يؤدي السمك دورا مهما في تغذية الشعوب، خصوصا الشعوب التي بنت حضارتها بجانب البحار والأنهار، وقد شكّل السمك منذ زمن ليس بالقصير جزءا من مائدة الطعام، تفنن الطباخون في تقديمه عبر اختراع طرق مستجدة لطهيه وإعداده، ليس فقط طريقة القلي أو الشواء اللتان تعتبر طريقتين تقليديتين إن لم نقل بدائيتين في إعداد أطباق السمك بمختلف أنواعه وأشكاله. 1. السمك في الحضارتين البابلية والمورية المغربية يعتبر المسرد البابلي الذي يعود إلى زهاء 2000 سنة ق م؛ والذي قدم أنواعا عدة من الأسماك أولى الإشارات التاريخية المدونة بهذا الخصوص، كما أن دواوين القصر في ماري زهاء 1700 ق م قد أشارت الى استلام القصر ل 180 سمكة لوجبة الملك (راجع كتاب الطبخ في العالم القديم كاتي كوفمان ص 97). وإذا كانت هذه الإشارات تهم الجناح الشرقي من العالم المعروف آنذاك، فإن الجناح الغربي (المغرب والأندلس)، قد أولى أهمية كبرى للسمك ليس فقط كمنتوج للاستهلاك، بل للتصدير كذلك، حيث ستلعب مدينة ليكسوس التي توجد شمال غرب المغرب بالقرب من مدينة العرائش (راجع كتاب المغرب العتيق جيروم كركوبينو ص 75)، دورا مهما في هذا المجال، حيث إن هذه المدينة التي ستزدهر خلال الحقبة المورية الممتدة ما بين 600 ق م إلى 40 م ؛ ستقوم بتصدير السمك المملح والصلصة إلى الخارج؛ حيث وجدت لقى من المدينة نفسها في اليونان (هشام حسني محافظ الموقع في تصريح لوكالة أنباء المغرب العربي)، بل إن منتج ليكسوس من سمك التونة كان سلعة رفيعة عند سكان روما عاصمة الرومان، هؤلاء الذين كانوا يتنقلون إلى سواحل ليبيا والمغرب لشراء سمك القريدس من الصيادين والذي كان أكبر حجما من السرطان البحري في الإسكندرية (راجع بلقيس شرار كتاب الطباخ ص153). وقد شكلت أسماء السمك جزء لا يتجزأ من الإرث الثقافي للمغاربة، إذا ما أخذنا بالاعتبار غنى وتنوع أسمائه باللغة الأمازيغية والتي عدت بالمئات؛ سواء تعلق الأمر بأسماء الأسماك أو فواكه البحر وغيرها. (راجع كتاب سوس والبحر؛ المعجم الأمازيغي للكائنات البحرية، ذ جامع بن دير). 2 أطباق السمك.. التنوع والثراء لقد شكل التنوع في المنتوج البحري أو النهري فيما يسمى بمنطقة الغرب الاسلامي (المغرب والأندلس) حافزا مهما لساكنة هذه المنطقة لجعل السمك جزء رئيسا من المائدة، سواء تعلق الأمر بالمدن القريبة من البحر، أو تلك التي شيدت بالقرب من الأنهار، والتي كانت تزخر في تلك الحقبة التاريخية بشكل كبير بأنواع عدة من الأسماك. وهو ما أضفى غنى على الموائد، حيث شكلت الأطباق المعدة بالسمك ما يزيد عن ثلاثين طبقا متنوعا، ما بين الطهي في الطواجن بطرق وأشكال متنوعة، أو الهرس (سمك مفروم) أو المعفر أو إعداده للفرن بطريقة الحشو وغيرها. وهي طرق أجملها صاحب كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة (الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين) بالقول: “ويصنع من لحم الحوت جميع ما يصنع من ألوان اللحوم والدجاج، ويعمل منه البنادق وغيرها، وقد يعمل الحوت مغمورا في القدر عوضا من الطاجن مثل ما يصنعه أهل قرطبة وأهل اشبيلية بالحوت المعروف عندهم بالشابل (سمك نهري وجد في أنهار المغرب والأندلس)”. وهي إشارة ذات دلالة من صاحب الكتاب وهو كاتب مجهول من ق 12، على أن إعداد السمك كان يختلف بين عدوة الأندلس وعدوة المغرب، ففي حين كان أهل عدوة المغرب يعدونه في الطاجن، كان يفضله أهل الأندلس في الفرن. وأما من حيث أنواع الأسماك التي وردت في مراجع تلك الحقبة، فقد وردت بشكل عام ومجمل مع بعض الاستثناءات، وذلك في المرجعين الوحيدين اللذان وصلنا، وهما كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة من الحقبة الموحدية، وكتاب فضالة الخوان لابن رزين التيجبي وهو كتاب عن الطبخ من العصر المريني. حيث كانت الإشارة تتم إلى الحوت بشكل مجمل (يؤخذ ما حضر منها أو يؤخذ الكبير أو تأخذ الحيتان الغليظة من أي نوع، أو يؤخذ من الحوت الطري وغيرها)، لكن هذا لا يعني أنه لم يتم تخصيص أنواع منها بالذكر، كسمك السردين والتونة أو سمك السلور (الفرخ) أو الكحلة (لم أتوصل لمعرفته) كأسماك بحرية، ثم الشابل كسمك نهري. وغيرها كالشولي والمناني والكمون والنوري والحبليل والتي أوردها صاحب كتاب فضالة الخوان (ص 197) ولم نقف على أسمائها المعروفة بها اليوم. أما طرق إعداد الأطباق والتي جاوزت 30 طريقة، فسنكتفي بالإشارة إلى بعضها، لصعوبة إدراجها جميعها في هذا المقال. فمن حيث الأطباق المعدة في الطواجن، فسنكتفي بنموذجين اثنين حيث يتم تعفير السمك في خليط الزيت والخل والثوم والتوابل (الكمون والفلفل الأسود والكزبرة ومصطكي “المسكة الحرة”) ؛ ليتم وضعه بعد ذلك في الطاجين مع الماء والزيت، ومنها أنواع أخرى يتم إعدادها بكل ما ذكر؛ لكن مع إضافة البصل والعسل (كتاب فضالة الخوان ص 198). ومنها ما يتم إعداده بأشكال مختلفة في القدر بدلا من الطاجين (كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة ص152). وأما السمك أو الحوت كما يطلق عليه صاحبا الكتابين المعد في الفرن فمنه الكبير الذي يتم تقطيعه، ثم يسلق ليضاف إليه الفلفل والزنجبيل والكزبرة وماء البصل، ثم يزين بالبنادق (كرات السمك المطحون)، ويضاف إليه بعد ذلك اللوز والجوز ومحلول ماء الورد ويصب عليه الزيت ويدخل الفرن (كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة ص 151). وأما إعداده عن طريق قليه في الزيت أو شيّه فوق الجمر فقد كان يستعمل السردين بكثرة في هذا الجانب إضافة إلى كل ما توفر من السمك، كما كان يتم إعداده عن طريق طحنه أو ما يسمى بإعداد البنادق مع إضافة التوابل إليه وغيرها. وقد تفنن المغاربة في تقديمه كذلك، حيث كان يتم إفراغ السمكة من داخلها مع الاحتفاظ فقط بجلدها، ثم يتم صنع حشوة من لحم السمكة نفسها، ثم وضع جلد السمكة فوق هذه الحشوة؛ التي يتم تشكيلها على شكل سمكة ليتم بعد ذلك طهيها، كما يتم إعداد أشكال سمكة السردين بلحم البنادق (لحم السمك المفروم) بعد خلط البنادق بما يلزم من التوابل وغيرها ثم قليها في الزيت وغيرها من طرق الطهي ( كتاب فضالة الخوان ص 204) . وهناك أمثلة كثيرة على ذلك يصعب ذكرها جميعها، تبرز حضور السمك الكبير وبطرق إعداد متنوعة على مائدة المغاربة، خصوصا إذا استحضرنا غنى شواطئ المغرب وأنهاره بأنواع لا تحصى من السمك، قبل ألف سنة من اليوم. وهو التنوع الذي سيستمر إلى الوقت الحالي، حيث سيشكل السمك جزء لا غنى عنه من قائمة طعام المغاربة، والذين أصبح قطاع الصيد البحري مورد عيش لفئة كبيرة منهم. وليسمح لنا القارئ أن نورد جزءا من قصيدة كتبت بالعامية المغربية قبل 100 سنة؛ لأحد البحارة من مدينة الرباط يسمى سيدي أحمد الفلوس؛ أوردها لوي برينو في كتابه “البحر في التقاليد والحرف المحلية بالرباط وسلا” (ص 241). يقول سيدي أحمد الفلوس: غرضي في حوت موسى والمعزات الكبار بوقة وسركان مع بوزمور سبيبية والدرعي مذكور والسرنكة والنخار حضور في عمق البحور وجميع حوت القشور والشابل العجيب يأتي في الأوقات منه شي كرضات طايب ومقلي يا سادات