“لا يمكن إجراء نقاش جاد والتوصل إلى سياسة واستراتيجية ناجحتين إلا إذا كان أولئك الممسكون بزمام السلطة، والمتخصصون في شؤون الأمن القومي الذين يدعمون القادة، ووسائل الإعلام الوطنية التي تراقب هؤلاء المسؤولين، والرأي العام الواعي، جميعهم مستعدين للمشاركة”. هاري يارغر: الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي دخلت المملكة المغربية منذ الثاني من شهر مارس الماضي في مواجهة مباشرة مع “جائحة” فيروس كورونا المستجد بعدما تم تسجيل أول حالة على مستوى جهة الدارالبيضاء-سطات، ومن تم تسارعت وتيرة الإجراءات السيادية للدولة المغربية وصولا إلى تطبيق صارم لتدابير الحجر الصحي الوقائي والذي قد يساعد المغرب على تفادي الأخطاء الكارثية التي وقعت فيها باقي الدول والتي وصلت فيها أعداد الإصابات والوفيات إلى مستويات مقلقة. ولقد ساهمت التدابير الاستعجالية التي قامت بها المملكة المغربية في خلق أجواء جد إيجابية وحالة من الثقة لدى المواطن المغربي في قدرة الدولة المغربية ومؤسساتها الأمنية والصحية والترابية على احتواء تداعيات الأزمة بسرعة كبيرة. كما رسخت هذه الأزمة الثقة في المؤسسة الملكية كصمام أمان للأمن القومي المغربي وحائط الصد المنيع والملاذ الأول والأخير للمواطن المغربي، وهو ما يعطي مؤشرات إيجابية ومطمئنة على استقرار الوضع السياسي والأمني للبلاد لفترات مستقبلية طويلة. في نفس الاتجاه، كشفت أزمة جائحة كورونا على فشل الأحزاب السياسية وباقي القوى الوسيطة في تأطير وتنظيم وتوجيه المواطنين، في مقابل حضور قوي لرجال الإدارة الترابية الذين أثبتوا جدارتهم في قيادة المرحلة الحالية وفق ما يتلاءم وحساسية المرحلة التي تتطلب مزيجا من الحزم والقوة وفق مقاربة كلاوزفيتزية محضة، مع الاستمرار في تحصين النقاط الترابية من بعض الاختلالات التموينية أو الخدماتية الضرورية بهدف منع حدوث تقاطعات ذاتية وموضوعية يمكن أن تهدد الأمن العام وتؤثر على تنزيل توجيهات الدولة في هذه الظرفية الحساسة والغير مسبوقة من تاريخ المغرب. في هذا السياق، فإن الحديث عن “استراتيجية” بالمعنى الدقيق للمصطلح في مواجهة فيروس كورونا المستجد يبقى غير صحيح وغير سليم على اعتبار أن الاستراتيجية يتم التحضير لها مسبقا وفق قراءة ذكية للبيئة الاستراتيجية المحلية والدولية ويتم إسقاطها على فترات زمنية مستقبلية طويلة نسبيا، أما والحالة هاته فإن المصطلح الأدق الذي يجب استعماله هو “تدبير الأزمات”، لأن الاستراتيجية توجد على طرفي النقيض من إدارة الأزمات. هذه الأخيرة يتم اللجوء إليها عندما لا تكون لدينا استراتيجية أو عندما تفشل الاستراتيجية في استباق الأزمة. على هذا المستوى من التحليل، فإن التفاعل مع الأزمة الحالية يفرض الابتعاد عن الخوض في الأبعاد الاستراتيجية ومحاولة تقديم المساهمة التكتيكية لأجهزة الدولة التي تحاول بكل الأدوات والوسائل وقف زحف هذا الوباء الخطير الذي خطف منا أرواح عزيزة وحول منازل آلهة بسكانها إلى جدران تنطق الوحدة وتشتكي الفراق. ولعل الاهتمام بالكوادر الطبية وحشد جميع القطاعات الوزارية يبقى الهدف منه مواصلة التحكم في الوضع الوبائي إلى غاية حدوث مستجدات يمكن أن تساهم في حصر الفيروس. هذه المستجدات التي يمكن أن تلعب دورا مهما في اختفاء الفيروس تبقى مرتبطة “ربما” بالتغيرات المناخية (كما هو حال معظم الفيروسات) أو استجابات علاجية (استخدام عقار الكلوروكين وغيره)، غير أنها تبقى غير مضمونة بنسب مرتفعة، لذلك يبقى الحل الوحيد هو رفع تحدي “عزل الحالات الموبوءة عن باقي الحالات السليمة” مهما كلف الأمر. هذا التحدي، يمكن كسبه، في اعتقادنا، من خلال إجراءين استعجاليينيمكن أن يساهما في حصر الحالات الموبوءة: الإجراء الأول مرتبط بضرورة رفع الدولة من قدرتها على إجراء الفحوصات في وقت وجيز مع ضرورة الانتقال من إجراء التحاليل على مستوى المختبرات إلى إحداث وحداث صحية متنقلة، والإجراء الثاني مرتبط بضرورة “قطع خطوط اتصال” على الحالات الموبوءة ومنع تنقلها بين المناطق والمدن. هذا الإجراء قد يبدو صعبا أو مستحيلا، لكن التفكير الجماعي واستحضار مبادئ اللوجيستيك (كعلم مختص في التحركات والتموين) يمكن أن يساعد في تبني مقاربة ذكية لاختيار المناطق أو “الفئات” التي ستخضع للتحاليل الطبية للكشف المبكر عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد، خاصة وأن المغرب يتجه، بفضل توجيهات جلالة الملك، نحو استيراد أعداد كبيرة من أجهزة الفحص السريع على المرض المرتبط بكوفيد19. في هذا الصدد، يتطلب الإجراء الأول الإسراع بإجراء الفحوص الاختبارية السريعة على جميع “المخالطين” والذين يشكلون الاحتمال الأكبر للإصابة بكوفيد19، خاصة وأن عدد الحالات لازال متحكما فيه، ويمكن التجند لفحص جميع الحالات في مدة زمنية وجيزة. بخصوص أجرأة المقترح الثاني، فإن متابعة انتشار الحالة الوبائية في المغرب تقطع بأن حصر أعداد الحالات المصابة يفرض قطع خطوط الاتصال بين مختلف المناطق، خصوصا وأن جميع الحالات التي يتم تسجيلها أو التي ستُسجل هي إما لمخالطين، أو لحالات وافدة “محلياً” (الحالتين اللتان تم تسجيلها في جهة العيون الساقية الحمراء من المؤكدة أنها حالات وافدة محليا). كما أن المدن التي تعتبر لحد الآن “مدن نظيفة” فإن الاحتمال الوحيد لتسجيل حالات جديدة هو انتقال حالات مصابة إليها من مناطق أخرى عن طريق اللجوء إلى أساليب التحايل للانتقال إلى المدن التي لم تسجل أية حالة وبائية إلى حد الآن. في نفس الاتجاه، تشكل الجهات الكبرى في المغرب حركة انتقال مرتفعة نسبيا بحكم تقارب المدن وأيضااحتضانها لعدد كبير من الموظفين والعمال وهو ما يجعل إمكانية نقل الفيروس محصورة في هذه الخطوط البشرية التي تتحرك بين مختلف المدن القريبة من بعضها البعض(الرباط-سلا-تمارة) (الدارالبيضاء-المحمدية وداخل الدارالبيضاء). من هذا المنطلق فإن التحكم في خطوط الاتصال بين المناطق والمدن يمكن أن يساهم في قطع طرق انتشار الفيروس وبالتالي انخفاض عدد الإصابات الجديدة وحصرها مكانيا في ظل إجراءات الحجر الصحي التي تطبقها السلطات المغربية بنجاعة كبيرة. إن اللجوء إلى “تحييد” العناصر البشرية المتحركة بين المناطق يمكن أن يتم عبر الإجراءات التالية: * التشدد في إجراءات عزل المدن، مع ضرورة تحصين “المدن النظيفة من الوباء”. * اللجوء إلى آليات الفحص السريع عند جميع السائقين الذين يلجون المدن لمدها بالمواد الأساسية الضرورية. * محاولة إخضاع الموظفين الذين ينتقلون بشكل يومي إلى مقرات عملهم للاختبارات السريعة. * حصر حالات الانتقال بين المدن القريبة في الموظفين والعمال الذين يشتغلون في قطاعات حيوية. * في حالة استيراد أجهزة الفحص السريع يمكن اللجوء إلى “الفحص العشوائي” على نطاق واسع وهو ما سيمكن من اكتشاف تكون بؤر وبائية في بدايتها وبالتالي سهولة احتوائها. إجمالا يمكن القول أن إخضاع جميع المخالطين لبروتوكول الفحص السريع بالإضافة إلى ضرورة الكشف عن الأشخاص المتحركين بين المناطق والمدن واللجوء إلى تكتيك الفحص العشوائي سيمكن من حصر انتشار الوباء بشكل كامل وبالتالي تقليص فترة الحجر المنزلي مع ارتفاع مرتقب لأعداد “المدن النظيفة” إلى غاية شفاء آخر حالة والإعلان عن القضاء نهائيا على هذا الوباء في بلادنا.
د. عبدالحق الصنايبي: متخصص في الدراسات الاستراتيجية والأمنية جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة