إسمي عبد الرحمان الركراكي أسكن في أيرلندا والد عزام الركراكي الذي قتل في السنة الماضية على يد شباب أيرلنديين. كتبت مقالا في الذكرى السنوية لمقتله أريد أن أشاركه معكم إذا كان صالحا للنشر في موقعكم وشكرا. عام مضى عام مضى ، نعم عام مضى ، لا أدري كيف أبدأ الحكاية ؟ أأخطها بقلمي المنكسر أم بدم قلبي الذي يتفطر من ألم الفراق ؟ إن أناملي لا تطاوعني ، لا أكاد أحمل القلم ، عيناي تدمعان ، قلبي يخفق من ألم الفراق . فكيف أكتب ؟ حاولت مرارًا فتخنقني العبرة ، فأضع قلمي جانبا ، وأشغل نفسي بشئ أخر ، تحاملت على نفسي مرارًا ، رغم الإنكسار. استجمعت قواي لأخط ما استطعت عن الحدث …. عن المصاب … عن السهم الذي مزق قلبي … عن الخنجر المسموم الذي أرداه قتيلا . اخترت البداية بعيدا عن بيتي لكي أبكي لوحدي ، لكي لا يذكرني شئ بعزام ، أريد أن أبوح بأسرار قلبي …. أحببت إبني … ولازلت أحبه … ولا أخفي سرا أذا قلت أنني أحببته أكثر بعد مغادرته هذه الدنيا ، لم أكن أعلم أنه يسكن شغاف قلبي ، ويملئ جوانحي إلا بعد الفراق . أحس بل أجزم أن بينه وبين خالقه أسرار وقفت على بعضها…. ولا زلت ألتمس أثر الباقي . أي عمل صالح قمت به يا بني ليرفع الله مقامك قبل دفنك وبعده ؟ أي عمل صالح قمت به لتكون حديث الخاص والعام ، أي عمل صالح قمت به ليعزي فيك الصغير والكبيروالقريب والبعيد والوزير والرئيس ، لعلها يدك السخية التي لا تعرف جمع المال ، إنما تتفنن في إنفاقه ، أعلم أنك كنت تسأل المال لتتصدق به. أي عمل صالح قمت به يا بني ؟ لعله صفاء قلبك الذي لا يعرف للخصومة والحقد والكراهية سبيلًا …. لعلها إبتسامتك التي لا تفارق محياك …. لعله عناقك الحار لأمك وأبيك قبل الخروج وبعد العودة … لعله دعاء أجدادك . لعلها كلمة أمك العفوية التي شاهدها الملايين ، وهي تنعيك أمام أصدقائك وأنت مسجى على سريرك في المستشفى . لعلها صلاة العصر التي صليتها في مكان الحادث وأنت لا تعلم أنه مكان حتفك . لا زلت أذكر ذلك اليوم المشمس الهادئ ، يوم لا يوحي بأن هناك منغصات قادمة في الطريق ، يوم رمضاني مفعم بالحيوية والإيمان . كنت جالسًا مع زوجتي نتبادل أطراف الحديث ، في الصالون ، نزل عزام من غرفته سلم علينا ، تبادلنا أطراف الحديث معه لدقائق بعدها قال بأنه تواعد مع أصدقائه في الحديقة ومن هناك سوف يتجهون إلى المسجد قصد الإفطار، ودعنا ثم أنصرف والإبتسامة تعلو محياه . عدنا لحديثنا من موضوع إلى أخر ، وبعدها صعدت لغرفتي ، أذكر أني كنت أقرأ رواية رواء مكة لحسن أوريد ، وهي بالمناسبة رائعة ماتعة ، شدتني إليها القيمة الفكرية للكاتب ولغته وسعة ثقافته ، وبينما أنا أحلق مع الكاتب من فصل إلى أخر ، وأعيش معه في رحلته الإيمانية ، وزوجتي تطالع شيئا ما ، وأبنائي في غرفتهما ، قطع علينا هذا الهدوء صراخ وجلبة ، طرق الباب بقوة ، لأسمع صوت إبن أخي حسام وأمه يقولان بأن عزام طعن في الحديقة (Finsbury park)، كنت في الطابق العلوي من البيت ، لا أدري كيف غيرت ملابسي ، ولا كيف نزلت ، كنت أعيش لحظات تيه وذهول ، لا أدري ما أقدم ولا ما أأخر ، سبقتني زوجتي إلى الباب ، ركبنا السيارة على عجل ، انطلقنا كالسهم ، ونحن نردد حسبنا الله ونعم الوكيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، كانت يداي ترتجفان ، لم أكن أتحكم في مقود السيارة جيدا ، لا أدري كم أخذت مني الطريق ، ولا حتى كيف سقت السيارة ، الحمد لله أنني لم أصدم أحدا في الطريق ، وماهي إلا دقائق معدودة حتى وصلنا الحديقة ، من جهة مكتبة دوندروم ، ركنت سيارتي ، ونزلنا على عجل ، وجدنا الشرطة وسيارة الإسعاف أمامنا ، كنا نعيش حالة شرود عن كل ما يجري حولنا ، لا نكاد نصدق ما نرى ، أحلم هذا أم حقيقة ؟ لو كنت أعلم يقينًا أنه حقيقة … وأنه ذاهب بلا عودة … لأحتضنته مرة واثنتين وثلاثا، وقبلته من رأسه إلى أخمص قدميه مودعًا على أمل اللقاء به عند الله . لما رأني الضابط وعلم أنني أب الطفل ، تقدم إلي مباشرة وعرف بنفسه ، وبادرني بالحديث أنت أب عزام قلت نعم ، سألته زوجتي المفجوعة أين إبني ؟ أين إبني ؟ وفي هذه اللحظات ، ولهول الموقف نزف الدم من أنفي من أثر الصدمة ، لطخ صدري وشفتاي في لحظات ، لم أشعر بشئ إلا والدم يختلط بلعابي ، عندها أخذت زوجتي منديلا وبدأت تمسح الدم من وجهي وملابسي ، تقدم إلينا أحد رجال الإسعاف ثم قال لنا إن عزام سوف ينقل إلى المستشفى حالًا لاستحالة إسعافه في عين المكان ، كان وجهه اصفر ، والإرباك باد على وجهه ، تقدمت مباشرة أنا وزوجتي إلى سيارة الإسعاف ، فبادرنا قائلا هيا لنذهب الأن إن حالته سيئة ، يجب أن نذهب الأن …. الأن بسرعة … سألته زوجتي هل بإمكاننا رؤيته ولو لثواني أجابها بسرعة للأسف لا يمكن ، وليس لدينا مزيدا من الوقت يجب أن نذهب الأن ، أتبعوني إلى جيمس هوسبيتال (James's Hospital) . أعلم أنه يمكن مصاحبة المريض في سيارة الإسعاف لكن حالة عزام السيئة جعلتهم يمنعوننا . ركبت السيارة أنا وزوجتي ، تبعنا سيارة الإسعاف ، وتبعتنا سيارة الشرطة من الخلف . لا أدري كيف سقت السيارة ،. ولا أي طريق سلكت ، كنت أركز على شئ واحد سيارة الإسعاف ويجب علي أن أبقى خلفها ، كنا نعيش لحظات ذهول وتيه ، وصعوبة تصديق ما نراه أمامنا ، كانت يداي ترتجفان ، كنت أحدث نفسي وأقول يا إلهي كيف أسوق السيارة ، كيف أصل المستشفى ، كيف نصل بسلام ، كل هذه الأسئلة وغيرها كانت تمر بسرعة البرق أمامي ، قلبي كان يخفق بقوة حتى كدته سوف يتوقف ، لم يسبق لي أن تعرضت لمثل هذا الإمتحان الصعب ، كنت أحاول أن أتماسك قليلا لكي لا أأثر على زوجتي ، نظرت إليها بجانبي كانت غارقة في الأحزان ، قسمات وجهاها بدت ذابلة ، كانت تدعو الله قائلة اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه ، اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه ، اللهم أرزقنا الصبر ، اللهم أرزقنا الصبر،كانت تبكي وهي تدعو الله ، بكيت لبكائها ، حاولت إخفاء دموعي ، لكن الموفق كان أكبر مني ومنها . وفي الطريق كان أبنائي يتصلون علينا للإطمئنان على عزام ، كنا نحاول أن نهدأ من روعهم لأننا نعرف محبتهم وخوفهم عليه إلا أنهم أحسوا كأننا نخفي شيئا ما عنهم ، سألونا إن كنا قد رأيناه قلنا لهم وصلنا متأخرين ، وهذا ما زادهم إلا إصرارًا على الحضور ، أقترحت زوجتي أن تبقى هي في المستشفى وأذهب أنا إليهم ، ركبت السيارة ثانية ، وأنا لا أكاد أعرف كيف أمسك المقود ، ولا في أي إتجاه أذهب تحاملت على نفسي وأنا أردد كل ما أحفظ من الأدعية ، وما أن غادرت المستشفى بدقائق حتى رن هاتفي ، نظرت إليه يا إلهي إنها زوجتي ، ماذا تريد أن تقول ؟ حاولت أن أجيب لكن يدي لا تقوى على حمل الهاتف …. أحسست أن إتصالها يعني أن أمرا جللًا قد وقع ، أجبت الهاتف نعم ، فبادرني قائلة إنا لله وإنا إليه راجعون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إبني مات …. إبني مات …إبني مات لا إله إلا الله . إن دموعي فاقت أحرف هذه المقالة ، سوف تبقى يا حبيبي في العين والقلب ، هذا ما استطعت أن أبوح به الأن ، حتما سيأتي يوما ما وأكمل بقية الحكاية ، في أمان الله .