عاش مسلمو فرنسا سنة مليئة بالأحداث ليس فقط بسبب جائحة كورونا التي منعتهم من زيارة بلدانهم الأصلية، وليس فقط بسبب الهشاشة الاجتماعية التي تفاقمت في ظل الأزمة الاقتصادية ، وليس فقط بسبب الأحداث الإرهابية التي ضربت فرنسا وحمّلتهم المسؤولية المعنوية، وإنما لإحساسهم أنهم وكما يقول المثل الفرنسي أصبحوا يشكلون "الرأس التركي" المستهدف بكل عنهجية. قصة هذا المثل مستوحاة من لعبة الدينامومتر المعروفة قديما في معارض الترفيه في أوروبا لقياس قوة اللاعب الذي يدفع الآلة بكل ما في جهده حتى تضرب الهدف المكون من رأس تركي بعمامة يرمز إلى رأس العدو، فأصبح ضربه مباحا للجميع ونموذجا لكبش الفداء. وهكذا، بعد ستة أيام من المناقشة صوتت اللجنة الخاصة المكلفة بدراسة مشروع "قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية" الفرنسية أو ما كان يسمى بقانون "مناهضة الانفصالية الإسلاموية"، مساء 23 يناير على النص الحكومي بعد قبول 169 تعديلا من ضمن 1700 مقترح تعديل. المشروع الذي بدأت مناقشته في البرلمان الفرنسي بداية فبراير الجاري رفضه اليمين واليمين المتطرف باعتباره لا يلبي الحاجيات الأمنية للبلد، ولا يمَكّن من محاربة جذور التطرف الدينية، بينما رفضه اليسار حيث اعتبره حزب فرنسا الأبية قانونا استعراضيا سالبا للحريات ولا يستجيب للمتطلبات الاجتماعية التي تحول دون تطرف الفئات الهشة والتي يشكل المسلمون جزءا كبيرا منها. هذا القانون الذي كان من المفترض أن يكون متوازنا بتضمينه آليات تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ، والتخفيف من وطأة الظلم والحيف والتهميش الذي يعيشه أغلب أبناء الضواحي والأحياء الفقيرة في فرنسا، دون تفريق في اللون أو الجنس أو الدين، غاب عنه وباعتراف الأغلبية الحاكمة البعد الاجتماعي الموعود، سُحبت الجزرة وأبقيت العصا. قبل هذا وفي الثامن عشر من شهر يناير الماضي، وقّع في قصر الإليزيه أمام الرئيس الفرنسي ماكرون خمسةٌ من أصل تسع منظمات إسلامية تشكل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ما سموه "ميثاق المبادئ للإسلام في فرنسا"، بينما لم توقعه لحد الآن أربع منظمات أخرى لأسباب مختلفة. وقبل الخوض في تفاصيل هذا الميثاق الذي كان لابد منه عاجلا أم آجلا لتنظيم الدين الإسلامي في فرنسا ، لابد أن نذكر بالاتفاق الموقع سنة 1801 بين نابوليون بونابارت والبابا بيوس السابع والمسمى بنظام الكونوكوردا، أو ذاك الذي أمضاه سنة 1807 نابوليون نفسه مع ممثلي الديانة اليهودية وكان من مخرجاته تأسيس الكونسيستوار أو المجلس الإسرائيلي الذي أضحى يشرف على التنظيم الديني لليهود . لنرجع إذن إلى الماضي كي نفهم الحاضر، قبل هذا الاتفاق طرح الإمبراطور على مائة وأحد عشر شخصية من أعيان الطائفة اليهودية اثني عشر سؤالا للتأكد من انسجام الدين اليهودي مع القانون المدني الفرنسي، وقد مست الأسئلة المطروحة بعض المسائل التالية: تعدد الزوجات، الزواج المختلط و الطلاق، علاقة الأخوة التي تربط اليهود بمواطنيهم، الارتباط بالوطن والدفاع عنه، تعيين الحاخامات، والمتاجرة بالربا. ..الخ جاء رد الطائفة الإسرائيلية بعد أكثر من سنة من الحوار الداخلي بقبول الاحتكام إلى القانون المدني الفرنسي وقبول مبادئ الدولة الفرنسية، مما يجعل هذا الاتفاق شبيها من حيث "محاولة الاستيعاب وفرض التأقلم وخضوع الأقلية إلى منطق الأغلبية " بما يعيشه المسلمون اليوم في فرنسا مع إمضاء "ميثاق المبادئ" لكن مع فرق في الزمان والمكان، وعدد كل طائفة من السكان، والتطور الذي عرفته البشرية في الحرية وحقوق الإنسان، فما أشبه اليوم بالأمس وهاهو التاريخ تاريخ فرنسا يعيد نفسه ، بشكل آخر وعلى دين آخر بعد قرنين ونيف من الزمن. ومن هنا نتحدث حول الشكل قبل الحديث عن المضمون، فالميثاق ذو التسمية الغريبة التي لا تفهم غايتها جاء في إطار إرادة الرئيس الفرنسي تأسيس "المجلس الوطني للأئمة" في سابقة اعتبرها العديد من المتابعين تدخلا سافرا في شأن الدين "الإسلامي" من دولة تدعي العلمانية وتفرق بين الدين والسياسة. نعم على المسلمين تأسيس مجلس للأئمة يقوم ليس فقط بإعطاء الرخص والشهادات بل بتكوين أئمة ومرشدين دينيين فرنسيين من أبناء البلد يعرفون تاريخه وثقافته وعاداته وأعرافه ، نعم مسلمو فرنسا بحاجة إلى من يسهر على التأطير الديني من بين ذويهم، نعم مسلمو فرنسا محتاجون لميثاق يؤطر علاقتهم مع دولتهم ويبدد مخاوف بعض مواطنيهم المعقولة، نعم لتنفر طائفة منهم ليتفقهوا في الدين ويقوموا بواجبهم تجاه إخوانهم في الدين وفي الوطن، نعم على المسلمين أن ينظموا أنفسهم، كل هذا لا يجادل فيه أحد إذا تم بكل حرية واستقلالية وشفافية. ميثاق المبادئ ورغم ما تضمنه من إيجابيات لا ننكرها، ينحو منحى سابقه فهو يعطي ضمانات من الأقلية المسلمة لباقي المجتمع الفرنسي ويؤكد على التوافق التام بين القيم الإسلامية ومبادئ القانون المعمول به في الجمهورية الفرنسية، كما يشدد على الاندماج الكامل للمسلمين داخل المجتمع الوطني واحترامهم لحرية المعتقد والتزامهم بعدم تجريم التخلي عن الإسلام أو اعتباره "ردة"، ناهيك عن الوصم أو الدعوة ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، إلى التهجم الجسدي أو المعنوي لمن أنكر دينه. الميثاق الذي يحتوي على العديد من النقط كان من الأحرى أن يشارك في تحريرها وإبداء الرأي في مضمونها بعض العلماء المسلمين، يعطي ضمانات أخرى للدولة الفرنسية في البند التاسع منه باعتبار كل "تنديد بالعنصرية المزعومة للدولة ، واتخاذ موقف الضحية نوعا من التشهير الذي من شأنه تأجيج كراهية المسلمين وفرنسا على حد سواء، وباعتبار الحملة التي تعرضت لها فرنسا مؤخرا استهدافا ونوعا من الدعاية التي تشوه سمعتها"، أهو تهديد مبطن أم ماذا؟ نص الميثاق يستشف منه محاولة لتبرئة الرئيس ماكرون من الاتهامات التي كالتها له كبريات الصحف الغربية بسوء معاملته للمسلمين والتهجم على مقدساتهم بحجة محاربة الإرهاب والتطرف، كما أنه يمُنّ على المسلمين بحرية التعبد غير الموجودة في مجتمعات أخرى، وهي لعمري مقارنة لا تليق بفرنسا رائدة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. خلاصة القول، تزامن صدور "ميثاق المبادئ للإسلام في فرنسا" مع "قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية" ، لا يمكن أن يفهم إلا بكونه تكملة لنص القانون الذي ما كان ليمرر أمام المجلس الدستوري لو ضُمّن ما ضُمّن الميثاق، أما مجرد قراءته فتظهر أنه كُتب بعقلية المتهم الذي يبحث عن البراءة، الله يحسن العون.