بخلاف جميع التوقعات، إذ توقع البعض، ظانا بأنه محلل سياسي حصيف، ويستطيع التنبِؤ بمضمون خطاب العرش في الذكرى 22. فحسم تخمينه بأن الخطاب سيتناول حديثا عن الأزمة الحالية مع إسبانيا وألمانيا، وبتركيز على اتهام منظمات دولية وبعض الإعلام الفرنسي للمغرب باقتناء واستعمال نظام بيغاسوس التجسسي، كما ظن البعض أن الخطاب سينحصر في الحديث عن جمهورية القبائل وتاريخ عداوة الجزائر للمغرب في جرد كرونولوجي ابتداء من سنة 1975. وحاول البعض الآخر أن يستبق الأحداث ويبشرنا بانتظار خطاب سيركز على العلاقات الاستراتيجية بين أمريكا والمغرب، وذهب آخرون إلى أن موضوع سبتة ومليلية حتما سيحضى بحصة الأسد في خطاب جلالة الملك، وربما سيطرح جدول أعمال دبلوماسي من أجل استرجاع هذه الثغور. كما ظن البعض أن الخطاب لا محالة سيعمل على الإشادة بالأجهزة الأمنية المغربية تعبيرا عن الثقة المولوية التي يحضى بها قادتها على رأسهم السيد عبد اللطيف الحموشي. ويأتي يوم السبت 31 يوليوز 2021 ليكون يوما تاريخيا مشهودا، إذ جاء خطاب العرش بعيدا كل البعد عن جميع التوقعات والاحتمالات والتنبؤات. من كان يصدق أن يكون الخطاب بهذا الشكل وبهذا المضمون؟ كنا نريد في قرارات نفوسنا أن يكون خطابا عدائيا لأننا ظلمنا وظلم بلدنا، أن يكون خطابا يبرز قوة المغرب وشكيمته، ويحذر الأعداء من الاقتراب أو حتى الحديث عنا بسوء، ولكن الغضب غشي عيوننا، فجاء الخطاب ليذكرنا بالحكمة المغربية ويؤكد قيم وشيم الدبلوماسية المغربية الأصيلة، التي نسيناها عندما تمادينا مع عداوة الخصوم وتربصات الأعداء، ونحن في ذلك معذورون، فحب وطننا وشدة الألم الذي عانيناه من اتهامات الجيران وتربص بعضهم وخيانة البعض الآخر لصداقتنا التاريخية، جعلنا ننسى قيمنا السمحة وتسامحنا الذي ظل منهجا نهجه ملكنا الراحل الحسن الثاني رحمه الله وسار على دربه ملكنا الهمام محمد السادس حظه الله وسدد خطاه. إن خطاب العرش في الذكرى الثانية والعشرين، أكد من جديد على عظمة المغرب وعظمة ملك المغرب، لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشديد ليس بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب، إن ترك الغضب ليتمكن من العقل والنفس من شأنه أن يفقد الانسان الحكمة والرشد، وهذا الرشد وهذه الحكمة هما متلازمان لم يفارقا المغرب منذ ثلاثة عشر قرنا، والتاريخ يشهد على هذا المنهج الحصيف الذي دأب عليه ملوك المغرب، إذ دائما أظهروا اللين في غير ضعف، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما خلا الرفق من شيء إلا شانه". إن خطاب العرش يمكن أن نطلق عليه "السهل الممتنع" فما أسهل و أيسر أن ينطق ملك أو رئيس بكلمات تدعو إلى السلام والتعاون وفتح الحدود، لأنها تبدو في الظاهر مجرد كلمات يسهل النطق بها. ولكن لن يتجرأ ملك أو رئيس على النطق بها بعد ما عانى لأزيد من 46 سنة من التحرش والعداوة ومحاولات إبعادك عن جزء من أرضك وشرفك. فلن يستطيع النطق بها سوى رجل عظيم حقا، يؤمن حتى النخاع بقيمة الأخوة وأهمية التعاون في عصر التكتلات الاقتصادية والتنموية، وهي في نفس الوقت كلمات عميقة تبعث العديد من الرسائل للخصوم والأصحاب منها: رسالة واضحة إلى حكام الجزائر: مفادها أن العداوة والحرب والتحرشات ليسوا من الحكمة في شيء، لأن الأحداث الأخيرة بينت بالملموس أن الغرب لن يريد منا نحن بلاد المغرب العربي أن نتقدم، وفي مصلحته أن تبقى علاقاتنا متوترة بل هو نفسه يعمل على تغذيتها حتى يحول بين أي وحدة أو تعاون لمصلحة الشعوب والدول. إن خطابا كهذا في وقت يتم فيه تمزيق أوصال تونس الحبيبة، وإجهاض مسارها الديموقراطي من طرف قوى تسعى منذ زمن للسيطرة على الجزائر والمغرب، لهو خطاب العقل والفطنة وهو عبارة عن دعوة وتلميح لحكام الجزائر ليلتفتوا لما يقع أمامهم، ويحسنوا قراءة الواقع، وبالتالي حتى يراجعوا أنفسهم ويتراجعوا عن مخططاتهم التي تتأسس على تبذير الأموال في الوقت الذي يموت فيه الشعب الجزائري الشقيق عطشا. وما كانت الجزائر لتموت عطشا لو كانت متعاونة مع المغرب كإخوة لا يسلم أحدهم الآخر للهلاك والموت. رسالة إلى إسبانيا: مفادها أن المغرب دائما وابدا لا يتنكر للجيران، وأنه يكن كل الوفاء لأصدقائه، وأنه يحترم التاريخ المشترك، كما يحترم الأخوة والصداقة ويقدرهما أيما تقدير، وأن الخير كل الخير سيأتي مع الصدق والاحترام المتبادل بيننا، وما تعانيه إسبانيا الآن من أزمة اقتصادية خانقة وخسائر كبيرة إنما هو بفعل عدم احترام الجار والصدق في التعامل معه دون نفاق أو تزييف. رسالة إلى ألمانيا: مفادها لا داعي للخوف على تونس ولا على الجزائر فنحن نمد أيادينا لجيراننا كي نتقدم أجمعين كمغرب عربي موحد، وسنلغي الحدود والتأشيرات، فقط نرجو أن لا تحاول أي دولة أوربية مرة أخرى التدخل من أجل إفشال المغرب العربي الكبير. رسالة إلى الحليف الأمريكي: وهي تطمين للحليف الأمريكي حتى يعلم أن المغرب قادر على بذل جميع المحاولات ليعم السلم دول المغرب العربي، ولو أدى به ذلك إلى تكميد الجراح ونسيان الآلام التي لازمته طيلة 46 سنة بفعل عداوة الجيران. كما أن الخطاب بعث رسالة إلى كل الدول بما فيها الصين وروسيا وتركيا وباقي القوى الاقتصادية العظيمة، حتى يعلموا أن السلم والدعوة إلى السلم والتعاون والدعوة إلى التعاون هي قيم ومبادئ المغرب ومرحبا بأي دولة تؤمن بما يؤمن به المغرب لتستثمر أو تتعاون. أما في الجانب الإفريقي فكل الدول الإفريقية تعرف المغرب والآن سيزيد اطمئنانها بأن المغرب الذي أسس الشهر الماضي المكتب الإفريقي لمكافحة الإرهاب، هو فعلا دولة ترعى السلم ولا تتناقض مع ما تفعله أو تدعو إليه. وأخيرا إن الخطاب عبارة عن رد عملي على الذين يتهمون المغرب باستعمال نظام بيغاسوس التجسسي، فكيف لدولة تروم السلم وتدعو للتعاون أن تفكر في التجسس على جيرانها وهي تريد بهم خيرا على اعتبار أن التجسس شر كله ومن شأنه أن يمكنك من رقاب أعدائك لتسحقهم لا لتتعاون معهم لتحقيق مصالح مشتركة. ويبقى االسؤال الأكثر أهمية هو كيف سيتعامل عسكر الجزائر مع هذه الدعوة الكريمة؟ لا ننكر أن الخطاب محرج للغاية، لأن عقليات متحكمة في الجزائر معروفة بساديتها، ولهذا نرجو من العقلاء أن يلعبوا دورا ويستغلوا هذه الفرصة التاريخية لدخول التاريخ من أوسع ابوابه بحدث هو التصالح التاريخي بين الشقيقين وتحقيق تعاون اقتصادي يقيهما من ضربات الأزمات التي تفاجئ العالم من حين لحين.