لا يمكن حصر حقوق الإنسان في ما هو أساسي وما هو تكميلي، فتعريفها سيبقى مفتوحا وتابعا لتعريف الأنساق كمجال حيوي يتراوح في ظل واقع السوق المهيمنة بين محاولات الحصر في براتين الإدمان على الاستهلاك وبين التطلع إلى الانتقال من خانة الفرد ككائن بيولوجي سوسيوثقافي، والأصل الانتقال إلى رحاب الذات الفاعلة. وعليه، فحق الإنسان يصعب محاصرته في المواثيق والقوانين لأنه يرتبط بإرادة الإنسان الحرة التي لا تقبل التنميط الذي يميتها ويقتل الإبداع فيها ويحول صاحبها إلى رقم بدون روح ولا فعل ولا رد فعل وهي حقوق الجهاد والكائنات الحية المرودة ولا يمكن أن تعتبر حقوقا للإنسان. فالإسهام في معالجة قضايا الحقوق الإنسانية يتطلب الانكباب على الاجتهاد من تخصصات معرفية وعلمية متعددة لتأمين القدر الضروري والاقتراب من الموضوعية التي من شأنها عدم السقوط في التحيز للمصالح الفردية الفئوية أو الطبقية أو تسطيح المفاهيم أو ترتيب الحقوق حسب ما يسمى بالأولويات كما يصنفها ابراهام ماسلو، أولويات اجتماعية قانونية سياسية مثلا، أو العمل على توظيف حقوق الإنسان في خدمة إيديولوجية السوق وهيمنة الجاثمين عليه. إلا أن مسألة الحقوق الإنسانية وما يطالها من جدليات تعد من بين أهم الموضوعات التي هي محل عناية من قبل المشتغلين علميا بالفلسفة أو علوم الدين أو الأخلاق أو علوم السياسة أو العلوم القانونية، حكرا على الباحثين والمتخصصين، بل هي فرض عين على كل من امتلك مقومات الرشد التي لا تعني البلوغ البيولوجي بطبيعة الحال. لقد تجاوزت مسألة حقوق الإنسان الحدود الترابية والنطاقات القانونية القطرية، وهو عامل أفرز مطارحات فلسفية وإشكالات قانونية تتقاطع فيها، وتتشابك معها الرؤى السياسية والأبعاد التاريخية والمرجعيات الدينية، وطبيعة التطور الذي يطال الحياة المجتمعية القطرية والدولية، إلا أن المفارقة الجديرة بالتنويه، هي تلك التي تشير إلى أن كل الاجتهادات والاعتقادات والثقافات تجمع على احترام حقوق الإنسان. فالاتفاق قائم على المفهوم عالميا، والاختلاف على أشده في المضامين، ومن بين الإشكاليات إشكالية السيادة والتدويل، ومعضلة علاقة النص الوطني بالنصوص الدولية، وهو ما يسمى لدى بعض الباحثين (الخصوصية والعالمية) و (المعيارية الدولية لمفهوم حقوق الإنسان). ويفترض في حقوق الإنسان، أن تعترف بالتنوع وبالتعدد وبالاختلاف ما بين الناس، وأن تركز على الإنصاف بينهم، وفي مقدمتها اختلاف الألسن والألوان والاتجاهات، وهو أمر نصت عليه الشرائع السماوية في الوقت الذى لم تكن إنسانية حقوق الإنسان وأنسنة المفاهيم لتعني بقولبة الناس وتنميطهم ضمن بوثقة إيديولوجية أو فلسفية أو خطة أو حتى اجتهاد عقائدي ونظام دستوري أو قانوني، وإنما تزداد الإنسانية ثراءا وغنى كلما ثم إدراكها علميا للحق في الاختلاف وإقرارها عمليا لإنصاف التنوع ضمن الدائرة الأشمل، وهي الانتماء الواحد للإنسانية. إن قضية حقوق الإنسان ومدى احترامها والالتزام بها صارت بمثابة مقياس لتقدم المجتمعات ومستوى التحضر الذي يؤطر الحياة الشخصية والجماعية داخلها. لذا، فكل تسويف أو إعاقة أو تنميط لحقوق الإنسان ومحاصرة الحريات وتقنينها كان وسيبقى عاملا من عوامل انهيار الحضارة وتهاوي البناء المعرفي وتردي القيم الإنسانية وانتكاسة الأنظمة السياسية وهيمنة السوق. إن انتهاك حقوق الإنسان من شأنه أن يؤثر سلبا في النظم القانونية الدولية والوطنية ويؤدي إلى تعكير صفو العلاقات الدولية واضطراب المراكز القانونية للإنسان(مجردا)، ونشير تحديدا إلى الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في دول الخليج عبر نظام ما يسمى بالكافل الذي يشكل استعبادا للعمالة الأجنبية، وخرق حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة والعراق وسوريا وبورما والصين على أساس الاستئصال الجيني، ومعتقل غوانتانامو وفي السجون السرية للعديد من الدول التي تستأجرها المخابرات المركزية الأمريكية في أوربا وإفريقيا. وقد توسع القضاء الأوروبي لحقوق الإنسان في تعريف التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان داخل الحياة اليومية في المستشفيات ومرافق النقل العمومي وفي المدارس ومقرات العمل وفي المطارات والموانئ…ومعاملة العمال المهاجرين واللاجئين. انطلاقا من ذلك، أصبحت مسألة حقوق الإنسان ورقة في يد المنتصر، وهذا قد يسقطه في توظيفها لاستثباب هيمنته الاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو ما ينتج أزمة معيارية على مستوى الإعمال، في حين توظف حقوق الإنسان وفق عدالة المنتصر في ممارسة الضغط على ضرب المنظومات القيمية في العديد من المجتمعات في العالم المعاصر باسم حقوق الإنسان، وتوظيفها في تقديم المساعدات المادية والتقنية وأصبحت تقارير الهيئات غير الحكومية سلاحا يشهر في مواجهة الدول التي توصف بأنها تنتهك حقوق الإنسان، بينما لا أحد قادر على مواجهة المنتصرين المهيمنين على العالم، عندما ينتهكون حقوق الإنسان. غير أن البعض يرى أن حقوق الإنسان من حيث مضامينها نسبية من حيث الأولويات، ومن حيث الأثار، ويعتبرون هذه النسبية في المضامين وفي الدلالات والتراتبية تمتد إلى النسبية في الزمان والمكان. لكننا نرى بأن حقوق الإنسان أصيلة فيه ولا تحاصرها سوى الإدراكات الخاطئة التي تنتابه جراء ما ينتابه من صعوبات معرفية بماهيته وكينونته. لا ريب أن البحث العلمي بإمكانه أن يكون قائد بالضرورة نحو صياغة المقاربات المجتهدة وفي الارتقاء بالحقوق الإنسانية سواء من حيث الهوية أو من زاوية المعيارية، فالكثير من الجهود المبذولة في هذا الصدد غالبا ما تركز على الشروح المتصلة بمفاهيم ودلالات المصطلحات (حقوق) (الإنسان) ويرى أغلبيتها بوجوب التركيز على الحقوق في المقام الأول ثم الإنسان في المقام الثاني. تجدر الإشارة إلى أن أغلب التعريفات الوضعية قد ربطت مفهوم الحق بالقانون، أما القول بالحقوق الطبيعية، والتي يستمتع بها الكائن الإنساني من دون إقرار قانوني، بل، وحتى في حال نكرانها، فإن ذلك توجه (فقهي، سياسي، فلسفي) يطاله الكثير من الجدل. فهناك من يدعو إلى تسمية هذه الحقوق بالحقوق الإنسانية التي ترتبط بكينونة المرء. لكن العجيب في هذه الاجتهادات هو تركيزها في البحث والتشخيص والتحليل والتفسير على الحقوق قبل التركيز على الإنسان وتعميق إدراكاتها له كمجال حيوي لا يمكن لأية منظومة تربوية أو حقوقية أو سياسية أو اقتصادية أن تتسم بالنجاعة والمردودية في غياب توفرها على القدرات والمهارات الاستباقية المعتنية بترقية مجاله الحيوي بتغذية صحية سليمة تنعش وتفعل الأنساق المكونة لمجاله الحيوي، وهي النسق البيوعصبي والنسق النفسي والنسق الاجتماعي والنسق الثقافي والنسق البيئي والنسق الزماني. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة