يبدو أن صانع القرار في المغرب لا يملك، لحدود الساعة، تصورا عِلميا وعَمليا لرفع حالة الحجر الصحي في ظل استمرار الارتفاع “النسبي” لحالات الإصابة الجديدة وظهور بؤر وبائية متفرقة في الوحدات الصناعية والمهنية، وهو ما يجعل من اتخاذ قرار مماثل مغامرة صحية وأمنية قد تنذر بموجة أشد خطورة لفيروس كوفيد 19، والتي من الممكن عدم التحكم فيها كما هو الحال الآن. وإذا كان المغرب قد سجل نقاط جد إيجابية في مواجهة جائحة كورونا، من خلال الإسراع بتنزيل تدابير الحجر المنزلي وتبني مقاربة أمنية صارمة في مواجهة السلوك اليومي لبعض المغاربة، بالإضافة إلى الرهان على بروتوكول طبي أثبت فعاليته في مواجهة الجائحة، وكذا توفير الاكتفاء الذاتي في المستلزمات الطبية والمعاشية، فإن الحديث عن القضاء على فيروس كورونا المستجد والعودة إلى الحياة اليومية لتدوير عجلة الاقتصاد يبقى مستبعدا على المديين القريب والمتوسط. في هذا السياق، صرح السيد رئيس الحكومة المغربي بأن المملكة لا تتوفر، لحد الآن، على تصور محدد لرفع حالة الحجر الصحي، في الوقت الذي يعيش فيه المغرب على وقع حالة الانتظار ومراقبة تطور الحالة الوبائية على أمل وصول معدل انتشار الفيروس المعروف علميا ب RO إلى ما دون 1 أو وصوله إلى 0.5 على فترة تصل إلى أسبوعين لإعطاء الضوء الاخضر للبدء في رفع إجراءات الحجر الصحي. وفي ظل صعوبة التحكم في مؤشر RO على المستوى الوطني، يبقى من الضروري التفكير الجماعي في رسم استراتيجي يُمَكِّن من تجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر والعودة إلى الحياة اليومية وتفادي حالة الإنهاك الاقتصادي التي أثرت على المؤشرات التنموية في بلادنا وانعكست سلبا على قدرة تعايش المواطن المغربي مع الوضع الراهن رغم المجهودات الجبارة التي قامت بها الدولة للتخفيف من آثار الجائحة على المواطنين المغاربة خصوصا الذين ينتمون إلى الطبقات الفقيرة والهشة. على هذا المستوى من التحليل، وفي ظل النجاح التكتيكي للقطاع الصحي في التأقلم والتعامل مع الحالات المرضية والذي يعكسه الارتفاع الكبير في حالة الشفاء بالموازاة مع انخفاض معدل الوفيات وأيضا الحالات التي يتم التكفل بها في بدايتها، خصوصا بعد اعتماد المغرب على توسيع قاعدة الفحص المخبري، فإن صانع القرار السياسي يبقى في أمس الحاجة لتوجيه استراتيجي يساعده على التعامل مع هذا العدو الخبيث والخفي والذي له القدرة على الانتشار والانتقال بسرعة وإنهاك الدولة صحيا وأمنيا واقتصاديا. إن مواجهة هذا “العدو” يتطلب تكييف طبيعة الحرب التي يخوضها المغرب ضد فيروس كورونا المستجد، وهي الحرب التي تبدو لنا أقرب إلى مبادئ “حرب العصابات” منها إلى المواجهة الكلاسيكية، حيث يعتمد الفيروس “مجازا” على الهجوم على نقاط متفرقة وبأعداد قليلة جدا، حيث يمكن أن يحمله شخص واحد ليتحول محيطه إلى بؤرة وبائية ترفع من معدلات الإصابة على المستوى الوطني وبالتالي إطالة أمد المواجهة مع الفيروس مع ما يصاحب ذلك من تراكم الضغط النفسي على المواطن المغربي الذي يتابع تطور الحالة الوبائية بشكل يومي. وبالإضافة إلى شكل “حرب العصابات” التي تميز هجمات فيروس كورونا المستجد، فإننا نلاحظ بأن هذا التكتيك (طبيعة ذاتية للفيروس وليست ممارسة ذهنية) يقترب من التكتيك الحربي للقائد الروماني فابيوس عبر تفادي المواجهات المباشرة والاكتفاء بهجمات صغيرة محلية ك “وخزات الإبر”. (الاستراتيجية وتاريخها: بازل ليدل هارت، ص 50). إن شكل “حرب العصابات” (La Guérilla) أو “استراتيجية فابيوس” التي يتخذها الفيروس (رغم اختلاف طبيعة العدو) تتطلب من الدولة المغربية تبني مقاربة ذكية على المستويين التكتيكي والاستراتيجي للتغلب على هذه الجائحة، مع التأكيد بأننا بصدد طرح يقترب من مستوى “الاستراتيجية المفاهيمية” ) La stratégie conceptuelle) على أن التنزيل المادي يبقى من اختصاص أجهزة الدولة على مستوى الاستراتيجية العملياتية La stratégie opérationnelle)). على المستوى التكتيكي، نسجل نجاح أجهزة الدولة في المواجهة المباشرة مع الفيروس عن طريق محاصرة الحالات والانطلاق بسرعة لحصر جميع المخالطين وإخضاعهم لتدابير الحجر الصحي والكشف المخبري ومن تم التعامل مع الإصابات الجديدة وفق البروتوكول الصحي المعتمد. هذا التحرك السريع للدولة بمجرد ظهور الحالة المرضية أو البؤرة يبقى قريبا جدا من أسلوب “الحرب الخاطفة La Blitzkrieg” والذي يعتمد على أسلوب التحرك السريع وتركيز جميع الأدوات والوسائل للقضاء على “عدو” ضعيف ماديا مقارنة بإمكانيات الدولة وغير قادر على المواجهة المباشرة مع أجهزتها. غير أن نقطة ضعف هذا التكتيك يبقى بالأساس مرتبط بصعوبة اكتشاف حامل الفيروس مبكرا وقبل ظهور الأعراض وفضاء تنقله في هاته الفترة وإلى غاية اكتشاف الحالة وعدد الأشخاص الذين انتقل إليهم الفيروس في نفس الفترة وهو ما تعكسه الأرقام حول عدد الحالات التي تم رصدها بين المخالطين وباقي الحالات رغم أن جميع الحالات هي، بالمحصلة، حالات مخالطة. إن الحلقة المفقودة بين لحظة الإصابة ولحظة اكتشاف الفيروس هي ما تصعب مسألة احتوائه بسرعة في المجال الحيوي لانتشاره، ومن تم فإن هناك ضرورة لضبط مرحلي لإجراءات الحجر المنزلي حتى يتم التحكم في الحالات المرضية والمخالطين وأيضا “تحجيم” المجال الحيوي لانتشار الفيروس. على مستوى التدابير التي يمكن أن يكون لها أثر استراتيجي في القضاء على الوباء يجب أن ننبه إلى أن أية حرب أو مواجهة مع أي عدو مهما كان تروم بالأساس القضاء على “هامش المناورة وحرية التحرك” (La marge de manœuvre et la liberté d'action). كما أن ربح رهان الحرب ضد فيروس كورونا المستجد يفرض تقوية “الإرادة الجماعية” قبل الإمكانيات وتفادي آثار حالة اليأس التي يمكن أن تتسرب إلى السلوك الجماعي للمغاربة مع استمرار فترة الحجر المنزلي. انطلاقا من هذا الأهداف الاستراتيجية نقترح ما يلي: – إن تقلبات الحالة النفسية والسلوكية للمواطن المغربي مرتبطة بالنتائج التي تعلن عنها مصالح وزارة الصحة بشكل يومي، وهو ما يتطلب مزيدا من الاجتهاد وتطوير البروتوكول العلاجي، مع النظر في إمكانية إخضاع “المرضى” بفيروس كورونا المستجد إلى فحوصات يومية ابتداءا من اليوم السادس لإخضاعهم للبروتوكول العلاجي، وهو التوجه الذي تبنته مجموعة من الدول وانعكس بشكل كبير على أعداد حالات الشفاء اليومية، وبالتالي ترسخ الشعور الجماعي بقرب نهاية هذه الجائحة، بالموازاة مع الانخفاض الكبير في عدد الوفيات. – إمكانية رفع الحجر الصحي جزئيا أو كليا على المدن “النظيفة” والتي لم تسجل فيها منذ مدة أية حالة إصابة جديدة. غير أن هذا الإجراء يفرض ما يلي: – حيث إن جميع هذه المدن تبقى صغيرة نسبيا ومتحكم فيها ترابيا، فإنه يجب التعامل بشكل صارم مع جميع محاولات دخول هذه المدن من طرف بعض الأشخاص الذين يحاولون بشتى الطرق التحايل على نقاط المراقبة أو المشي على الأقدام للوصول إليها. – ضرورة الاستفادة من التكنولوجيا المتطورة في هذا المجال عن طريق تسخير طائرات الدرون ذات الاستشعار الحراري لضبط محاولات التسلل “الفردي” إلى المدن النظيفة، مع تفعيل آليات زجرية مشددة لردع مثل هاته الممارسات والتي تسجل بكثرة في العديد من المدن. وقد يرى البعض أن هناك مبالغة باللجوء إلى هذه التقنية إلا أننا نرى أنها الوحيدة القادرة على ضبط السلوك الشاذ لبعض المواطنين والتي أدت إلى انتقال الفيروس إلى مجموعة من المدن ظلت خالية من فيروس كرونا المستجد لمدة طويلة. – ونذكر في هذا السياق (مع اختلاف القياس) أن التعامل مع أسلوب حرب العصابات في مواجهة التنظيمات الإرهابية في دول الساحل الأفريقي ظل دون نجاحات حاسمة رغم العمليات الواسعة التي قادتها هذه الدول بدعم من فرنسا والمجتمع الدولي (عملية سيرفال وباركان)، بالنظر إلى أسلوب الإنهاك التي تتسبب فيه المعارك مع عدو دائم الحركة ولا يظهر إلا فجأة ولا يمكن حصره والتعامل معه في رقعة جغرافية محددة. هذا الواقع على الأرض دفع بفرنسا إلى الاعتماد على الطائرات بدون طيار وطائرات الدرون المتطورة لضبط تحركات العناصر الإرهابية وبالتالي تحييدها قبل المرور إلى مرحلة التنفيذ المادي. – طبعا هناك اختلاف بين الواقعين بحكم غياب الدافع والنية الإجرامية عند المواطنين المتنقلين بين المدن، لكن نتيجة هذا التنقل قد تتسبب في نفس النتائج التي قد تحدثها عملية إرهابية، خصوصا وأن عدد ضحايا هذا الفيروس تجاوز جميع ضحايا العمليات الإرهابية التي عرفها المغرب مجتمعة. – استغلال نسب المشاهدة العالية خلال فترة الإفطار وكذا الحالة الإيجابية للمشاهدين خلال هذه الفترة لتمرير رسائل إعلامية إيجابية وحثهم على مواصلة الالتزام بقواعد الحجر الصحي ورفع منسوب الثقة والإرادة الوطنية الجماعية لمواجهة الفيروس. – ضرورة التركيز على “نقاط الضعف” والمتمثلة في المدن التي بها عدد قليل من الإصابات وبالتالي “تحرير” أزيد من 90% من التراب الوطني من هذا الفيروس. هذه الاستراتيجية دفع بها أغلب المنظرين الاستراتيجيين وعلى رأسهم صان تزو وفريديريك الأكبر وبشكل أكبر بازل ليدل هارت. وبالتركيز على النقطة الأخيرة فإن التحكم في انتشار الوباء على مستوى المدن الصغيرة سيسهل حتما من مهمة الانتقال إلى التجمعات الكبرى التي تسجل نسبا مرتفعا بحكم احتضانها للعديد من الوحدات الصناعية والمهنية وبالتالي تركيز المجهود الكلي عليها للقضاء على آخر معاقل هذا الوباء، خصوصا وأن التنسيق المرن بين القطاعات الصحية المدنية والعسكرية أثبت نجاعة عالية في احتواء انتشار الفيروس في بعض البؤر الوبائية (ورززات نموذجا). هذا ويبقى الحصول على المعلومات المتعلقة بأماكن انتشار الفيروس وطرق وخطوط انتقاله مقدمات أساسية لتطعيم البناء الاستراتيجية قصد المساهمة، إلى جانب باقي المتدخلين، في التسريع بالقضاء على هذا الفيروس وتجنيب بلادنا مزيدا من الخسائر التي تكبدتها قطاعات حيوية أثرت بشكل كبير على الموازنات الاقتصادية الكبرى للمملكة.