* كنت أعتقد أننا ابتعدنا عن زمن الفكر الواحد والخِتم الواحد، أو أنّ هناك قناعة حقيقية بالتفكير النقدي وجدلية الأطروحة ونقيضها وما يختلف عنهما أيضا ضمن بوتقة نقدية منفتحة على كلّ الأطياف والمشارب الفكرية. كانت نشوتي أننا، كمغاربة ومغاربيين، ورثةُ التنوير الأندلسي وأننا الأحقّ بتركة ابن رشد التي مثلت مساهمة عربية، إلى جانب الإرث الأرسطي، في تشييد أعمدة الحداثة والديمقراطية الأوروبية والأمريكية. اعتقدتُ أننا نجحنا على الأقل في تبيئة مغربية لفكر هيجل ووهايدغر وأدورنو وهابرماس، ولدينا في العهد الجديد مجال عام حيوي يبعدنا عن حقبة القبضة الأمنية بقبول التعبير الحر، وتعدّد الاجتهادات، والتخلي عن قالب التصنيفات الانكشارية الضيقة بين "الموالين" و"المعارضين"، وكأنّ قوس قزح المغربي لا يقبل إلا الأبيض والأسود. تحليل أي قضية مهمة في مصير دولة وشعب وأحلام أجيال، كما هو حال توقعات المغرب حاليا من الرئيس ترمب بشأن سيادة المغرب على الصحراء مقابل تنازلات معينة إزاء شروط كوشنر نيابة عن نتنياهو، يستدعي طرح أسئلة ضرورية في التقييم والتدقيق والحساب الاستراتيجي، قبل أن تجرّنا نشوة اللحظة ونفسية القطيع السياسي المتشوّق لأي فتح دبلوماسي ممكن إلى التصفيق العفوي بفعل غلبة التفكير الجماعي المتطابق groupthink. أكتشف الآن أننا لا نزال للأسف حبيسي الثنائية الذهنية ضمن انشطارية إما "معنا" أو "ضدنا". وحتى بعض مثقفينا يتشبعون بمنطق القبيلة السياسية وفرزنا، كما تُفرز الأغنام، بشارات "الدواخل" و"الخوارج". ويطلقون العنان لتصنيفاتهم الاعتباطية وإصدار صكوك "المواطنة" و"الروح الوطنية" و"الوحدة الوطنية". هم يحتمون في ذلك بعصبة خلدونية، أو لنقل نيوعصبية neo-asabiya، كانت عشائريةً وراثيةً في الماضي، وأصبحت سياسيةً وأيديولوجيةً متواترةً في الحاضر، وهي تخشى الآن عقلانية الأخذ والرّد والتفكير النقدي. تتزايد موجة التصنيفات الانكشارية وتخيلات الحدود بين "نحن" و"هم" بهندسة جديدة ومحفّزات تقدّمها جهات تقاوم السؤال الجريء، وتسعى لاستدامة الخِتم الواحد والفكر الواحد. يتضخّم الطرح العاطفي لدى البعض فيتخيلون أنفسهم "قيّادا" في المقاطعة يختمون على بطاقات هويات جديدة: "هذا ديالنا" و"هداك ديالهم". كلما ارتفع منسوب التحليل العقلاني والمحايد في كتاباتي ومقابلاتي، ازدادت ميولهم إلى الشيطنة وتركيب ألقاب لا تركب على أفكاري ولا من أكون في الواقع. ببساطة، أنطلق من فلسفة تسوية الصراعات والأزمات ونظريتي التشابك والتفكيك. لستُ مسيّسا ولا مدافعا عن موقف ضد آخر، أو أجيرَ خدمات سياسية، أو مرمّمَ خطابات إعلامية مشروخة في بعض القنوات. قد يستغرب البعض من تقريضي لقرارات أو سياسات ما أو حتى جهات وشخصيات معينة، فيحسبني "ناقما"، أو "معارضا" أو أي تصنيفات تعسفية أخرى لأني لم أعزز قناعاته ولم يجدني مرافعا عن تبريراته. وعندما يقرأني في تقريض أطراف أو مؤسسات على الجهة أو الجهات الأخرى، يجد نشوته في أني "مُحرِج" أو "لاذع" للطرف المقابل. تكثر الاستفهامات من هو ومع من يكون حقيقة؟ أهو "مغربي"، أم "جزائري"، أم "جمهوري" أم "ديمقراطي"، أم "يميني" أم "يساري". ببساطة، تجاوزتُ منطق التصنيفات وتخندق المعسكرات السياسية منذ عقود سواء في الإعلام أو البحث العلمي. لست "مثقف" الفصول الأربعة ولا "محلل" المواسم السياسية. وآرائي وقناعاتي مستقرة منذ البداية لا تتغير باستقرار القراءة النقدية التي أتبناها في كل اتجاه. أومن أن لكلّ طرف أو نظام أو فصيل سياسي فضائله ونواقصه، ملائكياته وشيطنياته. وتنطوي كل قضية في السياسة الدولية على أسباب جذرية يتعين التنقيب عنها بمعول حاد وتحليل صارم. وجدت في سياسات ترمب ما يثير التحليل والتقريض، وغدا تأتي أيام بايدن بما يستحق التحليل والتقريض ذاتهما. أقدم اجتهاداتي لمن يريد تصورا مغايرا لما يملأ أذنيه من حوله، ولا أحمل في أحشائي مشاعر سلبية أو مغالية في العاطفة لأي طرف من الأطراف في منطقتنا المغاربية وبقية الرقعة العربية. ومع ذلك، يسارع بعض أولئك الانكشاريين إلى إصدار أحكام واهية وأوصاف جاهزة على الرّف على من أكون في ضوء آرائي ونقاشاتي مع ذوي رؤى مختلفة. من هؤلاء الانكشاريين السيد صبري الحو الذي لم يحدّ تكوينه القانوني وعمله كمحام من انجرافه نحو أحكام ووصمات معدّة سلفا، فكتب يقول "انتبهت جيدا الى مرافعات الخصوم، وللأسف منهم مغربي الدكتور …" لا أعلم إن كان هذا التلفيق من عندياته أم من تعليمات من يكنّ لهم الولاء وتأجير الضمير. ما هكذا تورد الإبل، يا فارس المحاماة وخطيب العدالة بمنطق "البراءة حتى يثبت الجرم". في زمن يسهل تلفيقُ التهمة وعقدُ المحاكمة وتقريرُ الإدانة واغتيالُ السمعة بجرة قلم واحدة، يطيب للسيد الحو أن يزهو برفع القلم الأحمر لتصحيح ما يتراءى له وحده أنه "أخطاء قانونية" بعدما أنزل من يده مطرقة القاضي في إدانة "الخطايا" لهذا الشرقاوي عاثر الحظ. للسيد الحو الحق كل الحق أن تختلف أو تتفق، أن تنتقد أو تنقح الدستور الأمريكي برمّته أيها الجهبذ العابر للقارات. لكن لا أقبل ولا أستسيغ منك ولا من غيرك أسلوبَ المكر الثعلبي في فبركة الأوصاف وتفريخ النعوت. فخامة المحامي الحو، لا تجعل مقابلاتي أو كتاباتي مطية أو لوحة إشهارية للترويج أنك "محامي وخبير في القانون الدولي"، لا يجد القراء تجسيدا لسجلك المعرفي ومثقال خبرتك في القانون الدولي في كتب منشورة أو دراسات مصنفة وفق معايير البحث الأكاديمي الرصين. ولا يوجد لاسمك أثر في محافل القانون الدولي أو لجان خبراء الأممالمتحدة. وأحلام اليقظة لا تمنحك مصداقية ما تدّعيه وإن سهل التلويح بعبارة "خبير" وهلامية على بعض القنوات أو المواقع الإلكترونية. أعبر لك السي الحو عن الشكر الجزيل والامتنان الجمّ لتواضعك وسخائك بتقديم ما وصفته "مساهمة منا في رفع الوعي والمعرفة القانونية بشكل النظام السياسي الأمريكي وبمواد دستوره". لكن هناك منطقة رمادية بين المعرفة الرصينة المستمدة من دراسة متخصصة والاستناد إلى مواقع معينة كما فعل غيرك من قبل في تعظيم قيمة الإعلان الرئاسي لترمب من الناحية القانونية والسياسية. باختصار، حاولتُ في أكثر من مقابلة ومقالة أن أوضح ما يتقاطع وما لا يتقاطع بين البيت الأبيض والكونغرس في بلد تحكمه قاعدة الضوابط والتوازنات checks and balances. ولا أكتفي في ذلك بمراجع أو منشورات، بل وأيضا بتتبع ما يحدث من تفاعلات شبه يومية بين سائر المؤسسات في واشنطن برؤية عملية ميدانية. وضمن الأدوات المخوّلة للرئيس في إدارة السياسة الخارجية الإعلانات الرئاسية Presidential proclamations التي تهم الأشخاص خارج الحكومة الفيدرالية، والقرارات التنفيذية executive orders التي تنطبق على من هم ضمن الحكومة الفيدرالية. ثمة صنفان من الإعلانات الرئاسية: 1) الإعلانات "الاحتفالية" التي تقرر احتفالات خاصة أو مناسبات قومية، و2) الإعلانات "الموضوعية" التي تتعلق عادة بتسيير الشؤون الخارجية وصلاحيات أخرى مخولة للرئيس بحكم أنه المسؤول عن الجهاز التنفيذي. وهناك صنف ثالث وهو إعلانات العفو الرئاسي عن بعض الأشخاص، كما فعل ترمب قبل أسبوعين إزاء ابنته إيفانكا وولديه ومحاميه أدولف جولياني. يزداد الحبر الأحمر احمرارا في قلم السيد الحو إلى حد التلويح بمغالطات مدوية. فهو يقول "أما الربط التعسفي الثاني والغريب هو إقامة الأستاذ الشرقاوي علاقة بين صحة الإعلان وتأثيراته المحتملة خارج أطرافه المعنية، وخروج الأستاذ باستنتاج أنها تأثيرات نسبية…"، وحتى لا يتعبّد صديقنا كثيرا في علياء المنصة "المعرفية" ويضيف لقبا جديدا "خبير القانون الدستوري الأمريكي، ينبغي التوضيح، وفق ما هو جار عمليا في واشنطن وليس بإسقاطات مكناسية من الجو، أن المسار القانوني لهذه الإعلانات الرئاسية يتحرك في ثلاثة اتجاهات: 1) أن تدخل حيز التنفيذ ما لم تعارض عليها أي من السلطة التشريعية أو القضائية. 2) أن يصّدق عليها أعضاء مجلس الشيوخ فتصبح قانونا نافذا لا يستطع تعديله أو إلغاؤه إلا المجلس ذاته. 3) أن يتم عرضها على القضاء إذا قبل المدعي العام في أي ولاية رفع الدعوى أمام المحكمة كما حدث قبل أشهر عندما تم الطعن في إعلان رئاسي اتخذه الرئيس ترمب في الثاني والعشرين من أبريل الماضي يمنع عدد من المواطنين المجنسين من ضمان أقاربهم في طلب الحصول على الإقامة في الولاياتالمتحدة بالحصول على البطاقة الخضراء "غرين كارت". انبنت هذه الدعوى على سابقة كانت عقب إعلان رئاسي آخر أصدره الرئيس ترمب يمنع بعض الأمريكيين من الحصول على الرعاية الصحية. قد تطول قائمة الأمثلة… لكن هذا التفسير القانوني لا يقلل القيمة الرمزية التي تنطوي عليه عبارات الرئيس ترمب في الإعلان الرئاسي الذي وقعه في العاشر من الشهر الجاري للاعتراف بسيادة المغرب على كامل الصحراء، وأمل أن يمضي قدما في استكمال بقية الإجراءات الإدارية لتعميم هذا الإعلان عبر وكالات الحكومية الفيدرالية وإقامة القنصلية الموعودة واستكمال صفقة الأسلحة التي يترقبها المغرب قبل خروجه من البيت الأبيض. لا يحتاج مغرب 2020 لفكر وسياسة وإعلام بنمط واحد، ومقاس واحد، ووطنية من نسخة واحدة، في تبرير السكوت خلال هذه المرحلة وتحولاتها، من قضية الصحراء إلى ترتيب بيت الحكم، وتدبير المضاعفات الاقتصادية المرتقبة لتفشي كورونا، وتنامي الفجوة بين الدولة والمجتمع وغيرها من التحديات. ومن يعتقد أن استنساخ الرؤية ذاتها وترديد غرف الصدى في الإعلام والجامعة والمنتديات الحزبية ضرورة من ضرورات المرحلة لا يخدم حقيقة مصلحة المغرب والمغاربة، فيكون بذلك داعية لحق أريد به باطل. * أستاذ الصراعات الدولية وعضو لجنة خبراء الأممالمتحدة سابقا.