ينساق عامة الناس إلى بيان ما تؤرخ له رواية “الديوان الإسبرطي” من أحداث تاريخية تعود إلى فترة احتلال الجزائر، من قبل الاستعمارين العثماني والفرنسي، على اعتبار أنها روايةٌ حاز بها كاتبها عبد الوهاب عيساوي جائزة البوكر العالمية للرواية سنة 2020م، وخلقت صراعا تأويليا في ما تحويه من قضايا فكرية وسياسية، ومسائل تاريخية وأدبية، وهذه التآويل التاريخية المتواردة حول الرواية تجعل قارئها يتخذ الحيطة والحذر من أي منزلق تأويلي غير مُنساقٍ مع معالمها وخطوط أقسامها، وسنحاول تجاوز طابعها التاريخي بالتسلل إلى جانب آخر يتعلق أساسا بما هو كوني من جهة، وبما هو إنساني من جهة أخرى، وذلك بالحديث عن الإله الجديد للإنسانية، الذي تتخيله الرواية وتصوره، إِلهُ قاد الإنسانية إلى الغزو والاحتلال، وإلى خوض حروب دامية، والسؤال المطروح ههنا ما الإله الجديد الذي تصوره الرواية؟ ولربما إن العنوان قد أثار القارئ واستهواه كثيرا، ليكتشف الإله الجديد للإنسانية، الذي يضمره الكاتب. سنقارب السؤال بالإنصات إلى نصوص من الرواية، وبيان دلالتها الباطنة. يتبدى الإله الذي تشيده الرواية كإله جديد انساقت معه الإنسانية، في إله المال، المؤدي إلى استعباد الناس واستغلالهم، والسطو على أموالهم، وهو الإله الذي قاد الدول إلى استعمار بعضها بعضا، وسياق هذا في الرواية، أن الفرنسيين كانوا يحملون معتقدا كاذبا، يظهر في أنهم استعمروا الجزائر ليحملوا إليها النور والحرية والعلم، يقول ديبون: “”نحن نحمل الحرية والنور لهؤلاء العرب ضد مضطهديهم العثمانيين”. يبدو أن المسعى الظاهر إنساني، والغاية ذات فضيلةٍ عظيمة، هي إنقاذ الشرقيين والجزائريين من اضطهاد الأتراك، ولكن المبتغى الباطني من حمل الفرنسيين للحرية والنور إليهم غير بَادٍ في الواقع أساسا، إنما هو تمويه يبتغون منه تفكيك اليد الواحدة للعثمانيين، وتبديد مناطقها المستعمرة، إن فرنسا كانت مصدر البؤس والدمار والاضطهاد على أناس الجزائر، فقد اغتصبوا النساء وسفكوا الدماء ونشروا البغاء، من أجل غاية واحدة هي جمع المال، والسيطرة على أكبر الأراضي، واستغلالها، ومن ثمة _كما قال ديبون- “يتناقض النور مع لون الدم، والسلاح مع الكلمة، والمحبة مع الكراهية”. تأتى أن العالم لا تهمه إلا مصالحه الخاصة، عالم تلاشت فيه القيم الإنسانية والاجتماعية، الناس يفكرون في أنفسهم، يرتدون قناع الحرية والعدالة والقيم الاجتماعية وحقوق الإنسان لقضاء مصالحهم، هذا ما تصوره الرواية في قول ديبون: “المال هو إله هؤلاء الناس الذين تراهم من حولك، قباطنة وبحارة وجنودا، وأيضا الصيادون، كلهم يسعون إلى حظوظهم من أموال تلك المدينة…ما يغريهم ليس أمجاد الرّب، بل صناديق الذهب التي يخبئها باشا الجزائر”. منطوق النص أن الزعم وراء حمل الحرية للجزائر كان كاذبا، فغايته استغلال الجزائر والحصول على مكتنزاتها وثرواتها العظيمة، وديبون في الرواية شخص متعاطف مع الشعوب العربية المستعمرة، بحيث كان مبعوثا لجمع المعلومات عن المحروسة، وهي مكان وقوع الأحداث في الرواية، ويرمز إلى الإنسان المتعاطف، هذه الصورة مرسومة في قول كافيار: أصبحت يا ديبون تتصرف مثل هؤلاء الشرقيين، وتنفعل مثلهم، مخالطتك لهم أصابتك بالعدوى، والآن أراك تماثلهم في كثير من الطّباع، ما الذي يجبرك على الانحياز إلى هؤلاء البرابرة، وقد ساهمت في مجد أمتك، ودونت مسيرة فاتح إفريقية حتى أضحيت من نجوم الصالونات الباريسية؟ أتريد مجدا للإنسانية من أجل حقوق البائسين، أم أنك تعتقد نفسك مسيحا جديدا؟ دع عنك هذا وعُد إلى باريس”. كافيار يرى أن ديبون متعاطف مع الشرقيين والموريين، وتطبّع بطباعهم، وكافيار هذا في الرواية يرمز إلى الإنسان الفرنسي الحاقد، باعتباره أسيرا لدى الأتراك، وخلّد فيه هذا الأمر ضغينة وحقدا على المشارقة والمور، لا يحبهم أبدا وينتقدهم في تصرفاتهم ودينهم، ويعتبرهم بؤساء ومأسوين ولا يستحقون الحياة النعيمة، ويسوء عليه ما يفعله ديبون في الدفاع عنهم، ويظهر حقده في الرواية على العرب، في نصوص كثيرة أدلها قوله: “هؤلاء الشرقيون يميلون إلى الاسترخاء والتلذذ بالحياة، حتى غناؤهم كان رتيبا مملا…لو لا هذه الديانة المشتركة لما صبروا على تصرفاتهم، أحيانا أو دائما يصبح الدين عائقا في الحياة العادلة للناس، يأمرهم بالصبر على ظلم الحكام، حتى ولو ضربوهم بالسياط فليس عليهم الثورة، كما أنه ليس لديهم الحق في المناصب المهمة”. صورة كافيار في الرواية تعبر عن مُتَخيل المُستعمِر في حقده للبلدان المستعمَرة، بلدان ترتبط بالقدر والدين، وصابرين على المذلة والمهانة، ومنتظرين الله أن يصرف عنهم العذاب والقحط والاستعمار، نبرز هذا في قوله: “الخبث هو سمة العرب، والخداع هو أقصر الوسائل التي يستعملونها لبلوغ غاياتهم…الإيمان بالله في لحظات الضُعف ليس إلا هراءً، المؤمنون الحقيقيون هم من يؤمنون في لحظات القوة والنصر، إنني احتمي بالله حينما يعتقد الناس أنني لست في حاجة إليه”. نراه كيف يعبر عن حقده الدفين على الدول المُستَعمَرة وهذا بسبب معاناته حينما تم أسره والقبض عليه من قبل العثمانيين، يقول: “”كم هو حقير هذا العالم الذي تظلّ تدافع عنه، معارك كثيرة خضتها مع نابليون، كسبنا جُلها وخسرنا بعضها، ولم أفقد جزءا من جسدي، والآن صخرة في إفريقية تبتر جزءا دونما مبرر، لو فقدت عينا أو ذراعا في الحرب تيقن أنني لن أحزن حينها بل سأكون فخورا”، ولكن ديبون يعبر عن متخيل آخر للإنسانية هو الالتحام من أجل السلام والحرية وبعبارة راسل جعل العالم عائلة واحدة متعاضدة ومترابطة. الإله الجديد للإنسانية كما تجليه الرواية إله لا يعترف بذوي الفضيلة، إنه يعلي من قيمة الحقراء والمستغلين، الذين ينفثون السم لمحاربة القيم النبيلة، رَبٌّ نفث فيهم البغض، الذي يسير في عروقهم باستمرار، يقول كافيار: “لم يعد العالم الآن يحتمل أصحاب الفضيلة، سيكون جحيما لهم، ولعلي كنت فاضلا بما يكفي، فمن يذق شرّ العالم لا بد له من التحلي بجزء منه، الإنسان فيه من الشر ما يغريه بإشعال الحرائق في العالم، لكن شيئا ما يمنعه، شيء غامض في خبيئته”. يَسْبَحُ الإنسان الآن في ظلمات البغاء والاسوداد، تعامت إنسانيته، تفككت جذور طبائعه المحمودة، وتناثرت أخلاقه الحميدة، يعبد الإله الجديد بشدة. إن العالم ليس قادرا على تحمل أهل الحق، ومصاحبة المطالبين بالسلام، العالم اشتدت حبائل وحدته، فسرعان ما انقطعت، وخطوط السطو والاستعباد تتقوى كل يوم، ولذلك فإن الرواية تحمل صورة عن طمع المستعمرين. إن مدلولات الرواية تتماشى مع وقائع العالم الجديد وديانته الشيطانية الجديدة، وعبر ديبون عن هذا في قوله: “”في القديم كان الناس يؤمنون بآلهة متعددة تتصارع فيما بينها، واليوم صاروا يؤمنون بإله واحد يُتاجرون بأجسادِ بعضهم من أجله”. مسعى ديبون هو إعادة بناء عالم جديد تتماحى فيه كل الكراهية والقيم المذمومة، ويعود فيه الإنسان إلى إله التجليات الربانية، والمحافل الإنسانية، والنفحات الأخلاقية، وجَعل العالم يعيش سلاما وآمنا، يقول على لسان سيمون: “أسهر مع المبادئ بقية الليل، فتطالعني الجمل المليئة بالمعاني الإنسانية، اعتزت العروش، وتمزقت الأسر، واختفى الحب والملوك، دين جديد وأدبٌ جديدٌ وسياسةٌ جديدة، وليختف بيننا أثر للرق والعبودية”. فحوى النص أن ديبون يبتغي نشر السلام ومواجهة جحيم الإله المأسوي، والقضاء على طمع الإنسان وخرابه، وتشييد عالم جديد، يملأه الحب، وتختفي فيه العبودية، ويُعَظَّمُ فيه قَدرُ الإنسان، إنه يريد القضاء على الإله الجديد، إله الشيطان، إله المالِ والجحيم، يقول: “في الظلمة لم يكن حولي سوى الشيطان يطلّ من شقوق الجدران، أرى لُمعة عينيه وشررهما، يُردّد في ظلام العنابر العفنة أنه إله جديد لهذا العالم، وما كان لي إلا تصديقه، حينما يريد الإنسان الإيمان في جحيم هذا العالم فليس له إلا أن يؤمن بإله لا تتغلغل الشفقة إلى قلبه، إله مسرته في سفك الدماء من أجل مجده، لا في إعطاء خدك الثاني عندما يصفع الأول”. وراء المصالح أصبح الناس يعبدون المال ويحبون السطوة، ويجدون المسرة في السفك والمضرة في الرحمة، الله وحده الرحيم، والقادر على أن يسوي خلقا آخر، الإنسان مجرد لوثة أفسدت الكون، بشائرنا لم تعد قاصرة في نشر مَسامح القيم، إنها تلاصقت بالجفاء والحروب، مجد العالم محصور قوته العسكرية في نبذ الأرواح. المُتعالون على صفوف الدول لا يفكرون في الشفقة والرحمة، همهم الوحيد هو: الحرب والسفك والقتل والجزر، إن عبد الوهاب عيساوي قد شَيّدَ الإله الذي تتحارب من أجله الأمم وتتصارع، لا شيء أصبح جِديا في العالم، إنه مسرح يسخر فيه الإنسان من كل شيء، من الله، ومن الموت والأخلاق والفضائل، الشيء الذي يفكر فيه الإنسان بجدية هو الصراع من أجل المال، إنه الإله الذي يحقق جميع المطامح والمساعي، ويظل الإنسان يُسَبّحُه بُكرةً وأصيلا، نحتاج إلى من ينقذنا من هاته المأساة، ونريد البقاء على دين الإنسانية الداعي إلى إنشاد أغنية السلام، وإخماد نار الجهل والعبودية. لنقبض على يد واحدة، وننفخ في مزمار واحد، ونأكل من مائدة واحدة، شعارها الإنسانية، ومؤاتها الاعتراف بنعم الرّب وتقدير مبادئه المحمودة، مآلنا بين أيدينا، ينبغي أن نسارع إلى تكوين جيل يؤمن بالإنسان، وبعبارة راسل أن نبريهم على أن العالم عائلة واحدة، مصفوفة المبادئ، قارة القيم، مسكونة بجنون السلام، إن المال أو الإله الجديد، يغرينا كي نحفر القبور ونأكل عظام إخوتنا، ونسفك دماء إنسانيتنا، إن العالم يحتاج إلى “أناس يقدرون نعم الرب عليهم، ويتمنون نشر كلمته في العالم”، هذه هي المحامل الدلالية التي ترسمها الرواية، ولَحَقِيقٌ بها أن تنال جائزة البوكر. ما تَسللتُ إليه وأبديته في الرواية يبين حَالَ العالم اليوم، وعليه فينبغي أن نقف وقفة إنسان واحد، وأن نحضن بعضنا بعضا، فالإنسانية تغرق متى كانت غايتها مناشدة شيطان الجحيم، وإذا استمر العالم على هاته الشاكلة، فلا شيء يستحق أن يحزن عليه، وأن نناضل من أجل تحقيقه، ونختم قولنا بقول لميلان كونديرا في روايته “حفلة التفاهة”، معبرا عن حال العالم؛ إذ يقول: “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد” ص75.