"عائد من المشرحة" هو محاولة لإقامة الحجة البالغة على الصامتين؛ وهل هو صمت من ذهب كما يقال؟!.. أم هو صمت من قرف كما نعتقد؟!.. الكتابة على جدران الزنزانة هو شغب عادل ومشاكسة محمودة لإخراج الحقيقة من ضيق الكمون والغياب إلى رحابة الحياة والواقع.. هو إصرار عنيد على صيانة الذاكرة، وكتابة أبجدياتها الحارقة بحبر الآلام والمواجع.. غلاف الكتاب هو مختصر مفيد.. وسهل ممتنع يضيء العتمات ويقرب البعيد.. هو عبارة عن مشرحة متوحشة، فاغرة فاها تريد أن تلتقم ضحاياها، وتنادي هل من مزيد؟! الزمن هناك هو "زمن موازي" يعيد إنتاج المستهلك والمتلاشي، من داخل فضاء هو عبارة عن كتلة صماء من حديد.. وأكوام داكنة ومتراكمة ومتلاشية من جليد!.. زمن متوقف من سنوات الجمر والرصاص، عقاربه أكلها الصدأ والكمون.. لا ليل هناك ولا نهار، لا نوم ولا يقظة، فالأمر بين بين، يقبع في العدم والسكون!.. لكن رغم شدة الألم.. هناك مشهد حمامة بيضاء ترمز في انزياح كامل إلى قوة أمل.. في أعماق سجين حر في يم الكرامة يتوغل.. الألم ليس شرا مطلقا، الألم له فعاليته الثورية والايجابية، لأن الأحداث المفجعة توقد الشعوب والأمم من رقادها، فلن تصل إلى تحقيق غاياتها النبيلة، حتى تقدم الثمن غاليا من لحمها ودمها، لكي ينبثق النور في نهاية النفق المظلم، ويزول شبح الاستبداد والفساد والتبعية والتطبيع إلى الأبد.. تحمل بين مخالبها الصغيرة مشنقة، قد صنعت في "مغرب الاستقلال" من جلود الضحايا.. خطت على ظهورهم "آداب المرايا".. وفجرت انتظارات ومصير وطن وهدة وشظايا.. فكلما نسينا قضيتنا بالغ الجلاد في إهانتنا.. من يجرأ بعد الإنصات بكل جوارحه، لمعانات " عائد من المشرحة"، وهو يدمن على الحكي المباح، على الاعتراض على ما حدث ويحدث الهنا والآن، باعتباره ضرورة من ضرورات الدول، وحاجة أساسية لضمال الاستقرار للأزل!.. من يجرأ على الحديث عن الاستثناء المغربي في بيداء عربية قاحلة، هو يمعن في إغواء أمة غافلة!.. ترى لماذا تحاول إدارة السجون وما يسمى إعادة الإدماج، في كل مرة أن تطلق سحابة من دخان، لتقنعنا بأن السجون في بلادنا قد تحولت إلى مشاتل للورود ومتنزهات؟!.. وهل تعتبر الصحافة الحرة متآمرة، إذا ما اعترضت على حديث الإفك بتهم إهانة الوطن والمقدسات!.. لذلك فعندما ننهض كل صباح جديد، ويصاحبنا وهم، أننا صحينا من نومنا، فنلقي نظرة على المرآة، لا نرى سوى سماء داكنة بلا شمس بلا نجوم، وأرض قاحلة بلا عشب أخضر، تحاصرها الحواجز والمعابر من كل التخوم!.. "عائد من المشرحة" هي كتابة؛ تعيد إنتاج الإنتاج بشكل مغاير.. وترتب الاصطفافات بعيدا عن عفونة الايديولوجيات المتخاصمة، لما فيها من تمزيق للأواصر.. وترصها على أساس عقلاني تؤثت فضاؤه أم القضايا والمصالح المشتركة والمصائر.. هي محاولة لرسم الذات بشكل مركب، تعكس محنة مناضل إسلامي يساري ممانع.. لا تهمه الألقاب أوالأسامي، فأينما وجدت ميادين الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية فهو يحصي الخطا ويسارع.. بداية كتبت على حائط الزنزانة لكن صادرتها رطوبة وعفونة المكان والتآكل اليومي الذي ينهش لحم وعظم الجدران.. فهربها السجين من هناك إلى هناك حيث الذاكرة والمعاش تقاوم مقص الرقابة والنسيان ومعاول الزمان.. هذه الكتابة تمتلك إرادة التحدي، وبلاغة الايجاز، تقاوم الجلاد بكشف المستور، والسوط ببسمات الزهور، وعتمات الزنازن بأبجدية تنهل من قاموس العرفان والنور.. تجربة الأخ وصديق الدرب أحمد الحو تجربة فريدة.. لا يمكن أن يخترق عتمتها أي خيال، حتى خيال الشعراء عندما يقفون أمام الأطلال.. أو حين يتذكرون دمن الحبيبة.. فينزاح الخطاب من خطاب الغيبة إلى خطاب الحلول والاتصال.. كل الخطابات تعجز أمامها؛ لأن خيال السجين خيال حقيقي، منتزع من آلام وعذابات، تعجز عن حملها الجبال!.. الكتابة عن السجن هي كتابة لصيقة بالسجين، ومن حاول أن يكتب عنها من خارج الزنزانة، فقد أساء لها من حيث لا يحتسب، لأنها أشبه بعبادة صوفية وجدانية، وهيام محب عذري، ونحيب أم ثكلى فقدت رضيعها.. السجين الذي لا يخصي ذاكرته، ويتمرد على مصادرة حقه في البوح، هو سجين "لم يستطع الجلاد أن يسرق من حنجرته الصوت، من دفاتره الشعر، من شفتيه الابتسامة، من مئذنته التراتيل، من صباحه الشموس، من ليله النجوم، من حديقته الأزهار".. لأن كثيرين من الضحايا، بعد وجبات الإذلال التي تلقوها في زمن الاعتقال، مثلت لهم امتحانا بيداغوجيا، كان كافيا لجعل إراداتهم تتشيؤ وتنهار، فخرجوا ناكسي رؤوسهم وناكثي عهودهم، وبدلوا مواقفهم الى مواقع الريع والخنوع، ومنحهم الجلاد لسانا مستعارا، وقلما مستوردا ليثيروا زوبعة في فنجان، ويجعلوا بيت الممانعة أهون من بيت العنكبوت!.. " عائد من المشرحة" صرخة احتجاح حتى لا تتكرر المأساة، فيعيش الأبناء مرارة ما عاشه الآباء.. هو صرخة مدوية في وجه من أضاعوا تاريخ ومستقبل البلاد، في سيل من الملاحقات والاعتقالات، وغاصوا في الوحول حتى الركب، ولم يستنفذوا بعد أغراضهم ولم يصبهم نصب.. هو فضيحة لكل من مارس الملاحقة والاعتقال.. وللذين امتهنوا حرفة التحقيق وتزوير المحاضر والأقوال.. لقضاة لم ينصتوا لضمائرهم، فاغتالوا بضربة لازب عدة زهرات!.. للذين مارسوا الشتم في دكاكينهم وحاناتهم ومراحضهم، ولاحقوا الضحايا بألسنة حداد.. لكل من هرول من زمن الجمر والرصاص إلى زمن كاتم الصوت، كالمستجير من الرمضاء بالنار!.. لكل من انتقل من موت الجسد الى موت الروح، لم يلامس أعماق وجوده، حتى إذا صحا ذات زمان وجد نفسه يحتضر!.. هؤلاء وأولئك كم نرثي لحالهم.. كم نشفق عليهم!.. لم يتعلموا الدرس بعد، وقد فات الأوان، أرادوا أن يجعلوا من مشاريعهم الغثاء، "بارشوكا" يحمي الجلاد، لكنهم بعد حين من التيه في ذهاليز السياسة صاروا "دفتر وسخ"، وجازاهم الجلاد جزاء سنمار!.. أرادوا ان يحموا السلطة بالقهر، لم يصلوا إلى النضج السياسي، الذي يمكنهم من الوعي بأن السلطة لا تدوم بلا عدل، وأن القمع لا يقتل السلطة فقط، بل يقتل الوطن أيضا، ويقتل الإنسان، ويجبر الطيور لكي تهاجر، وتبحث عن أوكارها الجديدة خارج جغرافية الوطن!.. إن استمرار زمن القمع المتدفق يعني مزيدا من الضحايا، يعني استمرار المطاردة من مدينة لمدينة ومن شارع لشارع تتجرع مرارته الأجيال!.. "عائد من المشرحة" هو في المحصلة انفجار تشابك انكشاف حلم صلاة ولادة وألم.. وعندما تكلم أحمد الحاو عن عائد من المشرحة وأفول ليل الاعتقال، فقد سعى لإسقاط كل الحتميات، التي نسجناها من خيوط الأوهام، ليؤكد انبعاث الحياة من جديد من الرماد!.. ختاما.. نعتذر إن كان صمتنا قد أقلقكم وأنتم تواجهون سياط الجلاد.. نعتذر للاءاتكم لواقع القهر والزيف، كيف سولت لنا أنفسنا الأمارة بالسوء، أن نتركها تذبل فوق الرفوف، ونستبدلها بنعم قد أضرت بمصلحة الوطن والعباد.. نعتذر لعائلاتكم الذي تركناهم وسط الإعصار، وخلدنا إلى خلاصنا الفردي بلا دعم واجب ولا إسناد!.. نعتذر ليقينكم النازف، الذي حاولتموا أن تغرسوه في قلوب، ملأها الضمأ حد الإحتراق، كيف أوهناه بحبال شكوك وظنون هي أهون من خيوط عنكبوت!.. نعتذر لبصيرتكم وأنواركم استبدلناها بعمي واقع رديء..خطته يد قهر وجبروت!.. لحقولكم التي زرعتموها زهورا وسنابل، تركناها لعبث القحط والجفاف تذبل وتموت!.. لأرصفتكم النظيفة، كيف اتسخت بعد غيابكم، بأعقاب سجائر أحرقت جلودكم الداكنة، وقد ابتلعنا ألسنتنا وكسرنا أقلامنا، نذمن الصمت والسكوت!.. لقد حاولتم أن تدخلوننا إلى محراب صوفي، هنا نجد صفاء الروح، نغتسل من سباتنا العدمي، ننتشلها من أوحال القاع.. لكننا هربنا منكم وهرولنا في اتجاه حانة، احتضنتنا بمخالب أنهشت لحمنا، ونخرت عظمنا حتى النخاع!.. ونتيجة ذلك كما يقول عبدالرحمن منيف كان الشيء الذي يكبر ويتعملق في حياتنا هو السجن، لقد صار سجنكم الصغير سجنا كبيرا يحتجزنا جميعا.. في وطن المتاعب لا فرق.. بين السجن الصغير والسجن الكبير!.. المعتقل حر، فقد كل شيء، والحر معتقل، يخاف من كل شيء.. ليس ما يخيف هو السجن الصغير، ولكن ما يخيف هو ما يعيشه الوطن من مآسي!.. حينما يبتلع البحر الجثث الحالمة، ولا يستطيع الوطن أن يوفر لهم بين أحضانه مقابر!.. حينما يحتكر أولوا النعمة والطول كل الثروة، ولا يجد الشعب عندهم إلا ركلات الحوافر!.. حينما يرقص الضحايا فوق جراحهم، ويتوجعون فلا يجدون إلا الموت القاهر!.. تتوزع مراكز الاستبداد، تصير عقولهم ثكنة لها، ويعتصمون بالقيد الفاجر!.. هذا حقا ما يخيف!..