حين يكون الهم فيما يتعلق بالانتخابات المقبلة هو بأي حجم سيخوضها أقوى حزب في البلد، وليس هل ستكون باقي الأحزاب والناخبين وباقي "الفاعلين" في مستوى رهانات المغرب في سبيل تعزيز الخيار الديموقراطي، فهذا مؤشر مقلق على وجود خلل كبير في المقاربات المعتمدة. ذلك أن الانشغال بالأقوى في مثل هذه القضايا، إذا لم يكن عن جهل وحسن نية، غالبا ما يستبطن الرغبة في إضعاف ذلك القوي وضبطه، فيما الطبيعي أن ننشغل بالضعيف وبالمعرقل والمشوش، وبالتحديات. ومن مفارقات الانتخابات المغربية أن يتم العمل على تعزيز آليات التحكم في الخريطة السياسية، سواء التي تمرر في القوانين او التي تمارس خارج القانون، بآلية أخرى تتعلق بالضغط على الحزب القوي كي يقوم بنفسه بتقليص حجم مشاركته الانتخابية، لضمان نجاعة باقي آليات التحكم المختلفة. ويتجاوز الأمر هنا منطق مخالفة الدستور، ومناقضة دولة الحق والقانون، والمس باستقلالية القرار السياسي للأحزاب السياسية، وغير ذلك من الأمور الحيوية التي تدوسها السلطوية و"جبهة المغامرين" بالأقدام، إلى منطق يهدد بأن يفقد فيه كل شيء في المغرب مصداقيته، ويسرع بموت السياسة فيه. في موضوع مطالبة حزب العدالة والتنمية بتقليص حجم مشاركته الانتخابية نجد مفارقات عدة. تبدأ بمفارقة وقوع ثلة من المحللين والإعلاميين والباحثين والكتاب بل وحتى بعض أعضاء حزب المصباح نفسه، في فخ مناقشة الموضوع من زاوية تزيد من الضغط على الحزب. إذ بذل استنكار مثل هذه المطالب ونصرة الدستور ومبادئ الديموقراطية ودولة الحق والقانون ومطالبة الدولة بتحمل مسؤوليتها في حماية الاختيار الديموقراطي بصفته أحد الثوابت الجامعة التي تستند إليها الأمة في حياتها العامة، والتوجه بالنقد إلى الجهات التي تراهن على ضبط مشاركة الحزب في الانتخابات، وفتح نقاشات عمومية شعارها الوحيد حماية الديموقراطية الناشئة في المغرب. وبذل كل ذلك يتم الانخراط في تحاليل تعط المصداقية للتخويفات التي تراهن على تخدير دماغ الحزب ودفعه إلى المشاركة في لعبة التحكم في الخريطة السياسية في المغرب بدون مبرر مشروع. وهذا في أقل تقدير يناقض مبدأ الالتزام السياسي، الذي يفترض فيه الانحياز إلى الشعب، و إلى الحق والقانون، وإلى حماية الديموقراطية وحقوق الانسان... إن النقاش الحقيقي في هذه القضية هو الذي يتوجه بالنقد الرافض لمطالب فرض تقليص مشاركة حزب سياسي في الانتخابات، لأن ذلك يضرب في عمق نزاهة تلك الانتخابات وحريتها، ويبعد نتائجها عن تمثيل رغبة الناخبين. وهو في نهاية المطاف تزوير لتلك الانتخابات. وهذا النقاش هو الذي من شأنه أن يسهم في تجويد الفكر والممارسة السياسيين في المغرب، ويسهم في بناء صرح الديموقراطية، وتقوية المشهدة الحزبي ... في حين أن الانضمام، بوعي أو بدونه، إلى جوقة الضاغطين على الحزب لتقليص مشاركته الانتخابية فهي، بكل اختصار، مشاركة في إفساد وقتل السياسة في هذا البلد. قد يقرر الحزب من تلقاء نفسه، وباختياره الحر، وبناء على تقدير سياسي واعي لمصلحة الوطن ومصلحته كحزب سياسي، أن يقلص مشاركته الانتخابية كما سبق له أن قام بذلك في سياق استثنائي. وللدولة المغربية من أعراف التواصل مع الأحزاب لإبلاغها تقديراتها حين يتعلق الأمر بمصلحة الدولة والوطن، بعيدا عن الابتزاز الإعلامي المسيء لها وللوطن، تجربة كبيرة وغنية لإعلام الحزب بتقديرها، وتتحمل قيادات الحزب بعدها مسؤولية إقناع مؤسسات الحزب التي تحتكر صلاحية البث في مثل تلك الخيارات لتقرر ما هو الأنسب. لكننا لسنا في شيء من هذا، بل نحن أمام مشروع إعلامي تتجاوز رهاناته دفع الحزب إلى تقليص حجم مشاركته الانتخابية إلى التلاعب بالرأي العام بتكريس صورة نمطية عن الحزب وكأنه يشكل تهديدا للدولة. ومن المفارقات الصادمة أيضا في هذا "الحراك الإعلامي"، الادعاء بأن الحزب إذا فاز بشكل واسع فسوف يصطدم مع الدولة! إن الحديث عن الاصطدام مع الدولة يثير أسئلة عديدة. أولها وأولاها بالاهتمام: عن أي دولة نتحدث؟ التي يرأسها جلالة الملك، واحتضنت تجربة قيادة حزب العدالة والتنمية للحكومة لولايتين، ولأكبر الجماعات الترابية، وجهتين، وبأكبر فريق برلماني عرفه المغرب، وعرفت فيها الحزب وتأكدت من صدقية شعاراته السياسية، واحترامه للدستور ولثوابت الدولة ومؤسساتها، وتأكدت من إخلاصه لوطنه ووفائه بعهوده، ومن تجرده لخدمة الصالح العام، ومن نظافة يده ...؟ فهذه الدولة لا تحتاج من يحاول أكل الثوم بفمها، ولا بمن يتخفى خلفها، فرئيسها عبر للحزب عن رغبته في العمل معه، واعترفت له بوطنيته وإخلاصه، ولن يخيفها أن يتصدر الحزب الانتخابات مرة أخرى بأي حجم كان، مادامت مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وما دام النجاح في تمرين الديموقراطية نجاح للدولة ولصالحها أيضا. أما إذا كان المقصود "دولة" أخرى غير التي يرأسها جلالة الملك محمد السادس، فتلك "الدول"، على اختلاف أشكالها، ليس في أجندتها لا مصلحة الوطن ولا مصلحة المواطنين، وكل ما تسعى إلى تحقيقه أهداف يتداخل فيها الفساد المرتبط بالريع الاقتصادي والسياسي، مع أجندات أخرى تشمل حتى ما هو أجنبي خارجي. وهي التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة ومكر وخداع إلى جعل "حجم حضور حزب المصباح في المشهد السياسي" قضية دولة، محاربة للحزب وابتزازا للدولة. والأجدر بدوي الرأي والقلم الملتزمين والمناضلين أن يقفوا في وجهها، لا أن يمكنوا لمشاريعها بزيادة الضغط على الدولة لإضعافها، وعلى حزب المصباح للتحكم في حجم حضوره السياسي ضدا على رغبته ووعلى اختيار المواطنين. ليس حبا لهذا الحزب ولا تضامنا معه ولا تأييدا له، بل حماية لاستقلال الدولة عن اللوبيات، المحلية منها والعابرة للحدود، وخدمة لمصلحة الوطن، والتزاما مع الشعب، ونضالا من أجل تعزيز الخيار الديموقراطي الذي ناضل الشعب المغربي من أجله لعدة عقود. ولا يختلف الأمر عما سبق حين يتعلق الأمر بالسلطوية ومن يطوف حولها، بصفتها مجموع اللوبيات المستغلة للسلطة لتحقيق أهداف سياسية أوإديلوجية أو اقتصادية خارج القانون، وباستغلال المؤسسات ومقدرات الدولة بغير وجه حق. فقد سبق لها أن رفعت نفس فزاعة "الصدام مع الدولة" في كل الانتخابات الماضية. وبلغ بها الجنون أن حركت آليات حرب من نوع "مسيرة ولد زروال" الشهيرة، وخلقت أجواء من القلق. لكن الدولة برئاسة جلالة الملك لم تخضع للإبتزاز ووفت بعهودها تجاه الخيار الديموقراطي، وفاز الحزب فوزا كبيرا مستحقا، ولم يصطدم مع الدولة، ولا عرفت علاقته بها أي توتر يذكر. وأكدت تلك التجربة بالملموس أن "الصدام مع الدولة" مجرد لعبة للترهيب الانتخابي ضد حزب وطني مخلص قوي. وستمر الانتخابات المقبلة بنفس التجادبات وسيفوز فيها الحزب بنصيبه المستحق، وسوف تتشكل الحكومة وفق الدستور ووفق مبدأ التشارك والتعاون مع الجميع، برئاسة حزب المصباح إذا بوأه الشعب تصدر نتائج الانتخابات، أو بغيره من الأحزاب الوطنية إذا تمكن أحدها من تجاوز حزب المصباح. الذين يراهنون على فزاعة الصراع مع الدولة يعلمون علم اليقين أن حزب المصباح أحرص ما يكون على استقرار البلد، وعلى تقديم المصلحة العامة على مصلحته الخاصة، لذلك يلعبون على هذا الوتر، ويعلمون أنه بقدر تصديق الحزب وهم الصدام مع الدولة بقدر ما يكون جاهزا لتقديم تنازلات ظالمة، ليس فقط في تقليص حجم مشاركته الانتخابية بل حتى بوضع حد لوجوده السياسي كحزب ! إننا أمام مؤامرة حقيقية، ليس ضد حزب العدالة والتنمية، بل ضد الوطن والدولة المغربية واستقلاليتها، وضد الشعب المغربي وإرادته واختياراته، وضد الدستور وتوابته، وضد الديموقراطية وحقوق الانسان، وضد الضمير السليم.