محطات متلاحقة، بدءً من المؤتمر الاستثنائي المنعقد سنة 1975 والذي شكّل في حقيقة الأمر إقصاءَ من الحزب، لنسبة لابأس بها من خيرة المناضلين الذين كانوا يعيشون مرارة اللجوء السياسي، إذ تمَّ وضعهم عمليا على الرف طبقا لنتائج ذلك المؤتمر.. ويجوز القول إن المؤتمر مثَّل نوعا من التنكر والتبرؤ من التمرد المسلح الذي قام به مجموعة من الشباب الاتحادي يوم 3 مارس 1973 بمولاي بوعزة، الشباب المتسلل من الخارج بشكل سري إلى الداخل، وهو يحلم بتنظيم ثورة مسلحة انطلاقا من الأطلس، على غرار ثورات غيفارا، لتغيير النظام الحاكم، لكن محاولة أولئك الشبان فشلت، فمات منهم من مات في ساحة المعركة، وأُعدم من اعتقلوا بعد محاكمات سريعة، والمؤسف هو أن الحزب قام بمحو هؤلاء كليا من الذاكرة الجمعية للاتحاد، بل باتوا يوصفون بالمغامرين. ولعلّ الاتحادي الوحيد الذي تحدث بإيجابية عن أحداث مولاي بوعزة، ووضعها في سياقها الفكري والاجتماعي هو امبارك بودرقة في كتابه: أحداث 3 مارس 1973.. بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة. فلقد سعى الكاتب لإنصاف أولئك الشباب، وردَّ لهم بعض الاعتبار الرمزي.. ونفس السلوك الإقصائي وقع يوم 08 مايو 1983، حين استنجدت القيادة الحزبية بالجهاز الأمني لمنع دخول أعضاء من اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي، لقاعة الاجتماعات لحضور أشغالها لأنهم كان لهم رأي يعارض الاستمرار في المسلسل الانتخابي، ووقع الاعتداء الجسدي على هؤلاء المعارضين الحزبيين، وأُلقي عليهم القبض من طرف الشرطة التي استُقدمت لعين المكان، وحكم عليهم بثلاث سنوات سجنا نافذا، ولما خرجوا من السجن بعد قضاء مدة محكوميتهم، أُجبروا على الانشقاق عن الاتحاد، لإنشاء حزب آخر تحت مسمى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، والمؤسف هو أننا كنا ننعتهم نحن الاتحاديون المختلفون معهم في الرأي، بالعدميين، ونصفهم بكل وقاحة، بالليكود… ونشأ عن المشاركة في الانتخابات المزورة، بروز فئة حزبية صارت مستفيدة بعضويتها في المجالس المنتخبة، سواء كانت جماعات بلدية، أو قروية، أو في البرلمان، أو في المجالس الاستشارية التي أحدثتها الدولة، وبات جزء مهم من هذه الفئة يحصل، بطرق مختلفة، على الريع، وسيشكل هؤلاء، بشكل تدريجي، (( طبقة)) متميزة، ستصبح هي المدافع في قلب الحزب عن كل القرارات التي تتخذها القيادة الحزبية بإيحاء من الدولة، وانعدمت المراقبة من طرف الحزب لأعضائه، وتفشت الحلقية، وصرنا في الواقع أمام حزبين اثنين، في نفس الخيمة، كل واحد يسعى لاسترضاء الدولة بطريقته لكي تقرِّبهُ منها أكثر من الآخر.. في ظل هذه الأوضاع المزرية صار اليوسفي كاتبا أولا للاتحاد الاشتراكي، وكان الرهان كبيرا عليه من طرف القاعدة الحزبية لكي يبادر إلى تصحيح الخلل التنظيمي والتوجيهي الذي استفحل في الحزب، والعمل من أجل تطهيره من العناصر الفاسدة، وتأهيله ليعود كما كان، حزبا نظيفا ومناضلا، ومنخرطا في الحراك الاجتماعي لتغيير وتطوير البنية السياسية المغربية العتيقة، ولكنه لم يفعل، اختار الرجل الخيار السهل.. لقد حَرَدَ اليوسفي إلى مدينة كان الفرنسية، وظل هناك ينتظر مستشاري الملك الذين يأتونه من الرباط يستحثونه للعودة إلى المغرب، وكان في إمكانه استثمار الحاجة الملحة إليه من جانب القصر لتشكيل الحكومة، استثمارُها في الضغط من أجل تحقيق مكاسب للحزب وللشعب، والحصول على ضمانات تكفُلُ نجاح تجربته الحكومية، لكن اليوسفي كان متعطشا للسلطة، وهاجسه الرئيسي كان هو، الحصول لذاته أولا، على صفة الوزير الأول، والباقي تفاصيل، ولا تشكل انشغالات قصوى لديه. كان وهما كبيرا، انتظارُ، أن رجلا بهذه المواقف، وهو كاتب أول للحزب، ووزير أول، سيتصرف مع الأعضاء المنتمين لحزبه، ومع غيرهم، تصرفا ديمقراطيا، وأن إنجازات مهمة، ستتحقق للمغاربة عن قيادته للحزب، وللحكومة.. * عبدالسلام بنعيسي / عضو سابق في هيئة تحرير أسبوعية النشرة