الوداع الأخير... "" تعالت الأصوات في تلك العشية الحزينة التي وقف الزمان فيها جامدا لا يريم... أصوات مؤثرة تغني برنات ملتاعة نشيدا تفجرت كلماته السحرية من عمق زنازين درب مولاي الشريف وسجن القنيطرة. نشيد مشبع بكلمات صيغت من عصارة الألم والعذاب...ومن شعاع الأمل كذلك... ذلك الأمل البسام الذي كان يغذي القلوب في عز سنوات الجمر والرصاص، قلوب أولائك الشباب الذين جاؤوا من مدينة أزرو وكتبوا كلمات ذلك النشيد الذي يقول: لنا لقاء يا أصدقاء... لقاء أبدا لن نخلفه... بين صفوفنا جماهير شعبنا... وهاذي يد الكفاح مبسوطة نحونا ... سنشعلها ثورة في الربى والجبال... وفي كل شبر من ربوع الوطن... إرادة شعبنا من يقهرها ؟... فلا السجن يرعبنا ولا المخاطر... زمن الطغاة ولى ... وهذا ليلهم قد بدأ... نشيد صدحت به حناجر مناظلي منظمتي "إلى الأمام" و23 مارس، ضحايا القمع الهمجي في السبعينات والثمانينات، والذين جاؤوا لإلقاء نظرة أخيرة على أخ لهم وهو يوارى الثرى... إنه الراحل عبد الفتاح الفكهاني... رجل قل نظيره بين الرجال من حيث النقاء والاستقامة والصفاء... ولد عبد الفتاح في سنة 1949 بمراكش، وفي 1972 اختطف لأول مرة وعذب تعذيبا مبرحا ثم حكم عليه بالمؤبد وهو لا زال بعد في ربيعه الثالث والعشرين. فارتأى القاضي "الموقر"، كرما منه وسخاء، أن يزيد له فوق المؤبد سنتان أخريان بدعوى إهانته للمحكمة "الموقرة"... هاهم أصدقاؤه إذن مجتمعون حول قبره، وذاكرتهم تستعرض صفحات الماضي البعيد القريب الذي طوى الزمان منه أربعين صفحة. لقد كانوا شبابا في عمر الزهور النظرة، يحلمون جميعهم بثورة حبلى بالأماني والآمال العطرة. ثورة تبشر بمغرب أفضل، مغرب تسود فيه قيم العدل والمساواة والديمقراطية والحرية والكرامة... ولم يكونوا يقيمون لثمن ذلك وزنا... وقد كان الثمن في منتهى الفداحة حقا... لقد ذاق عبد الفتاح ورفاقه من العذاب ألونا، ومن الإهانات ضروبا وأصنافا على يد رئيس الجلادين، اليوسفي قدور الذي يعيش اليوم حرا طليقا مستفيدا من اللاعقاب الذي يصنفه في خانة "الذين لا يمسهم السوء ولا هم يحزنزن"، والذي ينعم في بحبوحة تقاعد مريح جزاء وفاقا على خدماته "الجليلة" التي أداها باحترافية عالية وضمير مهني مبدع. لقد كان عبد الفتاح على وشك فقدان طاقة المشي على رجليه من جراء حصص "الفلقة" التي تقرحت على إثرها قدماه. وبقي يحمل آثارها البشعة إلى أن صاحبته إلى مرقده الأبدي. انخرط عبد الفتاح مع أصدقائه في نضال مستميت للاعتراف بهم كسجناء رأي ولانتزاع حقوق بسيطة، فخاضوا من أجل تحقيق ذلك إضرابات متتالية عن الطعام. وكانت ضمنهم الشهيدة سعيدة المنبهي، وهي من مواليد سنة 1952 بمدينة مراكش كذلك، حيث اعتقلت سنة 1976 بتهمة انتمائها إلى منظمة "إلى الأمام"، فعذبت هي الأخرى تعذيبا فظيعا في درب مولاي الشريف على يد نفس الجلاد اليوسفي قدور قبل أن يحكم عليها بخمس سنوات سجنا مع إضافة سنتين بدعوى إهانتها للمحكمة "الموقرة"، من الوقر طبعا... فخاضت مع جميع أصدقائها أول إضراب عن الطعام من أجل إرغام السلطة على محاكمتهم. ثم انخرطت معهم في إضراب ثان أثناء المحاكمة احتجاجا على ما عرفه دفاع المتهمين من خروقات سافرة. وجاء الإضراب الثالث يوم 8 نونبر1977 ليدوم 40 يوما، وذلك من أجل المطالبة بصفة المعتقلين السياسيين وتحقيق شروط اعتقال إنساني. وفي يوم 11 دجمبر 1977 ، أسلمت سعيدة الروح إلى بارئها وعمرها لا يتعدى ال25 ربيعا... ومن أعماق أعماق انسحاقها، كتبت هذه الكلمات التي قدت حروفها من الصخر الجلمد: "السجن بشع... ارسمه ياولدي خطوطا قاتمة على الورق... بقضبان حديدية وشبابيك... وتخيله مكانا بلا نور... يرعب من حلكته الصغار... ولكي تهتدي إليه... قل إنه هناك... ثم أشر بأصبعك الصغير، إلى نقطة صغيرة... إلى مكان ضائع يسبح في الضياع... مكان لا تقوى على رؤيتك عيناك... ربما حدثتك يوما عن سجن قبيح معلمتك... ولكنك لم تره... وحدثتك أيضا عن ملجأ لتقويم المنحرفين... يرمى فيه الأشرار، لصوص الأطفال...