أثار طبق الكسكس جدلا ونقاشا يكاد يكون حادا من أجل الاستئثار بمن له أحقية الأسبقية في ظهوره ونشأته، والأكثر تمسكا واتقانا في جودة تحضيره، وبالتالي ارتباط أغلبية العائلات به كعادة وثقافة متوارثة، من بين شعوب شمال إفريقيا. حيث تقدمت، ولعدة مرات متوالية على مدى سنوات، البلدان المغاربية الأربعة : المغرب، الجزائر، تونس وموريتانيا بملفات منفردة إلى منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، مصممة العزم على ربح رهان السبق في الظفر بالأولوية من أجل ضمه إلى سجلها الثقافي والحضاري، لكن طلباتها لم تحظ بالموافقة، مما دفعها إلى سلك طريق مشترك، والتقدم بملف موحد لتسجيل هذه الوجبة كتراث إنساني عالمي لا مادي. وتم قبول الملف المشترك من طرف لجنة التراث العالمي بتاريخ 29 مارس 2019 لدراسته. وبعد مناقشة الوثائق المدلى بها والتأكد من المصادر المعتمدة، أقرت اللجنة الدولية الحكومية لاتفاقية صون التراث الثقافي اللامادي التابعة لليونسكو يوم الأربعاء 16 دجنبر 2020 تسجيل عنصر " الكسكس : المعارف والمهارات والطقوس" الذي تقدمت به الدول المغاربية الأربعة. وصرحت المديرة العامة لليونسكو، السيدة أودري أزولاي بالمناسبة، "بأن هذا التسجيل المشترك نجاح كبير. إنها علامة قوية على الاعتراف الثقافي وأيضا نجاح دبلوماسي حقيقي حول موضوع مهم ورمزي لشعوب هذه المنطقة بأكملها، وما حولها. ويدل هذا الإجماع على أن التراث الثقافي يمكن أن يكون شخصيا واستثنائيا وقد يتجاوز الحدود". وبرجوعنا إلى أصل الأكلة وتطورها التاريخي، نجد نوعا من الإجماع على كونها وجبة عريقة في القدم، عرفت بتحضيرها لدى شعوب شمال إفريقيا. وقد أشار إليها الشاعر وعالم اللغة، المزداد بمدينة البصرة سنة 837م، أبو بكر بن دريد في كتاب "جمهرة اللغة"، حيث ذكر بأن الكسكس يصنع من طحين القمح والذرة، مما يعني قِدم هذه الوجبة، التي أثارت اهتمام اللغويين في العصر الوسيط. كما وردت في العديد من الكتابات القديمة عبر العصور، مثل ابن الزيات التادلي (متوفى سنة 1230م، في كتاب "التشوف إلى رجال التصوف"، والحسن الوزان – ليون الإفريقي (1488-1554م : في كتاب "وصف إفريقيا"، وغيرهم. وربما يعود تحضير الكسكس إلى ما قبل الميلاد نظرا للعثور على بقايا أواني شبيهة بتلك التي تستعمل لإعداده من الفخار بالمغرب، تؤرخ لتلك الحقبة. بعض الباحثين يرجعونه إلى القرن الثالث قبل الميلاد، إلى العهد الروماني، زمن الملك ماسينيسا، موحد قبائل شمال إفريقيا ومؤسس مملكة نوميديا. ومع مرور الزمن، لا بد أن تكون قد دخلت عليه تغييرات وتحسينات من حيث التحضير والتقديم. فهو أكلة أمازيغية بحسب الروايات المتداولة منذ القدم، ومنها رواية العلامة ابن خلدون، حيث ذكر بأن سكان المغرب لما سئلوا أثناء الفتح الإسلامي عن هويتهم، أجابوا : "نحن قوم نحلق الرؤوس، ونلبس البرنوس، ونأكل الكسكوس"، أو سكسو بأصلها في لهجة الأمازيغ، وتعني : حبيبات أو كويرات، وقد عربت وصرفت واشتقت منها أفعال وأسماء مثل : كَسْكَسَ، وكسكاس.. وتعددت التسميات حسب اللهجات ، منها سكسو – سيكسو – كُسْكُس – كَسْكسو – الطعام – لفّار – أما في الجزائروتونس فيسمونه كُسْكْسي. وما دامت الوجبة أصلها أمازيغي، فإن الكلمة دخلت اللغة العربية، لكنها خلال القرن العشرين وصلت إلى جميع القواميس العالمية، وأصبحت تقدم في الكثير من المطاعم بمختلف البلدان. وهي وجبة معروفة بدرجة كبيرة في كل الأقطار المغاربية، لكن لكل منطقة طعم وذوق كسكسها الخاص، وطريقة التحضير دخلت عليها تغييرات بحسب عادات كل بلد، وكل منطقة. وحتى بعض أقطار المشرق العربي مثل فلسطين والأردن يحضرون وجبة شبيهة بالكسكس تسمى : المفتول. كما عرف اليهود المغاربة وجبة الكسكس التي كانوا يحضرونها في بعض المناسبات الدينية مثل اليوم الثاني من رأس السنة العبرية. لقد عرفت الوجبة لدى المسلمين بالأندلس، حيث أن الموريسكيين الذي فضلوا البقاء في ظل الحكم الإسباني الكاثوليكي بالأرض التي نشئوا بها، أصبح يقبض على كل من تشم من مطبخه راحة طهي الكسكس وتتم إدانته في إطار محاكم التفتيش، لاتهامه بممارسة الشعائر الإسلامية، واعتبروا الكسكس أحد الطقوس الدينية. وهو بالفعل أصبحت له رمزية لاعتماد الناس عليه في معيشتهم في الأزمنة القديمة قبل الانفتاح الحضاري والتمدن، وتنوع الأغذية بالاحتكاك مع ثقافات حديثة وعصرية. وللإشارة كان الكسكس يحضر في أواني طينية – من الفخار، ويقال للكسكاس : الفخار، ويتم إحكامه بقطعة من الثوب تسمى القفال لمنع تسرب البخار من القدر، ومنها المثل المشهور " إلا ما قفلتي لا فورتي" يعني إتقان العمل ليكون ناجحا ومثمرا. واستمر استعمال هذه الأواني إلى أواخر الستينيات، وخاصة في البادية، إلى أن اكتسحت أواني ألومونيوم المطبخ المغربي انطلاقا من الحواضر ثم القرى فالبوادي. ولدى العائلات الثرية الكثيرة العدد، وفي المناسبات التي يكثر فيها الضيوف، يتم استعمال طنجرة وكسكاس من النحاس. وجبة دينية وبما أنه موروث شعبي، فهو لا يغيب عن موائد أغلبية العائلات، ولو مرة في الأسبوع. وأصبح طقسا متجذرا في الثقافة الشعبية، فهو البركة، وهو النَّعمة، إلى درجة نوع من التقديس، بحيث لا يسمح برمي ما تبقى من الكسكس ضمن النفايات المنزلية، ولا طرحه في الأرض، وينبغي التخلص منه بطريقة محترمة، بتقديمه لبعض الحيوانات الأليفة. ولا يمكن بدأ أكل الكسكس إلا بعد غسل اليدين وذكر اسم الله، وحمد الله في النهاية. الكسكس غالبا ما يؤكل باليد مباشرة، وتكوير اللقمة قبل وضعها في الفم، كما أن لحس اليد وخصوصا الأصابع مستحب لدى الكثيرين. وإن كان أصبح يتناول بالملاعق. يقدم الكسكس غالبا في "الكَصعة" مصنوعة إما من الخشب، أو من الخزف "باز أو قصرية". ويتم تناوله جماعيا في ماعون واحد. وهو حاضر في مختلف المناسبات، وخاصة ما لها صلة بالتدين. يوم الجمعة أصبح عادة مؤكدة وخاصة في المراكز الحضرية وشبه الحضرية. فبعد أداء الصلاة والخروج من المسجد يجتمع الناس في إطار عائلي أو بين الأصدقاء للالتفاف حول قصعة الكسكس عند أحدهم، فهو يتناول جماعة، حيث يقال : "فين تحط يد يتحطو سبعة أو حتى عشرة"، بحيث تكون القصعة كبيرة، ولا يعقل أن يتناولها شخص بمفرده. في الجنائز يقدمه جيران أهل الميت لعائلته وللضيوف الذين يحضرون لتقديم واجب العزاء، بعد المشاركة في طقوس الدفن والعودة من المقبرة مباشرة. ويقدم في عشاء الميت بنية الأجر والثواب.. ولا يستغنى عنه في ولائم الختان والأعراس عند الفئات الشعبية، وفي حفلات مواسم التبوريدة، وبين الأصدقاء والعائلات، وفي الجمع بينهم وخلق جو من التقارب أو الصلح بين الخصومات، بحيث يقال : "دير لينا ماعون أو كَصعة كسكسو نتجمعو عليه ونصالحوكم". ويقال أيضا، "لازم نتشاركو طعام" كعربون عن الصداقة والوفاء وعدم خيانة الأمانة. وتجمع حوله حلقات الذكر عند الصوفية. ويقدم بصفة خاصة إلى المعوزين يوم الجمعة بأبواب المساجد من طرف المحسنين. ويتناوله المسنون الذين فقدوا أسنانهم لسهولة مضغه. وللإشارة في البوادي كان يحضر الكسكس يوم السوق الأسبوعي في وجبة العشاء، بحيث لا يمكن الاحتفاظ باللحم والخضر الطرية لعدم توفر الثلاجات قبل تعميم الكهرباء بالبوادي، ونظرا لاشتغال الناس بالحقول طول النهار. لكن بالنسبة للعائلات الميسورة، أصبح الكسكس يقدم للضيوف في الغالب بصفة ثانوية، أي بعد تقديم الوجبات الدسمة والفاخرة. أنواع الكسكس أما عن أنواع الكسكس، فهي كثيرة بحسب المناطق، بحيث يلجأ إليه الميسورون والبسطاء على حد سواء، وإن اختلفوا في جودة التحضير، كل بحسب إمكانياته. فكما أنه أكلة شعبية، لكن حتى موائد الأثرياء لا تخلو منه. وفي أزمنة خلت كان هو الوجبة الرئيسية للطبقة الفقيرة، ويحضر بطريقة بسيطة. يمكننا التطرق لأنواعه، فهو يحضر من طحين القمح الصلب، وعلى الخصوص السميدة (طحين من حبيبات صلبة) ومن الذرة، يسمى في بعض المناطق (باداز) وأيضا من بلبولة الشعير. وينبغي أن يفتل بطريقة خاصة، ويفور في الكسكاس، وأجوده ما يفور ثلاث إلى أربع مرات، يسمى لفّار، نسبة لبخار الماء الذي يطبخ فيه اللحم والخضر، ويصعد من الطنجرة إلى الكسكاس. وفي بعض الأحيان أو لدى بعض العائلات كان يتم صناعة الكسكس بكمية كبيرة ويحفظ في مكان جاف، ليستعمل عند الحاجة، قبل أن تظهر المتاجر الكبيرة. وهناك : كسكس باللحم، وغالبا ما يفضل لحم الغنم، وكذلك لحم البقر، أو الدجاج وبسبع خضاري، عرف في البداية الحواضر المغربية منذ زمان، وخاصة الكسكس المراكشي والفاسي. وهو الذي أصبح شائعا، ويتم تحضيره يوم الجمعة وفي المناسبات وخاصة الدينية، عيد المولد – عيد الفطر – العيد الكبير بالليل (بلحم كتف الخروف) – ليلة القدر. والخضر المستعملة هي "الكَرعة الحمراء – البصلة – اللفت – الجزر – الطماطم – لمكور- كَرعة خضراء – الفول الأخضر، والفلفل الحار، وقد تضاف إليه بعض الخضر اليابسة مثل الحمص والفول اليابس. بالإضافة إلى التوابل، والسمن المملح، وفي بعض الأحيان يضاف إلى المرق الحليب، لكن دون استعمال الطماطم. ويقال في المثل الشعبي : "كسكسو بسبع خضاري نوكل داري ونعطي لجاري" كسكس المجبنة والكَديد والكرداس بعد عيد الأضحى. كسكس التفاية بالبصلة والزبيب. كسكس بلبولة الشعير ولحم الرأس مع الحمص والفول اليابس. كسكس بالقطاني المختلفة، بدون لحم، وكانت في الماضي تداوم هذه الأكلة في فصل الشتاء لعدة مرات في الأسبوع خاصة بالنسبة للعائلات المعوزة. كسكس بالحمرة يحضر في الغالب بالبوادي، خليط من الطحين والنخالة، ويستعمل في الأوساط الفقيرة، لكن أصبح يلجأ إليه حتى أصحاب الحمية لمعالجة تشنجات القولون وعسر الهضم. وهناك أنواع أخرى تعتمد في تحضيرها على سميد القمح الصلب، أو بلبولة الشعير، أو الذرة : مثل صيكوك مزيج الكسكس واللبن و يتناول باردا. وغالبا ما كان يقدم للحصادة باللبن الحامض في زمن الحصاد باليد والمنجل، وكان يتناول بصدف المحار أو "البحرارة" يحملها الحصاد معه ضمن أدوات الحصاد. بركوكش : كسكس يفتل حبات غليظة ويطبخ في الحليب والزبدة ويؤكل ساخنا، وغالبا ما يقدم للمرأة عندما تكون في حالة نفاس. سفة الكسكس بالزبيب والقرفة ومسحوق السكر والزبدة الطرية. ونجد الحديث عن الكسكس في أدبيات الرحالة الأوربيين الذين زاروا المغرب قبل الاحتلال منذ القرن 19. حيث يصف الكثير منهم وجبة الكسكس وهم يتعجبون للطريقة اللي يتناول بها باليد مباشرة دون استعمال الملاعق، وتكوير اللقمة وكيفية رميها في الفم بسهولة. منهم شارل دو فوكو في كتابه الاعتراف. أو الدكتور فريدريك ويسجربر خلال جولته بربوع الشاوية في أواخر القرن 19. وجبة الكسكس يتم تناولها مباشرة دون حاجة باللجوء إلى مقبلات، ولا فواكه بعد الوجبة، إلا أن كؤوس اللبن مستحبة ومصاحبة للكسكس.