حزب العدالة والتنمية نموذجا.. من النادر جدا أن تعرف التنظيمات موجات نقد ذاتي نابعة من قواعدها كما عاشها حزب العدالة والتنمية في الأسابيع الأخيرة مع مبادرة النقد والتقييم التي أطلقتها قواعده. ولكن لماذا في أغلب الأحيان تعجز القواعد عن التجرؤ على فتح أبواب النقد الذاتي؟ وحتى إن فتح هذا الباب كما في حالة مبادرة النقد والتقييم، فلماذا البعض يظل مترددا أو حتى إن استحسن مبادرة النقد، فهو يراها نقاشا داخليا ولا ينبغي فتح النقاش فيها للعموم؟ للجواب على هذه الأسئلة ينبغي استحضار عدة اعتبارات منها ما هو مرتبط بالطبيعة الموضوعية للتنظيمات بشكل عام، ومنها ما هو مرتبط بالخلفية النفسية والايديولوجية لأبناء العدالة والتنمية. النقد الذاتي في ظل الاعتبارات الموضوعية للتنظيمات: أغلب التنظيمات في بنيتها تتأسس على هرمية ذات بعدين، بعد تاريخي وبعد تنظيمي. فالبعد التاريخي راجع للتراتبية المبنية على تاريخ الالتحاق بالتنظيم، وهذا ينتج عنه تقسيمات من قبيل: الرعيل الأول أو الجيل المؤسس، ثم الأجيال التي تأتي بعدها جيلا بعد جيل…أما البعد التنظيمي فهو مبني على الهرمية التنظيمية لبنية التنظيمات، بين هيئات عليا وهيئات دنيا، بين هيئات تقريرية وهيئات تحكيمية وهيئات تنفيذية وهيئات استشارية…الخ. وترسم لنا هذه التراتبيات التاريخية والتنظيمية دوائر تحصر ما نسميه "قيادة التنظيم"، وبالتالي فهناك قيادة تاريخية وقيادة تنظيمية، وفي أحيان عدة قد يحصل أن تتقاطع دوائر القيادة التاريخية بدوائر القيادة التنظيمية، فكثيرا ما نجد الجيل المؤسس يحتكر الهيئات العليا والهيئات التقريرية، حتى وإن كانت تضم مكونات شابة، فلا يعدو أن يكون دورها فقط تأثيث هذه الهيئات أو فقط التزاما بمقتضيات الديمقراطية التشاركية. على أي، ففي جميع الحالات فالقيادة سواء كانت تاريخية أو تنظيمية فهي تمتاز باحتكارها "للسلطة الرمزية" التي تجعل من رأيها وصوتها مسموعا وذا قيمة في صفوف القواعد، ويكون لحضورها أو غيابها تأثير، ويحسب لكلامها ألف حساب. كل هذا النفوذ الذي تحظى به القيادة مرده لامتلاكها سلطتين من داخل هيئات التنظيم: "سلطة عاقلة"، بمعنى سلطة صياغة التوجهات الكبرى والاختيارات والتصورات المنهجية، وتحسم في الأفكار المؤطرة لاشتغال التنظيم. و"سلطة تقريرية" أي لها سلطة إصدار القرار وتنفيذه. وكل من السلطتين العاقلة والتقريرية تشتركان في كونهما ملزمتين للقواعد التي تحتفظ فقط بحقها في إبداء الرأي، فالرأي حر والقرار ملزم. وأمام هذا الواقع، يختلف تعاطي القواعد مع هذا الأمر، بحيث يكون من هذه الأخيرة من يسلم باختيارات القيادة الفكرية والتنظيمية، ففي نظر هذه الفئة من القواعد أن درجة وفائها للتنظيم وإيمانها بمشروعه لا تكون إلا بتبني كل ما يرسم لها من أفكار وتوجهات من طرف القيادة، وتنفيذ كل ما يصدر عن هذه الأخيرة من قرارات. أما فئة أخرى من القواعد فتسعى لاستغلال حقها في إبداء الرأي في انتقاد ما يصدر من القيادة من أفكار ومواقف وقرارات، لكنها لا تلبث أن تتراجع عن ذلك بمجرد تفكيرها في جدوائية قيامها بعملية النقد، فما قيمة الرأي الحر إن كان القرار الملزم في نهاية المطاف في يد القيادة؟ وأي أثر لهذا الرأي الحر للقواعد مادامت تفتقد لسلطة رمزية تمكنها من إشاعة رأيها والتأثير به على قرار القيادة؟ وبالتالي فهذا ما يجعل القواعد في منأى عن تبني أي خطاب نقدي منهجي مؤثر، وتنتظر دوما من يتحدث بلسانها سواء من القيادة التنظيمية أو القيادة التاريخية، فجل الحركات التصحيحية في التنظيمات تتزعمها قيادات تاريخية أو تنظيمية. إلا أن قواعد العدالة والتنمية في حالتنا هذه صنعت الاستثناء، وأنهت مسلسل الانتظارية والاتكالية، وسعت لإيصال صوتها لقيادة الحزب وهيئاته مباشرة، وفتحت المجال على مصراعيه لحراك نقدي لتجربة الحزب، وهذا استلزم بطبيعة الحال اعتماد حد أدنى من الوسائل التنظيمية (صياغة مذكرة، جمع توقيعات، إيداع المذكرة لدى هيئات الحزب، إصدار بلاغات، تشكيل لجنة للتواصل…) كبديل عن السلطة الرمزية التي تفتقدها، فهذه الآليات التنظيمية هي من جعلت للمبادرة وجودا، وخروج المبادرة للعلن ضمانة أساسية لتلافي إقبار المبادرة بين دهاليز هيئات الحزب، وطمسها بين مساطره القانونية. رغم أن قواعد وقيادات الحزب في غالبها ترى أن مبادرة النقد والتقييم في مجملها مبادرة إيجابية إلا أنها ما تزال مترددة في خوض غمار المطارحات الفكرية في نقد تجربة العدالة والتنمية، نقد يهم اختيارات الحزب السياسية والتدبيرية، كما يهم الجوانب النظرية والتنظيمية. من المتفهم أن تكون القيادة غير متحمسة لذلك لكونها ستكون تحت رحمة الأقلام المنتقدة لتجربتها ولمواقفها وقراراتها، ما يهدد سلطتها الرمزية التي سعت لترسيخها لسنوات، لاسيما حينما تعجز عن الدفاع عن تجربتها، وحينما تتهاوى أطاريحها الفكرية أمام الأطاريح المنتقدة لها. لكن ما يدعوا للاستغراب هو تبني بعض القواعد لفكرة أن النقد الذاتي هو نقاش داخلي وليست نقاشا عموميا، وبالتالي لا ينبغي الخوض في نقد تجربة الحزب إلا من داخل المؤسسات حصرا. في نظرنا أن هناك اعتباران يحكمان هذه الفكرة وهما اعتبار نفسي واعتبار ايديولوجي. النقد الذاتي في ظل الاعتبارات النفسية والايديولوجية: تتجلى الاعتبارات النفسية في هذه الحالة في كون العديد من أبناء التنظيمات يرون في تنظيماتهم محاضن اجتماعية يجدون فيها دفء الرفقة والجماعة، ويلبون فيه حاجات نفسية إنسانية خالصة، كالحاجة للتقدير الاجتماعي، والحاجة للرفقة والصحبة، والحاجة للأنس والتعاون. وبالتالي فقد يعتبر البعض أي ممارسة نقدية للتنظيمات أمام الملأ ستهدد وحدة هذا التنظيم وتماسكه، وتهدد معه كل هذه المصالح والتوازن النفسي الذي يحصله من خلال انتمائه لهذه التنظيمات، وبالتالي فالأسلم له أن تكون عملية النقد في فضاء مغلق محدود دون خدش لصورة التنظيم خارجيا ودون تهديد لتوازنه. أما الاعتبار الايديولوجي فمرده إلى الخلفية الاسلامية لقواعد العدالة والتنمية التي ترى أن نقد التجربة السياسية للحزب ستوقظ فتنة الفرقة والخصام، فالفتنة في نظرهم نائمة، وملعون من أيقظها. إن الاعتبارات السابقة تحيل على أن منطق الطائفة المغلقة مازال مهيمنا على وعي وتفكير فئات من أبناء العدالة والتنمية، فمادامت قيادة الحزب تنشر أوراقه التصورية على الملأ، وتتخذ القرارات والمواقف بكل جرأة، فمن حق أي مواطن أن ينتقد تجربته بكل حرية، بما في ذلك أبناء الحزب أنفسهم. فالحزب ملك لجميع المغاربة، وتجربته السياسية ينبغي أن تدرس ويستفاد من نجاحاتها وإخفاقاتها في تجويد العمل السياسي أكثر وتفادي تكرار الأخطاء. على هذا الأساس اختار علال الفاسي "النقد الذاتي" عنوانا لأحد أشهر كتبه، كما أن المهدي بنبركة ضمن كتابه الشهير "الاختيار الثوري" لنقد ذاتي لتجربة الحركة الوطنية، هذا الكتاب كان عبارة عن تقرير رفعه بنبركة لسكرتارية حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1962، بالإضافة لكتاب "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية" للشيخ فريد الأنصاري والذي جمع فيه نقدا لكافة التنظيمات الاسلامية، والمكتبات زاخرة بالعديد من الكتب والأبحاث في نقد التنظيمات سواء كانت أحزاب سياسية أو حركات اجتماعية. وبالتالي فما على أبناء العدالة والتنمية إلا الانكباب لنقد تجربة حزبهم السياسية بكل موضوعية، وإلا فسيتركون المجال لغيرهم للقيام بذلك، وفي هذه الحال فالموضوعية غير مضمونة.