يثيرني ونحن نتناول الحداثة والهوية، أننا لا نكاد ننفك من أقاويل ك "استلهام الغرب"، "التنكر للهوية" وإلى غير ذلك من الأساليب المبتذلة الجاهزة، الأحرى أن ننطلق دائما وأولا من الواقع، الواقع المَعِيش، التعامل اليومي، فالمحيطين بنا لا يتعاملون بمنطق الهوية، ما ينفعنا ليست الحداثة كنظرية صائبة، بل كشيء ينفعنا للتقدم، للتجديد، من المهم لنا ألا نذهب بعيدا بأنظارنا إلى قمم صراع الهويات والحضارات، ما يهمنا هو ما ينقصنا حاليا، النظام في الشارع، الخدمات، الأمور المادية، المعاملات، لنذهب مثلا عند مواطن مريض يفضل الطب الحديث عن الحكيم المغربي، فهو بهذا لا يطرح اسئلة تتعلق بالهوية والفولكلور. اصلاح النظام التربوي مثلا يجب أن يشمل ملاحظةً للأنظمة التربوية العالمية الناجحة والاستفادة منها، ففي الغالب ما نضع انفسنا وجها لوجه أمام الحضارة الغربية، الحضارة الغربية اليوم ليست هي نفسها الموجودة في أمريكا أو فرنسا وايطاليا، الفرق بينها ليست البنية التحتية أو الصناعة، بل في أصالة كل منها، فنجد مثلا أصالة الفرنسي وأصالة الإيطالي وأصالة الإنجليزي مع أنهم في نفس الحداثة، السبب أن أصالة كل واحد من هؤلاء مرتبطة بتاريخه وموسيقاه وشعره وشعوره وإحساسه…، فالسياسة في مستوى، والشعور في مستوى آخر، كما يقول المفكر عبد الله العروي "هناك الليل وهناك النهار، النهار هو مستوى العلاقات الخارجية، والليل هو مستوى الحنين والرجوع الى البيت.."، فالحداثة في مستوى معين، مستوى العلاقات مع الأجنبي الذي لا يشاركك حنينك وهويتك، لذلك لا يعني أبدا أن تنفصل عن ذاتك وهويتك، من الواجب ألا نخلط هذه الخصوصية الوجدانية بالمعاملات الخارجية. سنفهم تراثنا عندما نحل هذه العقدة، عندما نجد أن مشاكلنا اليومية قد تحسنت، عندها سنعود إلى هويتنا وسنفهمها بكيفية يمكن أن تكون متاحة للجميع، الحداثة تجربة في التاريخ أعطت نتائج، فنجد أن أي مجتمع أراد أن يصل إلى مستوى معين من التطور اختار ان يقلد هذه القيمة الجديدة. المشروع التنموي الوطني المستقل هو كلمة السر التي لم تهتد إليه مجتمعاتنا النامية، لم نهتد إلى طريق سالكة نحو هذه الكلمة، التنمية بهذا المعنى لا تعني فقط النمو الاقتصادي، فمقابل هذا النمو الاقتصادي قد تكون البنى الاجتماعية الاخرى متخلفة ولا تساير في التطور مستوى التطور الاقتصادي، التنمية هي أن يكون لديك مجتمع يتمتع بحقوق مكفوفة بمقتضى القانون أن يتمتع بنظام تعليمي متطور ومستجيب لحاجيات التقدم الانساني ان يتمتع بنظام صحي يحفظ كرامة الناس ويرد عنهم غائلة المرض… واختم بما ختم به عبد الله العروي كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" حلم وتفاؤل في غير محله! هذا ما سيقوله البعض. ولما لا نحلم بوضعية أحسن من التي نعيشها اليوم؟ …، لماذا لا نستبق الزمن ونتخيل ظروفا قد يلتقي فيها الخصمان على أرضية واحدة، سيما إذا كان يوجد في الواقع ما يركز هذا الاحتمال.