بالرغم من الدور الذي لعبه صانع القرار الأمريكي في ما يتعلق بقبول المغرب لتبادل فتح مكتبي إتصال دبلوماسي مع اسرائيل، في أفق إقرار لعلاقات دبلوماسية كاملة فيما بينهما، فإن القرار الرسمي المغربي لم يكن مستبعدا، بالنظر الى عديد المؤشرات التي يمكن رصدها في الفترة الأخيرة، خاصة انخراط حلفاءه بالخليج في مسلسل "التطبيع"، والاتصالات التي دشنها مستشار الرئيس الأمريكي كوشنر مع المسؤولين المغاربة في أكثر مناسبة، إلى جانب الخطوة التي أقدمت عليها الإمارات بافتتاح قنصليتها بمدينة العيون، والمواقف الخليجية الداعمة للمغرب إزاء التصعيد العسكري الذي يشهده إقليم الصحراء مؤخرا. لكن الخبر المفاجئ الذي غطى على تبادل التمثيل الدبلوماسي نفسه، هو الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء، واعتزام واشنطن افتتاح قنصلية لها بمدينة الداخلة، في تطور لافت من شأنه أن يؤثر على مسار تعاطي المجتمع الدولي مع الملف، خاصة في أروقة هيئات الأممالمتحدة التي تعد المتدخل الرئيسي في مساعي تحقيق السلام بالإقليم. قرار يكتسي أهمية بالغة ليس بالنظر الى وزن الولاياتالمتحدةالأمريكية في الساحة الدولية ودورها في صياغة قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالنزاع الصحراوي فحسب، كونها المبادرة بتحرير مسودات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بخصوص الملف، ولكن أيضا باعتبار حساسية التوقيت الذي جاء فيه، والمتميز بتصاعد وتيرة التصعيد العسكري والسياسي بالإقليم، منذ اندلاع أزمة الكركرات الأخيرة، والتدخل الأمني المغربي في المنطقة الحدودية، قبل إعلان البوليساريو لانسحابها من اتفاق وقف إطلاق النار، ثم إصدارها لعديد البيانات العسكرية حول ما تصفه بعمليات قصف على طول الجدار العازل. تطورات تأتي بالتزامن مع عديد الخطوات الهامة التي أقدم عليها المغرب في إطار التحضير لتغير جوهري في تعاطي القوى الدولية مع ملف نزاع الصحراء، من ضمنها تحييده لمواقف كل من القوتين الدوليتين اللتان كانتا تناوئان طروحاته في مجلس الأمن، أي روسياوالصين باعتبارهما تتمتعان بحق النقض "الفيتو". فقد تمكن من انتزاع ما يمكن وصفه بالإعتراف الضمني لروسيا بسيادته على إقليم الصحراء، من خلال اتفاقية الصيد البحري شهر نونبر المنصرم، والتي تعد هي الاتفاقية الثامنة بينهما في هذا الصدد، لتعوض الاتفاقية الموقعة سنة 2016، والمنتهية في مارس الماضي، حيث تشمل سواحل الإقليم. أما بخصوص الصين فقد دخل المغرب معها في شراكات استراتيجية، تهم التعاون بخصوص تدبير جائحة كورونا، خاصة ما يتعلق بإنتاج شركات مغربية وتسويقها للقاحات الصينية في أفريقيا، في خطوة اعتبرها البعض مؤشرا على التحرر من الارتباط بداعمه السياسي الأهم في مجلس الأمن وشريكه الاقتصادي القوي فرنسا. فإلى جانب تمكنه من إبرام صفقة شراء لطائرات مسيرة متطورة، تعد بمثابة سلاح استراتيجي، حيث اقتنى أربعة وحدات متطورة من نوع MQ-9B، والتي تملكها دول قليلة من بين حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد تم التأكيد في البيان الصادر عن البيت الأبيض بخصوص الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، على دخول البلدين في شراكات اقتصادية هامة تهم المنطقة. خطوات تنضاف الى مشروع الربط القاري الاستراتيجي في ما بين أوروبا والمغرب، والذي يجمع الأخير بإسبانيا، أحد أهم المتدخلين في ملف نزاع الصحراء، كونها المستعمر السابق للإقليم، حيث لا تتزال تتحمل تبعات قانونية وسياسية على إثر خروجها دون العمل على حل النزاع بشكل نهائي، ففيما تشير عديد التقارير الإعلامية الى اتجاه صناع القرار في البلدين إلى التسريع من وتيرة التحضير لمشروع النفق البحري الذي سيمكن من زيادة التبادل التجاري بين المغرب وأوروبا، وهو ما يفسر تعاطي اسبانيا الإيجابي مع تدخل المغرب في الكركرات، النقطة الحدودية التي ستساهم في إنجاح مشروع الربط القاري بجبل طارق. مشاريع تعزز عديد الشراكات التي تجمع المغرب بمجموعة من القوى الدولية الغربية، وعلى رأسها الجار الإسباني، من أهمها انخراطه في تحالفات أمنية تتعلق بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الى جانب أخرى خاصة بالتصدي للهجرة السرية، فضلا عن مجموعة من الشراكات الاقتصادية تتعلق باستثمارات أوروبية وغربية في إقليم الصحراء، في مجالات الطاقات المتجددة، الفلاحة والصيد البحري. وفي ما يتلق بالجارة موريتانيا التي تعد طرفا ملاحظا في ملف النزاع الصحراوي، فقد تمكن المغرب من انتزاع اعتراف ضمني من قبلها بالوضع الجديد في الكركرات، فقد تجاوبت السلطات الموريتانية مباشرة بعد تدخل الجيش المغربي في المنطقة الحدودية، ليعاد افتتاح البوابتين الحدوديتين في وجه الراغبين في اجتياز المعبر عشية يوم انسحاب البوليساريو منه، ما يوضح تغيرا كبيرا في الموقف الموريتاني الرسمي، الذي جاء بعد ما أزمة تسبب غلق المعبر من طرف البوليساريو في أزمة نذرة عديد المواد الغذائية في الأسواق الموريتانية، بسبب اعتماد الأخيرة على الواردات المغربية لتأمين جزء مهم من حاجياتها الغذائية، ما فتح المجال لنقاش واسع في أوساط الرأي العام الموريتاني حول مراجعة موقف "الحياد الإيجابي" الذي لطالما عبرت عنه موريتانيا بخصوص النزاع الصحراوي. وكان المغرب قد نظم عملية إنزال دبلوماسي واقتصادي واسعة في عديد الدول الافريقية، بالتزامن مع سعيه الى العودة لحضن منظمة الإتحاد الافريقي، حيث عمل على تحييد مجموعة من الدول الوازنة التي كانت معروفة بمساندتها للبوليساريو في المحافل الدولية، في ما يتعلق بموقفها من النزاع الصحراوي، وفي مقدمتها نيجيريا، البلد الافريقي الهام، على إثر توقيعه لمجموعة من التفاهمات والشراكات الاقتصادية،في مقدمتها مشورع استراتيجي هام يتعلق بمد أنبوب لتصدير النفط والغاز النيجيرين عبر مجموعة من دول غرب إفريقيا ليمر بالمغرب في اتجاه أوروبا، وهو المشروع الذي لم يكن ليتحقق انجازه على أرض الواقع بدون تأمين المغرب لمنطقة الكركرات. وأما الأممالمتحدة، فقد عبرت مرارا من خلال تصريحات وتقارير أمينها العام عن رفضها لأي محاولات لغلق معبر الكركرات، مؤكدة على طبيعته المدنية، وعلى ضرورة ضمان الأطراف جميعا لحرية تنقل الأشخاص والبضائع من خلاله. وهي مواقف تباناها مجلس الأمن أيضا في بعض قراراته، منذ اندلاع أزمة الكركرات الأولى سنة 2016، رافضا لأي إجراء من شأنه التضييق وعرقلة التنقل في المعبر الحدودي. ملفات تهم جميع المتدخلين في نزاع الصحراء، لكنها تنضاف إلى ملفات أخرى تكرس الدور المغربي بحكم تواجده الميداني وإدارته للإقليم منذ اندلاع النزاع قبل قرابة ال45 سنة، والذي تعزز حاليا بتدخله الأمني في الكركرات، وبالتالي تأمينه لكامل الطريق الرابط بين طنجة والحدود الموريتانية، إضافة الى تأمينه لكامل ساحل الإقليم. وضع جيوسياسي من شأنه أن يضيق على البوليساريو التي باتت محرجة أمام أتباعها بعد أن اضطرت الى الانسحاب من المعبر، ما قد يدفعها الى الاستمرار في التصعيد العسكري تفاديا لمواجهة سخط وامتعاض شعبي لا يزال يزداد احتقانا في معسكراتها الداخلية، نتيجة فشلها في مواكبة مجمل المستجدات والتغيرات الجوهرية التي تشهدها المنطقة والعالم. على العموم ورغم كل المكاسب التي حققها المغرب في الآونة الأخيرة والتي من شأنها أن تدعم طرحه المتعلق بمنح الاقليم حكما ذاتيا، فإن العمل على انهاء النزاع يتطلب إعطاء فسحة من الزمن للبوليساريو حتى تستوعب التطوارت المتساعرة بخصوص الملف، لتبلور تصورات كفيلة بالتعاطي مع الواقع الجيوسياسي الجديد بالإقليم، بدل خطابها الشعبوي المتجاوز التي عجز عن مواكبة مختلف التحديات التي تواجهها. الى جانب ضرورة البحث عن شركاء آخرين يمثلون أطيافا واسعة من سكان الإقليم ممن يحملون قناعات خارج دائرة البوليساريو، والذين قد يساهمون في استحضار كافة هموم وتطلعات الصحراويين الذين يفترض أن يكونوا هم المعنيون بالدرجة الأولى بمستقبل الإقليم وبإقرار وتشريع أي وضع سياسي فيه.