الصلح خير .. لا أحد يتوفر على قدر من بسيط من الوعي والنضج والحرص على مصلحة الوطن العربي إلا وسيكون سعيدا مسرورا بالمصالحة القطرية السعودية خاصة، والمصالحة الخليجية عامة، هذا الصراع الوهمي الذي عمر ثلاث سنوات لم تجن منه هذه الدول لا نفعا سياسيا ولا مصلحة اقتصادية ولا خيرا بشريا.. بل خلال كل هذه المدة ما حصدت هذه الدول إلا أزمات اقتصادية وسياسية ومآسي إنسانية، تجاوزت حدود تلك الدول إلى دول قريبة عروبة وجغرافية، وعلى رأسها اليمن الحزين. كي يكون لهذه المصالحة نجاح ومعنى ودور واستمرار، لابد أن تأسس على شروط موضوعية، وتمتد إلى جوانب أخرى ذات أهمية قصوى. أولا/ شروط نجاح واستمرار المصالحة: 1- المصالحة مع شعوبها: وهذا أول شرط وأهم شرط ورأس كل شرط، فدول أوروبا التي لها تاريخ عريق في استبدا ملكياتها والديكتاتوريات الجمهورية، والمثخنة بجراح الحربين العالميتين لم تنجح في المصالحة فيما بينها إلا بعد أن تصالحت مع شعوبها من إخلال توسيع مجال الحقوق والحريات السياسية والفكرية والإعلامية، وأرست دعائم أنظمة ديمقراطية حقيقية، وتداول سلس وسهل للسلطة، وبناء تنمية قوية في شتى المجالات قائمة على العدل والمساواة وتكافئ الفرص وحرية الفكر والإبداع. لذلك، كي يكون لهذه المصالحة – التي نسعد بها – معنى حقيقي ونجاح واستمرار، فعليها أن تستفيد هذه الدول من التجربة الأوربية التي طحنتها الحروب لسنوات عديدة خلفت ملايين الضحايا والمشردين.. واستطاعت في سنوات قليلة أن تستعيد قوتها وتجمع شملها وتحقق تفوقها على جل دول القارات. على دول الخليج أن تتصالح مع شعوبها، وتعمل على إحداث انفراج سياسي وتوسيع الحريات وإطلاق سراح المعتقلين من العلماء والمفكرين والناشطين الحقوقيين ( وأخص بالذكر هنا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية ومملكة البحرين )، وإقرار أنظمة ديمقراطية حقيقية تعكس إرادة شعوبها التي من حقها المساهمة في القرار والاختيار من خلال مؤسسات منتخبة ديمقراطيا. 2- السيادة واستقلال القرار السياسي: من السذاجة أن نعتقد أن الخلاف الخليجي الأخير والحصار الذي ضُرِب على قطر كان قرارا سعوديا إماراتيا صرفا، فهذه الدول، شأنها شأن كل الدول العربية، سيادتها وقرارها السياسي بيد دول أجنبية أخرى بسطت نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري على كل دول الخليج، بل على كل الدول العربية.. وبالتالي فإن سيادة الدول العربية وقراراتها السياسية تظل منقوصة، بل منعدمة أحيانا، وهي خاضعة كليا أو جزئيا لإرادات واستراتيجيات وإدارة ومصالح الدول المتحكمة في كل قطر عربي.. فإذا كان من مصلحة الدول الغربية المهيمنة أن تتخاصم الأنظمة العربية وتتصارع وتدخل في حروب عبثية، فإن تفعيل منظومة الصراع والتطاحن يكون بيدها لا بيد الأنظمة العربية، وإذا كان من مصلحة هذه الدول المهيمنة تحقيق المصالحة والتقارب العربي/العربي، فإن القرار أيضا متحكم فيه من قبلها من خلال المنظومة ذاتها. وحتى تبقى الدول العربية في منأى عن تعليمات الدول الغربية وهيمنتها، فلابد أن تتخلص من تبعية الأنظمة العربية للغرب وتحقق سيادتها واستقلالها السياسي والاقتصادي، وتجعل ذلك شراكة وتعاقدا بينها وبين شعوبها. فهذه من الشروط الضرورية لتحقيق المصالحة العربية واستمرارها وتعميقها، ويجب أن نستحضر في هذا المقام الدروس والعبر التاريخية، مثل تطفل ملك الروم على صراع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وكيف رد هذا الأخير عليه.. ردا حقق معنى الاستقلالية والسيادة والعزة، بصرف النظر عن أسباب هذا الصراع وحقيقته ونتائجه. ونستحضر أيضا كيف سقطت القدس في الحروب الصليبية بعد أن تحالف أحد الخونة المحسوبين على المسلمين مع الروم، والأمر نفسه مع ملوك الطوائف بالأندلس باستثناء المعتمد بن عباد الذي التجأ إلى يوسف بن تاشفين الذي استرجع الأندلس إلى البيت الإسلامي زمن المرابطين، وكذلك مع سقوط بعض الثغور المغربية بعد تحالف أحد الأمراء السعديين مع الإسبان أيام السعديين… فالقاعدة التاريخية الثابتة تقول إن نهاية ونتائج أي تحالف أو احتماء أو تعاون مع الغرب الصليبي هو الخراب والتبعية والهيمنة والاستغلال والإذلال والهوان، فضلا عن التفرقة والصراعات الداخلية والحروب الأهلية، لذلك فنجاح هذه المصالحة واستمرارها رهين بمدى قدرة أنظمة الدول الخليجية خاصة، والعربية عامة على تحقيق السيادة الذاتية واستقلال قراراتها السياسية، وإلا فأن العلاقات العربية/العربية ستبقى رهينة مزاج الغرب ومصالحه في المنطقة. 3- تحقيق تنمية وطنية وعربية: المنطقة الخليجية ثرية بمواردها واحتياطاتها النفطية التي جعلتها دولا غنية، ولكن ليست متقدمة، وهذا بسبب اعتمادها الكلي على الغرب علميا وصناعيا وتجاريا، الأمر الذي جعل اقتصادها تابعا غير مستقل، ضعيفا غير قوي، مستهلكا غير منتج.. وذلك على حساب تحقيق تنمية وطنية يكون موضوعها ومنتجها ومستهدفها المواطن الخليجي، ويمتد ذلك إلى بناء اقتصاد قوي ومستقل صناعيا وتجاريا وعلميا، فليس من حق هذه الأنظمة أن تتذرع بالفقر وقلة الموارد الطبيعية وضعف وقلة العنصر البشري، فالتعليم والعلم والبحث العلمي الجاد قادر على حل هذا المشكل، وإن كان في الحقيقة ذلك مجرد مشكل وهمي. فكل من ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتركيا وغيرها من الدول الصاعدة، كانت وضعيتها المالية والاقتصادية أضعف بكثير، بل كانت تحت الصفر، وانطلقت من العدم بفضل الحرية والديمقراطية وتجويد التعليم، والاعتناء بالعلم والثقافة، وبالعنصر البشري عماد أي تنمية وأصلها ومنتجها والمستفيد منها. ثانيا/ امتدادات المصالحة الخليجية: من شروط نجاح هذه المصالحة أن تمتد نتائجها وخيرها إلى دول كانت ضحية هذا الصراع العبثي الوهمي، وعلى رأسها : 1/ اليمن " الحزين " لم يكن الشعب اليمني ضحية صراعات داخلية حول السلطة، بل أيضا ضحية أطماع خارجية وحقد خارجي يستهدف الديمقراطية الفتية والإجهاز على حلم وحق الشعب اليمني في اختيار من يحكمه ويسوسه.. ولا يمكن أن نبرأ النظامين السعودي والإماراتي، بل لقد كانت لهم اليد الطولا فيما وقع للشعب اليمني من قتل وتشريد وخراب، وهما مسؤولان مسؤولية مباشرة عن تلك الأوضاع الكارثية التي وصلت إليها اليمن تحت أنظار الغرب المنافق ومباركته.. حتى تكون هذه المصالحة الخليجية صادقة ونافعة، فعلى النظامين السعودي والإماراتي أن يتحملا نتائج الوضعية اليمنية ويعملان على إنهاءها سلميا والخروج الفوري من الأرض والأزمة، وجبر ضرر الدولة واليمنيين، وترك الخلاف لأهله إذا لم يستطع النظامان حله بالطرق السلمية والحبية في إطار حل سياسي وليس عسكريا. 1/ ليبيا " الممزقة " : للأسف كان للنظام الإماراتي دور قذر في الأزمة الليبية، بعد أن أيدت ومولت ودعمت بالمال والمرتزقة حفتر الذي انقلب على الشرعية وعاث في ليبيا دمارا وفسادا وتخريبا ونهبا بمباركة من فرنسا، فأضحت ليبيا مرتعا لتقاطبات سياسية وعسكرية بين فرنسا والإمارات اللذان اصطفا ضد الشرعية من جهة، وتركيا وقطر اللذان دعما الشرعية من جهة أخرى، على حساب الشعب الليبي وإرادته وثرواته واستقراره.. فالمصالحة الإماراتية القطرية لن يكون لها معنى وفائدة إذا لم يستفد منها الشعب الليبي بإنهاء الحرب الأهلية الطاحنة التي استنزفت خيرات البلاد وشردت أهلها وقتلت أبناءها.. إن المعنى الحقيقي للمصالحة هو القطع النهائي مع أسباب الفرقة والخلاف، وأن يبقى القرار السياسي والسيادي بيد أصحابه وليس خاضعا لمزاج ومصالح القوى الغربية، وأن تتصالح هذه الأنظمة مع شعوبها وجيرانها وبني جلدتها ودينها، وأن تتصالح مع مواردها وثرواتها الطبيعية ليستفيد منها أهل وأبناء البلد وإخوة العروبة والدين، وأن تصل هذه الأنظمة بشعوبها ودولها إلى مستوى الندية العالمية بدل التبعية الذليلة، وبدون ذلك فالمصالحة ستبقى واقفة على شفا جرف هار، إلى أن تحقق الشعوب بنفسها استقلالها عن الأنظمة والغرب، وتفرض اختياراتها السياسية والتنموية بإرادتها الحرة المستقلة.