حول جواب السيد سعد الدين العثماني رئيس الحكومة فيما يخص استراتيجية النهوض بالعالم القروي والمناطق الجبلية والغابوية “إن صناعة الأفكار تستلزم تجارب وأخطاء وتحسسات وإخفاقات أي تستلزم باختصار تعبيرا مترددا وهي شروط تحكم حرية انتاج الأبحاث وتطويرها من هنا تنبع تلك الأفكار التي تشوش البال ” وأنا أقرأ جواب السيد سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية حول استراتيجية النهوض بالعالم القروي والمناطق الجبلية والغابوية أصبت بالدهشة من تلك الأرقام الاحصائية والنسب المئوية التي يعج بها هذا الجواب سواء تعلق الأمر بواقع التنمية القروية والمجهودات المبذولة في هذا المجال أو ما يتعلق بالمقاربة الجديدة لحكامة المناطق القروية والجبلية، فواقع حال المجالات القروية مختلف تماما عن ما أورده السيد الرئيس من أرقام ومشاريع ، اذ لا نعرف منها سوى الاسم وبعض الصور اللامعة التي تم التقاطها فور انجازها ،ولكي لا نسقط في الأحكام الجاهزة سنعمل من خلال هذه السطور القليلة تفكيك ما يحتويه هذا الجواب ومقارنته بما يمارس على المستوى الميداني ونحن واعين تمام الوعي بالمجهودات المبذولة من طرف الدولة في تحقيق تنمية طبقية تستجيب لحاجيات المالكين لوسائل الانتاج بالمجالات القروية والمالكين في الوقت ذاته لوسائل الإكراه سواء بوعي أو بدونه ما دامت النتيجة واحدة وهي الفرضية التي أنطلق منها . والسؤال هنا حول التنمية كممارسة هل تنتصر فقط للغة الرياضيات والتقنية والإقتصاد أم أنها تتجاوزها نحو لغة الرمز والمعنى ؟ وهل نحن أمام سياسة أنا اخذ صورة اذا أنا موجود فيما يخص تلك المشاريع التنموية؟ وماذا عن الأرض بالعالم القروي؟ ان مجرد قراءة بسيطة لهذا الجواب تخلو من اي جانب ايديولوجي وتنتصر للحياد سيتبين منها أن الحكومة تتخذ من تغيير التقنيات وتحديثها المدخل الوحيد لتحقيق تنمية قروية تستجيب لحاجيات الإنسان القروي وكأن هذه التنمية تتحقق من خلال تمدين البوادي وتحديث بنياتها وهياكلها، غير أن العكس هو ما وقع ” فالمدن عوض أن تمدن الانسان البدوي هي التي أصبحت بدوية ” كما عبر عن ذالك الدكتور المختار الهراس ، ومع ذلك لا يريدون الانصات للعلوم الاجتماعية ويواصلون مشاريعهم الفاشلة بمعناها الانساني والناجحة بمعناها البرجوازي الطبقي ويواصلون ذر الرماد في عيون القرويين وتكبير بطون الاعيان ، “إن سؤال التنمية القروية مغربيا يحتمل أكثر من طريق وأكثر من مقاربة ،لكنه يجد ترجمته الواقعية دوما في الحلول الاقتصادية ،ودوما ما يتم فهم التنمية من طرف الفاعل السياسي وداعية التقنية على أنها استنبات لأعمدة الكهرباء وشق للطرق الثانوية وحفر للآبار ” فلا حديث في هذا الجواب عن توزيع الأراضي ولا تمليكها لأصحابها الحقيقيين مجرد ارقام ونسب مئوية دونما أي تدقيق على مستوى الواقع الميداني فكل متتبع لأحوال التنمية بالعالم القروي سيكشف لا محالة الشرخ الواضح بين الخطاب الحكومي وما يوجد على المستوى المادي الواقعي ، لذلك سأنطلق في التعليق على ما أورده السيد رئيس الحكومة من معايشتي اليومية للعالم القروي وسكانه خاصة بمنطقة تاونات التي أنحدر منها في محاولة للكشف عن خطاب الصورة التي يتم تسويقه من طرف أصحاب المكاتب المكيفة والسيارات ذات النوافذ المعتمة التي ربما تحجب عنهم رؤية الواقع بوضوح أو ربما يحتاجون الى اعادة النظر مرة اخرى في هذه المشاريع لكن هذه المرة عليهم أن يرتدوا النظارات السوسيولوجية ويعتذروا لروح الشهيد بول باسكون وغيره … تحدث رئيس الحكومة على أن نسبة الولوجية بالنسبة للطرق القروية تطورت بنسبة 45% اذ انتقل من 34% سنة 1994 الى 79% سنة 2016 ومن المعلوم أن الطرق القروية تشكل ركيزة أساسية لتحقيق التنمية من خلال فك العزلة عن العالم القروي وتمكين سكانه من الوصول الى مجموعة من المؤسسات الخدماتية سواء الصحية أو التعليمية وكذا نقل المنتجات الفلاحية بكل سهولة من منطقة لأخرى كما تمكنه ايضا من الانفتاح على الرأسمال الحضري وغيرها من المزايا الأخرى لذلك ستعمل الحكومة على برمجة مجموعة من المشاريع في ذات المستوى التي تهدف الى فك العزلة عن العالم القروي عبر فتح طرق ومسالك جديدة للرفع من الولوجية وكذا اعادة تأهيل الطرق الإقليمية بغية الوصول الى نسبة 80 بالمائة من الولوجية وبالفعل سيتم انجاز ذلك على الميدان ،غير أنه من الصعب أن نسميها طرقا فهي لا تحمل مواصفاتها وخاصة منها الرابطة بين الدواوير والقرى والمراكز القروية ( الفيلاج ) بل هي شبه طرق في وضعية هشة تعرف اختلالات على مستوى الانجاز والتوسيع اضافة الى عملية الاصلاح الدائم والترميم المستمر بشاكلة ترقيعية ولحظية تستنزف المال العام فقط حيث كلفت مثلا اعادة تأهيل 825 كلم غلافا ماليا قدره 844 مليون درهم سنة 2017 أي بما مقداره مليون درهم لكل كلم تقريبا. والأخطر من ذلك هو ما تعرفه هذه المشاريع في انجازها من انتشار للعلاقات الزبونية داخلها حيث ترتكز بشكل اساسي على أصوات الناخبين بمعنى انه اذا قامت ساكنة معينة بالتصويت على مرشح ما فانه سيكافئها بإنشاء طريق أو غيرها وغالبا ما نجد هذا المرشح يترأس جمعية تتكلف بذلك خاصة بالدواوير ، بالإضافة الى أن هذه المشاريع تسند الى مقاول من أصحاب الدماء الزرقاء الذي سيمكن من اخضاع المشروع الى سياسة “” كول و وكل” فجل الشركات المقولاتية المكلفة بهذه الأشغال تكون لها جذور اما قرابية أو حزبية بحيث تمكن كل طرف من الحصول على قسط من المال العام ، يقول أحد العمال وهو حداد في أحد شركات انجاز القناطر ” في التصميم يصلنا حديد من رقم معين لكن المقاول له تصميم خاص يحتوى على حديد من رقم اخر أقل ثمنا ” والأمر ساري على باقي المشاريع الأخرى وكذلك الحال بالنسبة للتزويد بالماء الصالح للشرب حيث تم تزويد جل الدواوير بالماء الصالح للشرب عن طريق التزويد الجماعي عبر انشاء محطات للتزويد يصل اليها السكان جماعيا فيما يعرف “بالسبلات” غير أن معظمها تعرض للتخريب إما من طرف السكان أنفسهم أو بسبب عوامل طبيعية، مثلا بأحد الدواوير الجبلية بمنطقة تاونات الذي يظم 53 أسرة وتصل نسمته الى حوالي 215 نسمة تم انشاء محطتين للتزويد غير أن الإقبال عليهما لا يتجاوز طنين ونصف في اليوم أي بمعدل 11 لتر لكل فرد مع العلم أن كل هذه الأسر تملك ماشية ودواب تحتاج الى الماء ويعود ضعف الإقبال هذا الى ثلاث أسباب رئيسة يتعلق الأول بارتفاع تكلفته اذ تصل الى 1 درهم لكل مائة لتر والثاني يتعلق بوجود منبعين جوفيين يخضعان للتنظيم العرفي في اطار الجماعة والثالث هو سبب سياسي إذ أن المسؤول عن محطات التزويد تم تنصيبه من طرف أحد حلفاء المخزن (الجماعة حسب تعبير الساكنة) . ولا يخرج قطاع التعليم والصحة عن هذا السياق فكل تلك الحجرات الدراسية والطبية والداخليات التي تم بناؤها تعاني الويلات سواء في هشاشة بنائها أو من ناحية تنظيمها الاداري وكيف لا تعاني من كل هذا وقد أصبح حارسها الليلي مقتصدا وابنه اطارا تربويا بها لأن مديرها ينتمي الى قبيلتهم، دعونا من لغة الأرقام وحدثونا بلغة نفهمها فقطاع التعليم بالعالم القروي في حاجة أيضا الى تحسين خدماته الادارية والتربوية وربط مختلف هذه المؤسسات بالأسرة فهناك تباين ملموس بين التربية الأسرية التي تمنح الطفل الأسس القروية وما بين التربية المدرسية التي تمنحه أسس الحداثة والتحديث وخير مثال على ذلك نجد نتيجته بالكليات فحينما تحصل تلك التلميذة القروية على شهادة الباكالوريا وتتجه نحو الجامعة فذلك يعني تحررها من قيم القرية “المحافظة” الى قيم المدينة “الحداثية” فالطالبة المغربية أصولية بالدوار منقبة ومحتشمة وحداثية في الجامعية تلبس ما تشاء وتخرج مع عشيقها وتدخل متى شاءت …، لقد أصبحت الأحياء الجامعية الان تعج بالدعارة المنظمة وغير المنظمة وجلهن ينحدرن من المجالات القروية فالمشكلة ليست في اصلاح مجال التعليم من خلال البنايات بل من خلال النواة . أما بخصوص القطاعات الإنتاجية والانشطة الاقتصادية بالعالم القروي التي أدرجها رئيس الحكومة في هذا الجواب فتحتاج الى نقاش عريض ودقيق فمن المعلوم أن هذه الانشطة متعددة ومتنوعة بالمجالات الريفية المغربية وهي خاضعة للتغير على مر الزمان وفقا والنظم الإقتصادية المتعاقبة حيث انتقل المجال الريفي من أدوات الانتاج التقليدية في الفلاحة والنجارة والحدادة وتنوع الانشطة الاقتصادية الى مرحة التخصص في وظيفة الانتاج الفلاحي مع الثورة الصناعية بالإضافة الى استقرار الانشطة غير الفلاحية بسبب وجود العديد من الموارد الأولية المعدنية وغيرها بحيث أصبح قبلة لمجموعة من الوحدات الصناعية الهادفة الى استغلالها ، غير أن مختلف هذه الأنشطة عرفت تداخلا وتركيبا فيما بين التقليدي والحديث ،لذلك نجد الصناعة التقليدية حاضرة بقوة في مجتمعنا المغربي الى جانب الصناعات الرأسمالية وقد عملت الحكومة كما جاء على لسان رئيسها على احداث 7 قرى للصناع التقليديين و15 أخرى في طور الإنجاز وكذا انشاء وتجهيز مجموعة من الورشات الصناعية … هنالك سؤالين يطرحان في هذا السياق يتعلق الأول بقدرة الصناعة التقليدية على مجابهة الصناعة الرأسمالية وتحقيقها دخلا مهما للفرد؟ والثاني هل توجد فعلا دور وورشات للصناعة بمعناها الاقتصادي أم أنها فقط مجرد صورة لامعة؟ ان الاجابة على هذين السؤالين يتطلب منا النزول الى الميدان لا البحث في الاحصائيات لكونها تعاني من ازدواجية الضغط السياسي من جهة والتلميع الخطابي من جهة ثانية اما في ما يخص القطاع الفلاحي الذي يعتبر اهم نشاط اقتصادي بالأرياف المغربية فإن رئيس الحكومة يربطه بشكل مباشر بمخطط المغرب الأخضر الذي بالفعل مكن من تحقيق نمو للدخل الفردي بنسبة 48 % لكن على الورق وفقا والتقسيم الرياضي لكن على المستوى الواقعي لا نجد سوى رجال اقطاعيين وشبه عمال فلاحيين. من المعلوم أن مشروع المغرب الاخضر يعمل عبر دعامتين أساسيتين: تتمثل الأولى في الفلاحة العصرية التي تهدف الى تحقيق تنمية فلاحية تستجيب لمتطلبات السوق الرأسمالية عبر اشراك القطاع الخاص في الاستثمار الفلاحي ، ويتطلب ذلك أرض شاسعة ومؤهلة للزراعة وهذا النوع من الاراضي نعرف من يملكها فقد تمت الاجابة على ذلك السؤال الدامي المتعلق بمن يملك الأرض بالمغرب ؟ انهم “ثلة من المغاربة الأثرياء تمكنوا من الحصول على رخص الشراء بفضل نفوذهم داخل جهاز الادارة والدولة كما احتفظت الدولة بأراضي الاستعمار الرسمي التي استرجعتها ووضعتها في يد التسيير البيروقراطي بدل ارجاعها للفلاحين المفتقرين الى الأرض بل ان الدولة تنازلت عن تلك الاراضي لصالح ملاكين كبار عصريين” “فمن بين 5 الى 10% من الملاكين كبار المستفيدين من تصفية الاستعمار القروي يملكون 60% من الأراضي و 40% من الفلاحين يملك الواحد منهم قطعة نصف هكتار ،فأصحاب الأملاك الشاسعة يصل عددهم الى بضعة آلاف يملكون ربع الأراضي المغربية أي ما يناهز مليون و800 ألف هكتار لقد استفاد هؤلاء الملاكين الكبار من الدعم الذي تقدمه الدولة بشكل مكنهم من تطوير رأسمالهم واثراء جيوبهم وخلق فرص شغل للعديد من الأفراد الذي يعملون بهذه الأراضي كعمال فلاحيين يتم دفع أجورهم بالأيام والساعات حيث يصل ثمن الساعة الواحدة الى 10 دراهم في أغلب الأحيان . ومن جهة ثانية نجد الفلاحة التضامنية التي خصت صغار الفلاحين الذين يتم دعمهم سواء بالأسمدة الفلاحية أو الحبوب أو تربية الماشية غير ان كل هذا لم يتجاوز حدود الفشل لعدم امتلاكهم الأرض المؤهلة للفلاحة فكل ما يملكونه هو أراضي مفتتة ووعرة والغريب أن البعض يحاول ربط هذا الفشل بفترات الجفاف المتتالية التي يعرفها المغرب غير ان الأمر لا علاقة له بذلك فالفلاح المعيشي في كل الحالات يعاني الضرر سواء كان الموسم الفلاحي يعرف وفرة الانتاج بحيث تتراجع أثمنة المحاصيل بسبب وفرتها وارتباطها بالسوق الرأسمالية وفي حين كان الموسم قاحلا فان الفلاح المعيشي لا يملك المحصول لبيعه أصلا . لائحة المراجع: بول باسكون، زرع النماذج وغياب التجديد،نقل الحوار عن الفرنسية مصطفى المسناوي،بيت الحكمة:مجلة مغربية للترجمة في العلوم الانسانية،السنة الأولى،العدد الثالث،أكتوبر 1986،ص.10 عبد الرحيم العطري،تحولات المجتمع القروي وأسئلة التنمية المؤجلة ،دفاتر الحرف والسؤال سلا،الطبعة الأولى،2009،ص.16 عرفت الجمعيات انتشارا واسعا بالمغرب خصوصا بعد سنة 2011 وجلها يترأسها اعضاء في احزاب سياسية محدد وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية يمكن رصد ثلاث مراحل كبرى وهي مرحلة المركب الفلاحي الريفي ثم مرحلة تخصص المجال الريفي ثم مرحلة المركب الصناعي الفلاحي علي الحمراوي، مسألة الفلاحة المغربية، مجلة أنفاس، السنة الثانية، العدد الأول، ماي 1971 عبد الرحيم العطري،تحولات المجتمع القروي وأسئلة التنمية المؤجلة،مرجع سابق،ص22 * طالب بماستر سوسيولوجيا جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة