كلما اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية الجماعية أو التشريعية إلا ويطفو على السطح مشكل نمط الاقتراع، الذي يشكل رقما مهما في معادلة الصراع السياسي، فاختيار نظام انتخابي معين أو تغييره يتم وفق أجندة معدة مسبقا، ويعبر عن غايات وأهداف سياسية يرجو الفاعلون في النظام السياسي تحقيقها. ولتفسير ظاهرة تبني نظام انتخابي في مرحلة سياسية معينة ثم العدول عنه في مرحلة أخرى، يستدعي الرجوع إلى أول انتخابات تشريعية عرفها المغرب المستقل، الذي أفرز قوتين سياسيتين، الملك الشرعي محمد الخامس وحزب الاستقلال، وشكل النظام الانتخابي الواجب اتباعه آنئذ أول نقطة خلاف بينهما أثناء الإعداد لتنظيم الانتخابات التشريعية لسنة 1963، حيث نادى حزب الاستقلال باعتماد الاقتراع باللائحة، وبرر خياره هذا بأن إعطاء الأحزاب وضع لوائحها الانتخابية من شأنه قطع الطريق على ترشيحات الخونة والإقطاعيين، ويُمَكِّن من الحصول على مجالس بلدية وبرلمانية منسجمة، ومن جانب آخر اعتبر زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بن بركة أن الاقتراع باللائحة هو وحده الكفيل بتكوين مجموعات واعية كقاعدة للبلاد من أجل تعبئة الجماهير كي تحقق طموحاتها بنفسها. في حين انتصرت المؤسسة الملكية لنمط الاقتراع الأحادي الاسمي، ووجدت فيه قناة تقنية لترجمة تحالفها مع العالم القروي عبر إعادة بناء شبكة النخب المحلية من خلال الإدماج المعصرن بدل الإدماج التقليدي لهذه النخب، وهي العملية التي اعتبرت ملحة وضرورية بالنسبة للمؤسسة الملكية، لأنها ستُمكِّنها من رسم صورة للنظام السياسي بشكل متحكم فيه، وذلك وعيا منها بأن من يسيطر على العالم القروي الشاسع يسيطر على النظام السياسي برمته، وهكذا وظفت المؤسسة الملكية الهيئة الناخبة القروية لهزْم البورجوازية الحضرية والبروليتاريا، هذه القوة سيشكل من خلالها النظام أغلبية برلمانية استفادت من التصويت المتتالي قرابة أربعة عقود من الزمن... وهكذا عرفت التجربة الانتخابية الأولى توظيفا سياسيا كبيرا لنمط الاقتراع، التوظيف الذي كان له بالغ الأثر في الحيلولة دون وصول الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية إلى تشكيل أغلبية برلمانية، بل وتهميشها من خلال فتح الطريق أمام التشكيلات السياسية الموالية للقصر التي طبعت التجربة الانتخابية المغربية، والتي كان يتم تشكيلها عند مطلع كل استحقاق تشريعي. وبعد التحولات الكبيرة التي شهدها المغرب أواخر التسعينات، سواء على مستوى بنية المجتمع بعد موجة الهجرة القروية وتَكُوُّن طبقات عمالية وبورجوازية صاعدة بالحواضر، أو على مستوى الساحة السياسية التي شهدت تراجعا حزبيا، كل هذا جعل النظام يعيد ترتيب تحالفاته بإدماج النخب الحضرية في الحياة السياسية، وبالتالي يكون نمط الاقتراع السابق قد استنفد المهام الموكولة إليه للوصول إلى نتائج محددة مسبقا، إذ لم يعد يستجيب للاستراتيجية الملكية التي جعلت منه صيغة للتحالف مع العالم القروي وسد الطريق أمام الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية. وهكذا تم اعتماد الاقتراع العام عن طريق اللائحة بالتمثيل النسبي وفق أكبر البقايا، في 27 شتنبر 2002، واعتُبرت هذه الانتخابات بمثابة لحظة لإنجاز هذا المشروع للتمييز عن العهد السابق باعتباره عنوانا لتزوير إرادة الأمة وإضعاف المؤسسات التمثيلية لصالح المؤسسات المعينة التي تستمد شرعيتها من ظهير التعيين وليس من الاختيار الشعبي.... وبعد دستور 2011 الذي كرس الخيار الديمقراطي كواحد من الثوابت الأربعة للمملكة، وبعد الانتصارات المتتالية لحزب بعينه، تعود المشاورات ويحتدم الصراع بين الأحزاب السياسية حول الشروط القانونية والسياسية والتنظيمية التي من المفروض أن تؤطر الاستحقاقات القادمة، ولكن للأسف المقترحات المقدمة من طرف أحزاب الأمس بُعَيد الاستقلال التي كانت تتصارع مع المؤسسة الملكية من أجل دمقرطة العملية التنافسية هي التي تنادي اليوم وتصر على إجرائها وفق القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية، إنها مقترحات تراجعية بالمقارنة مع الشروط القانونية التي ينبغي أن تؤطر الانتخابات الحرة والنزيهة. وهذا يثبت أن الأنظمة الانتخابية أداة طيعة بيد الطرف القوي، يستعملها كيف يريد، فهي القادرة على المحافظة على وجوده واستمراريته، وكذا لكي يتخلص من منافسيه وأعدائه، ويبعدهم من المعترك السياسي، ويعطل مشروعهم في كل مجال، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا....، فإذا كان مكيافلي في كتابه الأمير قد دل أهل الحكم على طرائق مكايدة الخصوم والغلبة عليهم بوسائل قد تبدو مشينة، فإن علم النظم الانتخابية هو الأرقى في هذا المجال، وهو من صميم الحيل السياسية. كما أن اختيار نمط معين ليس بريئا في حد ذاته طالما تحركه أبعاد سياسية وتضبطه العديد من العوامل السوسيولوجية والاقتصادية والثقافية، فالاختيار يتجاوز ما هو تقني إلى ما هو سياسي محكوم بتوجهات ورغبات سياسية معينة أو تصورات لطبيعة المشهد السياسي المراد إفرازه. وهكذا سيشكل القاسم الانتخابي في هذه الظرفية العصيبة موضوعا للصراع بين مكونات النظام السياسي المغربي، إذ تم طرح تصورين، تصور يرمي إلى تجسيد نظام الاقتراع باللائحة على أساس القاسم الانتخابي بالاستناد على عدد المواطنين المسجلين في اللوائح الانتخابية رغبة في حصار الحزب الأغلبي، وتصور آخر مخالف يهدف إلى استعمال القاسم الانتخاب على أساس الأصوات الصحيحة المعبر عنها للحفاظ على المكتسبات السابقة ورغبة في تصدره المرتبة الأولى في المشهد السياسي المقبل. وهذا ما يدعم ملحوظة معروفة ومتداولة في الفقه الدستوري والكتابات السياسية "أعطني النظام الانتخابي أحدد لك نوع النظام السياسي المطبق"، مما يعني أن العلاقة بين الفلسفة التي تحكم النظام الانتخابي وتؤطر مضمونه من جهة والنظام السياسي من جهة أخرى هي علاقة ارتباط وتلازم. لكن الارتقاء بالمسار الديمقراطي ببلادنا وإفراز خريطة سياسية بمؤسسات قوية لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا، يتطلب مشاركة فعلية في القرارات الهامة، ونمط الاقتراع يشكل وسيلة هامة في هذا المجال، وخاصة القاسم الانتخابي الذي تَظهر أهميته في قيام الأفراد بممارسة حقوقهم سواء بالتصويت أو العزوف....