قبل أيام قليلة مضت كتبنا عن الحاجة المجتمعية إلى “نموذج تربوي” .. إلى العناية بالإنسان لأنه هو الأصل وهو النتيجة المبتغاة وهو المقصود في نهاية المطاف من نقاش وطني دائر لغاية الوصول إلى بناء نموذج تنموي جديد يليق بنا. كتبنا عن الأمر، وفي حلقنا غصة مردها هذا التراجع القيمي المهول والانحدار الأخلاقي الملحوظ الذي يتعاظم كل مرة وفي كل حين. إن التراجع والانحدار المشار إليهما ليس وليدا الصدفة العابرة بل لاحا في الأفق المتشح بلون “رمادي” منذ فترة طويلة، ولعل هذا “الهيجان” التكنولوجي قد ساهم بأشكال مختلفة في زيادة منسوب الموج حتى استحال الإبحار على أمهر الغطاسين والربابنة العارفين بأهوال البحر وأسرار المحيطات المنتشرة هناك وهناك بسكناتها وعنفوانها وظلماتها … هيجان تكنولوجي أفرز لنا فضاء مفتوحا لا قيود فيه ولا تحده حدود ولا تلزمه قواعد إلا في النزر القليل من المواقف أو الأقوال، وأنتج لنا جيلا تاه في نفس البحر ويكاد لا يميز المد عن الجزر و”الموجة اللي جات تديه” كما يقال مهما كلفته من نتائج وتبعات. جيل أشاح بوجهه عن المعرفة والعلم والبحث والتنقيب وكرس وقته وشغله الشاغل للنهش في الفضائح وأسرار الناس وبيوتهم وأدق تفاصيل حياتهم لغايات في أنفس من صنعوا أدوات التشهير والفضح قبل أن تكون أدوات في عيون مشاهد مصدوم فاغر الفاه غير عابئ بما يحدث حوله، ويكفيه الاستمتاع باللحظة .. لا أقل ولا أكثر ولا أثر على نفسه ولا يهم يتراجعون عن صنيعهم. والنتيجة؟ أصبحنا أمام لوحة كبيرة ليست تشكيلية نهائيا ولكنها مشكلة من صور مجتمعية كثيرة لضحايا متعددين اختلفت قضاياهم ومحنهم وحيثياتهم، وأغلب الضحايا من النساء (طفلة صغيرة، شابة في مقتبل العمر، راشدة، متزوجة، عاملة في مصنع، موظفة في مؤسسة عمومية …)، نساء صرن في مواجهة قصف لفظي ومعنوي مستمر ولا نكاد نستفيق من صدمة إلا ونمنا على إيقاع صدمات أخرى لها صلة بذات الموضوع. عنف لفظي هنا وهناك، تشويه وتشهير بالصوت والصورة وأشياء أخرى، ابتزاز بشتى الأشكال، تحرش مبتذل حد المس بحرمة الفروع والأصول .. تحرش قد يصل حد اختراق تلك الحرمة إلى حدوث حمل وجرم بعد ذلك. وعنف معنوي عنوانه التنقيص من شأن نساء قادتهن ظروفهن نحو “فعل” ما أكان إيجابيا أم سلبيا لكن الجيل المصاب بوباء “القذف” .. قذف الناس في أعراضهم والنهش فيها لا يترك الفرصة تمر إلا ووجه سهاما مسمومة، (الجيل) أو لنقل جزء من الجيل لا يكل جهدا في أمر مفيد لكنه مصر على البحث عن شيء يشفي فضوله اليومي ما دامت هناك عناوين تحقق له ذلك وتحفزه على الأمر وتدفعه للمزيد ليسأل : فهل من مزيد؟ .. عناوين من قبيل: مثير وقنبلة الموسم وشاهد قبل الحذف وفضيحة فلان مع علانة وحصريا شوهة فرتلان .. و”روتين يومي” وآخر أسبوعي وآخر +18 مع بعض التحفظ الذي لا يؤثر. والنتيجة مجددا؟ أصبح الكل في خانة الاتهام، تلفيقات جاهزة لا تقبل أي تعديل أو تعقيب، ولا تترك المجال للترافع وتبيان الحقيقة ولا حتى سرد الحيثيات المرتبطة، والأسوأ في الأمر هو “تكرار” محاولة وصم الجماعة بما يصنع الفرد، يحدث ذلك من خلال العديد من المواقف، فتجد الشخص لا يكاد يميز بين سلوكات فردية ويعممها عن غير قصد في معظم الأحوال، فيصبح الفعل الفردي ملازما للأفعال المرتبطة بالجماعة، وإن كانت هذه الأخيرة بريئة. على سبيل الختم، تذكروا وأنتم في لهفة البحث عن “صورة” مسيئة وعن “فيديو” بذيء المضمون وعن “تسجيل” خاص وغيره من منتجات “الثورة التكنولوجية” في مسارها السلبي، تذكروا واستحضروا أنكم بقبولكم إيقاع الموجة دون رد فعل أو محاولة للتفاعل الإيجابي، تذكروا أنكم تسيئون إلى أنفسكم أولا وتساهمون في القتل البطيء لقيم وأخلاقيات مجتمعية كانت تقدس “الستر” على “الفضح” وكانت تعلي “الشهامة” بدلا من “الشماتة” .. تذكروا أنكم ما أن تخطئوا وتنهشوا دون وجه حق، فإن ذلك ينزع عنكم إمكانية الشهادة في المواقف التي تتطلب قول الحق، وينزع عنكم رداء المروءة ويحول ملامح إنسانيتكم المفترض أن تكون وتسود إلى أقنعة سوداء لا تؤمن بالبياض ولا تعير الصدق والوصول إلى النبأ اليقين قبل إصدار الحكم أي اعتبار ..، فلترحموا قبل أن يترحموا عليكم. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة