الباحث الذي يستعمل الكلمات كما يسمعها من ألسن الناس دون أن يخضعها لمزيد من الاحكام يتعرض لأفدح الالتباسات ان الشيء لا يكون واقعيا ما لم يستطع حفظ وجوده في صراع الحياة والموت الذي يدور بينه وبين أوضاع حياته وظروفها، وقد يكون الانتحار أعمى أو ينطلق من مسلمات لا واعية، كما في حالة المادة الغير الموضوعية، وقد يكون وعيا مقصودا، كصراع البشرية مع ظروفها وظروف الطبيعة التي تأخذ مكانة أساسية في الحياة الاجتماعية للإنسان وهو الأمر الذي يدفعه الى ضرورة الحفاظ عليه وترشيده والتعامل معه بعقلانية، الأمر الذي يجسده في أغلب ممارساته في تعامله مع المحيط، فهو يتعامل بكثير من الحذر لاستدامته، الا ان المنطق الاقتصادي الرأسمالي دائما ما يؤدي بكل الجهود المبذولة الى الفشل، فهو يمارس عنفا تدميريا على المجال الطبيعي و على القيم الاجتماعية التي حفظ التوازن الاجتماعي للأفراد من خلال منطق يسوده التضامن الجمعي لا بمنطق الفردانية والانطواء على الذات. فالمنطق الرأسمالي هذا جعل منه كائنا ماديا محضا يسعى في كثير من الأحيان الى تحقيق الترف المادي بغية الظفر بمكانة اجتماعية أصبح يحددها المنطق المادي، أو بغية تحقيق رغباته وغرائزه دون أن يجعل لنفسه حدودا لذلك، فمع التحولات التي شهدتها جل المجتمعات مع الثورة الصناعية والتي فرزت نظرة جديدة الى الحياة سرعت من قدرة استغلال الانسان للطبيعة و استغلاله لنفسه وهو ما جعله يستنزف المجال الطبيعي بشكل كبير، الشيء الذي تولد عنه تغير في منظوره للحياة الاجتماعية وظهور قيم جديدة، وسيادة النزعة الفردية والاستقلال الذاتي، هذه النظرة للحياة أصبحت تفرز ظواهر ايكولوجية واجتماعية تهدد الاستقرار البشري على مستوى العالم كظاهرة أنطولوجية. على مستوى الايكولوجي: يعد الاحتباس الحراري من الظواهر التي تجعلنا نعيد صياغة أسئلة حول الممارسات التي تبناها الانسان منذ عصر الانوار، فقد أصبحت نزعته هي تحقيق طفرة علمية وتكنولوجية واقتصادية ولو على حساب الطبيعة، متناسيا ان هذا التوجه يهدد بقاءهّ، فالكوارث الطبيعة كالفيضانات و قلة التساقطات المطرية والزلازل وترتجع المساحات الخضراء وظهور المدن الاسمنتية زد على ذلك المدن الصناعية ولو على حساب الغابات، وهو ما يؤدي الى تراكم مخلفات المدن الاسمنتية والمدن الصناعية من الرواسب والبقايا الغازية الملوثة للجو كما تعد مسألة تراكم الازبال في الهوامش من العوامل المفسرة لظهر مجموعة من الامراض و الأوبئة الفتاكة القاتلة لأي كائن حي على وجه الارض، ” نظرية الصراع التي ترى أن التغيرات تمس المجال والبيئة بشكل عنيف وهو ما يعطي توترات وصراعات اجتماعية، مع افتراض أن العوامل الطبيعية والبيئية (كمتغيرات) تأثيرات وانعكاس على طبيعة العلاقات الاجتماعية وتكون محفزة لإثارة إشكالات أخرى مترابطة تتجاوز ما هو بيئي إلى ما هو اجتماعي وسياسي مرتبط بالتهميش والاقصاء”. أما على مستوى الاجتماعي فهو مرهون بالأول البعد الايكولوجي فكلما توفرت الموارد الطبيعية لتلبية حاجيات كلما ساد نوع من التوازن والاستقرار الاجتماعي والعكس صحيح ففي اللحظة التي تتراجع في الموارد الطبيعية تتأزم العلاقات التفاعلية الاجتماعية وتكون هناك رغبة في احتكار الموارد الطبيعية خصوصا المواد الاساسية كالماء والقوت والغداء، فالشعور بعدم الوصول الى حاجيات الحياة الضرورية من قوت وغداء يؤدي في معظم الأحيان الى نشوء صراعات دامية إما على شكل حروب أو صراعات طائفية، وهو ما يؤدي الى تركم الجثث الأمر الذي يسرع من انتشار الاوبئة. في زمن الكورونا الإنسان يعيش نوع من اللاتوازن النفسي اما خوفا من المستقبل المجهول، أو من نقص الحاجيات الضرورية للعيش بسبب البطالة والفقر وغياب فرص العمل وتوقف عجلة الاقتصاد بشكل مرعب، هو ما يجعل أغلب الناس لا يعرفون مصيرهم، فالمجتمعات المتخلفة او التي هي في طور النمو تعاني التهميش والاقصاء في مجموعة الجوانب كالسياسات العمومية و بعض التدابير والاستراتيجيات المتبعة، نظرا لضعفها وعدم نجاعتها أمام مثل هذه الظروف لأسباب لن ندخل فيها، بقدر أننا سنتحدث عن القهر النفسي للأفراد خصوصا في الاوساط الفقيرة الضعيفة، فالوضعية المأزقية بالخصوص وضعية القهر الذي فرضته الطبيعة كوفيد 19، والتي تفلت من سيطرته وتمارس عليه اعتباطها، لذلك فإن سيكولوجية الإنسان المقهور في ظل أزمة كورونا تهدد نفسيته وهو ما يعرضه الي الانتحار في غالبية الأحيان، فالتركيبة الذهنية وتكوين الإنسان وحياته اللاوعية في مجتمعات التي هي لم تحقق نموها الكامل بعد محكومة بالاعتباط في اتخاد القرارات وهو ما يولد القلق الجذريلذا عامة الناس، فأي مشروع فكري أو تنموي يهدف الى الارتقاء بالمجتمع او الخروج به من وضعيات صعبة وحرجة ينبغي النظر الى الانسان في هذه المجتمعات باعتباره عنصر أساسي و محوري في أي خطة تنموية، فالتنمية مهما كان ميدانها، ينبغي أن تمس تغير الانسان ونظرته الى الامور في المقام الاول، ولا بد من وضع الامور في إطارها البشري الصحيح، ولا بد من اخد خصائص هذه الفئة في عين الاعتبار، أي ينبغي أن تكون النظرة شمولية الاهتمام بالبعد الذاتي “الانساني” اضافة الى البعد الموضوعي الاجتماعي والاقتصادي، وفهم العلاقة الجدلية بينهما اذا ما اردنا السير على طريق يقودنا الى الهدف، وعكس ذلك يولد التفكك في التماسك الاجتماعي ويضعف البنيات الذاتية بالتالي يتولد اللاتوازن النفسي والقهر وهو ما قد يؤدي في كثير من الاحيان الى فعل الانتحار. اذن ما هو الانتحار؟ وكيف يتشكل؟ الانتحار هو فعل اجتماعي قبل أن يكون فعل نفسي، فالانتحار هو قبل كل شيء فعل ناجم عن اليأس يقوم به شخص لم يعد متعلقا بالحياة لسبب من الاسباب، ينتج غالبا من اختلال في التوازن الاجتماعي، ما يؤدي الى تراكم الازمات النفسية أو الشعور بالإرهاق النفسي والروحي من الحياة هو ما يدفع الى فعل الانتحار، هما نتساءل ما الذي يولد الشعور بالقلق أو الازمة النفسية؟ تتشكل عند الفرد عقدة نفسية في اللحظة التي يشعر بها أنه لا يجد تبريرات منطقية لمجموعة من الضغوطات التي تمارس عليه، وهو ما يولد الأرق الفكري واللاتوازن النفسي للممارسات الغير المبررة وخصوصا تلك التي تضرب في كرامة الفرد و تنقص من مكانته وقيمته أمام الآخر وهو ما يصطلح عليه اليوم في المجال العام بمفهوم “الحكرة”، أو ما عبر عنه كل من كارل ماكس وهيغل بالاستلاب أو السلب المستمر لما يهدد بإنكار الحرية ويتولد عنه الشعور بالاغتراب وهو ما يتولد من خلاله الشعور بفقدان الثقة بالنفس هو ما يحول الى فقدان الرغبة في العيش، فعدم تبرير الوضعيات يقود بشكل مباشر أو غير مباشر الى خلق صراع مع الذات ومع الأخر، فكل ما يرغب فيه الانسان هو تبرير منطقي لأي فعل يمارس عليه بالتالي هذا الفعل لا ينبغي أن أفقيا بقدر ان يكون عموديا، يستجيب لمعيار الفعل التواصلي بين الطرفين لا على الفعل الآداتي المسيطر الذي يؤدي الى الشعور بالحكرة وفقدان الكرامة الذاتية والاجتماعية ثم الدخول في حالة القهر الاجتماعي ثم الرضوخ والاستسلام للعقبة النفسية، بدل أن يصبح قوة فاعلة ومؤثرة في الحياة، كي يعزز هذه البنية ويدعم استقرار. فالمنتحر يكون في وضعية مأزق رغم أنه يحاول من خلال سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه مجابهة ومحاولة السيطرة على نفسيته بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسي الذي يستحيل الاستمرار من دونه، هذه الوضعية المأزقية هي أساسا وضعية القهر الذي تفرضه عليه الطبيعة التي تفلت من سيطرته وتمارس عليه اعتباطها، والممسكون بزمام السلطة يمارسون عليه الرضوخ ولذلك فان سيكولوجية الانسان المقهور بتعبير مصطفى حجازي، تبين علاقة القهر والتسلط من ناحية ورد الفعل عليها من الرضوخ والتمرد من ناحية أخرى، وهذا التمرد غالبا ما يفضي بالفرد الى ان يتمرد على نفسه و يدخل في حالة الانتحار ليتخلص من وضعية القهر والرضوخ، بالتالي ينظر الى أن الموت هو ما سيوفر له الأمان من كل هذه الأزمات وهو الخلاص بالنسبة له. يشير إيمل دوركايم من خلال كتابه الانتحار أن أي اختلال في التوازن الاجتماعي يؤدي لا محالة الى فعل الانتحار، وهو ما يتضح جليا من خلال مجموعة من الاختلالات التي برزت الى السطح مع كورونا، فهذا الوباء أثر على النظام الاجتماعي والبيئي والاقتصادي وحتى الساسي، ونتج عنه مجموعة من الاختلالات في نمط الحياة التي كان قد اعتاد عليها انسان القرن 21، وقد صنف هذا الأخير فعل الانتحار الى أربع أصناف، الانتحار الهلوسي: يعزى هذا الانتحار غلى هلوسات او غلى تصورات هذيانية ، فالمريض ينتحر من خطر او من فضيحة متخيلة، او من استجابة لنداء خفي آمر تلقاه من الأعلى الانتحار الملانخولي (السوداوي الإكتئابي): يرتبط هذا الانتحار بحالة شاملة من الكرب العميق الذي يؤدي بالمريض غلى فقدان التقدير الصحيح للعلاقات التي تربطه بالناس من حوله، ويعيش نوع من الغربة وتصبح الدنيا بالنسبة له سوادا حالكا، وتبدو له الحياة باعثة على السأم او على الألم الانتحار الوسواسي: لا يحدث هذا الانتحار في هذه الحالة نتيجة لأي دافع، حقيقيا كان أو متخيلا، بل بسبب فكرة ثابتة عن الموت تستحوذ على ذهن المريض دون اي سبب يمكن تشخيصه، فالبداية يحاول المريض ام يقاوم وفي فترة المقاومة يكون حزينا ضيق الصدر، بهذا يطلق عليه الانتحار الحصري الانتحار الاندفاعي أو الاوتوماتيكي: هذا النوع من الانتحار يحدث بطريقة فجائية يتعذر كبتها على الفور، وليس لها ادنى مبرر في واقع المريض ولا في مخيلته. اذن فجميع الانتحارات الناجمة عن الاضطراب العقلي اما أن تكون مجردة من أي سبب أو مدفوعة بأسباب متخيلة، فالأبعاد الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية اذا لم تقدم تبريرات منطقية فهي تساعد على توليد فكرة الشعور بالقهر النفسي يحاول الانسان مجابهتها لكن في هذه المحاولات يتولد الشعور بحالة الضياع الاجتماعي وهو ما يدفع بالمنتحرين الى حالة من اليأس ثم التمرد على الذات في لحظة الشعور بالضعف وعدم الحصول على المساندة المعنوية والنفسية لثر الشعور بالإحباط، لذا لماذا لا يتمرد المنتحرين على الاوضاع التي تجعلهم يصابون بمرض الانتحار؟ * باحث في السوسيولوجيا والانثروبولوجيا