ها هو الشيخ الموسوعي المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة يرحل بعد أسبوعين تقريبا من مرضه المزمن العابر العاجل ، رحل عنا مساء يوم الجمعة الموافق 4 رجب سنة 1441 من الهجرة النبوية الشريفة حيث توفي المفكر الإسلامي المعروف و عضو هيئة كبار العلماء د. محمد عماره. ، تاركا وراءه ثروة علمية كبيرة متنوعة، أغنى بها المكتبة العربية الإسلامية، مقدما لنفسه زادا يدر عليه الحسنات والبركات وبذلك يأفل نجم من نجوم الأصالة من سماء ليس العالم الإسلامي فحسب، بل العالم برمته .. فلا يملك المرء إبتداء إلا أن يعزي نفسه والأمة الإسلامية و الإنسانية قاطبة في فقيدها الكبير الذي سطر لأجيال الحركة الإسلامية وصحواتها من بعده قاموسا خصبا ثريا ، حافلا بالمجاهدات والمغالبات والمقاومات والعطاءات و التضحيات، وبمثل ذلك يموت العظماء فلا تموت آثارهم من بعدهم مصداقا لقوله سبحانه : ” إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ” ( يس : 12). فعلا برحيل الدكتور محمد عمارة، الذي لم تشرفني أقدار الله سبحانه بلقائه إلا أياما معدودات في نهاية ثمانينات القرن الماضي أثناء ملتقيات الفكر الإسلامي، وأخرها لقاء في جامعة قسنطينة في ندوة منهجية المعرفة التي نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالاشتراك مع جامعة قسنطينة.. برحيل وفراق الدكتور عمارة تكون المكتبة الاسلامية حقا قد فقدت رفوفا كبيرة من كتبها، و اذكر هذه الندوة تحديدا لأن العلامة محمد عمارة خصص لي و للفريق الإعلامي معي من العاصمة حصة الأسد ، حيث تفرغ لنا كل صباح قبل إنعقاد اشغال الندوة ليسجل معنا سلسلة دروس غاية في الأهمية، والملاحظ أني أعجبت ليس بأسلوبه المقنع فقط بل، بل بسيولة و غزارة أفكاره لم أكتشفها عند جل علماء عصره بما فيهم الشيخ الغزالي و الشيخ ترابي و الدكتور جمال الدين عطية و الدكتور محمد أمزيان .. فقد أمتعنا فعلا بتلك التسجيلات، و قبل أن يغادر رجى زميلي المصور أن يرسل له نسخة لمصر ليفيد بها غيرنا في دول المشرق. صحيح قد يقول قائل أن الدكتور عمارة متميز و نابغة، وأنه لكل رجل تخصصه و لكل عالم فنه و لكل منهم محطة و مرتع، ولكل عصر رجاله ..و لكل عصر أفعاله .. و العصر بالتالي ليس هو الزمن .. إنه الرجال ، وانه الأفعال.. فالعصر -كما يقول أحد مفكرينا – عبارة عن مضغة في فم ، فكه الأعلى من الرجال ، و فكه الأسفل من الأفعال ..! يقال أن هناك زمنا رديئا، و هذا غير صحيح .. فالأصح هو : هناك أفعال رديئة .. وهناك رجال رديئون..و يقال أيضا أن هناك عصرا ذهبيا، و هذا غير صحيح .. هناك أفعال من ذهب ..وهناك رجال من ذهب..ولكن هل كل الأفعال من ذهب؟ و هل كل الرجال من ذهب؟ إن الفعل يتحول من عاديته إلى ندرته إلى تاريخيته عندما يصبح مشروعا حضاريا.. ! كلنا نفعل ، و كلنا نعمل .. و لكن أين الفعل الذهبي .. ؟ و أين العمل الذهبي ؟ الذي أفنى الدكتور عمارة حياته من أجلها، هو و أترابه., كما علق عن وفاته أستاذنا الشيخ الطيب برغوث الذي تعرف عليه عن قرب بقوله : “بالرغم من تنقل الدكتور عمارة عبر محطات وساحات فكرية عدة، إلا أن مساره الرسالي العام ظل عميق الصلة بدينه وبالقضايا الجوهرية لأمته، وقد ظهر ذلك جليا في العقود الخمسة الأخيرة من حياته خاصة، حيث انحاز بشكل حاسم وواضح وعميق إلى جوهر الهوية الحضارية للأمة، وكرس كل وقته وجهده وطاقته وملكاته، لبناء الوعي بعالمية وإنسانية وكونية وعظمة الرسالية الإسلامية في الحياة، وبحاجة الأمة والإنسانية إليها، وكانت له مواقف وصولات وجولات مشهودة محمودة، ستظل الأجيال ترتوي منها إلى ما شاء الله تعالى. وقد تميز على كثير من العلماء والمفكرين بهذه الموسوعية المتوازنة والمتكاملة، التي أنقذته من الازدواجية الفكرية والسلوكية المتنافرة، فهو عقلاني عميق، ولكنه ليس علمانيا حدِّيا متكلسا. كما أنه أصولي أو أصالي عميق، ولكنه ليس حرفيا منعزلا عن عصره، بل يعيش في عمق عصره بذاتيته وهويته الإسلامية المستنيرة الفاعلة في حياته. لقد كان شعلة متقدة، واستفدنا منه نحن الجزائريين مباشرة، من خلال مشاركته المستمرة في ملتقيات الفكر الإسلامي العتيدة، التي كانت تعقد سنويا في الجزائر لمدة أسبوع تقريبا، ويحضرها فطاحل العلماء والمفكرين حتى من غير المسلمين، من مختلف أنحاء العالم. وكان الدكتور عمارة فارسا من فرسانها الكبار، متميزا بطرحه وحرارته وحيويته ورساليته، وكنا ننجذب إليه ونستمتع بأطروحاته ونستفيد منها كثيرا، خاصة فيما يتعلق برد الشبهات وإبراز قوة وعظمة الإسلام، وقوة وتميز الحضارة الإسلامية”.. مع هذه الخسارة الفادحة بفقدان الدكتور عمارة، عزاؤنا فيما قاله شيخنا العلامة البشير الإبراهيمي – رحمه الله – ، حيث كتب يقول في ذكرى وفاة الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية ، الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-:” يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، و تبقى معانيهم الحية في الأرض، قوة تحرك، و رابطة تجمع، و نورا يهدي، وعطرا ينعش، وهذا هو معنى العظمة ، وهذا هو معنى كون العظمة خلودا.{عيون البصائر، ص: 673 ، دار الغرب الاسلامي، بيروت}. لا لشيء، إلا لأن موت العظماء – أمثال الدكتور عمارة – حياة أممهم، فإن في الغربة زادت جلالا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالا وجمالا، فإن صحبها سلب العز والملك حلية و كمالا. عزاء للوطن الاسلامي المفجوع فيك يا علامة العرب و الغرب، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك ! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيب ذكر، وعند ربنا ثمين ذخر. في انتظار ذلك نقول لفقيدنا الغالي، نم هادئا، قرير العين .. بل حسبك قول الشاعر الجزائر الفحل محمد العيد آل خليفة، الذي أنشد يقول يوم رحيل إمامنا، العلامة عبد الحميد بن باديس نم هادئا فالشعب بعدك راشد *** يختط نهجك في الهدى ويسير لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى *** فالوارثون لما تركت كثير بدورك أيضا شيخنا الجليل، نم قرير العين.. وسلام عليك في الشهداء والصدقين وحسن أولئك رفيقا… وسلام عليك في الأولين والآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدعاة الربانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.. هنيئا لك ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلمهم و تواسيهم وإلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، و”إنا لله و إنا إليه راجعون”. وصدق محيي الموتى القائل: ” الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون” ( النحل :32 ). مع خالص عزائي ومودتي لطلابه و عائلته الكبيرة.. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة