حاولنا تخصيص الحلقات السابقة من هذه المقالة لمدارسة مفارقات مفهوم الحرية في المجالين التداوليين “الغربي/الحداثي” و”العربي/الإسلامي”. وأوضحنا، بناء على مبدأ عدم المقايسة، أن المجتمعات تُضمِّن ممارستها لهذا المفهوم، كما كل المفاهيم، دلالات مرجعية ومعرفية وقيمية مختلفة تجعل ممارستها للحرية، ولغيرها من القيم، ممارسة متفاوتة بحسب تمايز أنماطها المجتمعية واختلاف ظروفها التاريخية وتغاير سياقاتها الحضارية. وأنه بهذا المعنى، لا يعود هناك مجال لكل تلك المحاولات التي يبذلها البعض من جهود استدعاءً لمضامين مخصوصة لمفهوم الحرية باقتطاعه من سياقه التاريخي، أو بالعمل على تثبيت ممارسة بعينها للحرية بانتزاعها من نموذجها الحياتي وفرضها قسرا على نماذج عيش أخرى، مما يؤدي إلى اغتيال تنوّع المجتمعات وتعدّدها وتنميطها على مثال واحد يمتحُّ عناصره من معالم النموذج الحضاري الغربي المهيمن والمتمركز حول ذاته. سنحاول في هذه الحلقة التطرق للشق الثاني من دعوى الحريات الفردية، وذلك بالتركيز على دلالات “الفرد” في التجربة الغربية بنزعته الإنية (نسبة إلى الأنا) ومنطقها التعاقدي، وبين التجربة العربية الإسلامية بنزعتها الجماعية ومنطقها التراحمي. الفرد والمجتمع في الرؤية الإسلامية: حريات مضمونة وحرمات مصونة ترقب الرؤية الغربية الحداثية والحديثة، في غالبها الأعم، الإنسانَ باعتباره مجرّد مقولة مادية وجزء لا يتجزأ عن الطبيعة المادية، فهو كائن شأن باقي الكائنات محكوم بقيمها وقوانينها، بما يجعل أخلاقه من أخلاقها .. إن جاز التعبير. وبناء على هذا التأسيس تتعاطى هذه الرؤية مع الإنسان باعتباره كائنا فرديا مجبولاً على تحقيق مصلحته ومعنياً فقط بسعادته، مستعجلا تحصيلها في الدنيا العاجلة لا في الآخرة الآجلة، قريبا مما يوحي به الحديث النبوي بأن “الدنيا… جنة الكافر”.(انظر في ذلك التأطير المعرفي المهم لعبد الوهاب المسيري، الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة). أمام هذه الأنانية والنزعة الفردانية الغالبة على هوية الإنسان وطبيعته، أصّل فلاسفة العقد الاجتماعي لنظرية نشوء الدولة مُضفين عليها وصف”الليفيتان” أو الوحش. ذلك أن الدولة الوحش في نظرهم هي الأقدر على مواجهة أنانية الإنسان والحد من آثارها والتقليل من غلوائها، معتبرين ذلك شرطا للخروج من حياة الطبيعة المتوحشة لبناء تعاقد جديد يؤسس لحياة المدنية المسالمة. وتحقيق هذا الهدف، عندهم، لن يتم إلا عبر جهاز الدولة المتغوّل المستند إلى لغة القانون باعتبارها اللغة الأكفأ على منع الفرد من التفلّت، في مقابل المحدوديات التي تعتري اللغات الأخرى،والتي من بينها لغة الأخلاق والأعراف والدين. (بيير بورديو، روح الدولة). في المقابل، تكرّس وجهة النظر الإسلامية التعاطي مع الإنسان باعتباره كائنا رسالياً تجاوزياً مفطوراً على الخير ومجبولاً على الانضباط الطوعي لنظام الجماعة، فهو بالأساس كائن متخلق. هذا التوجه يؤصل الوعي بأن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على تأطير شهواته وضبط نزوعاته بالانضباط التلقائي لرسالة صلاحه ولمنظومة قيم جماعته، انضباطا طوعيا دون حاجة إلى تدخل دولة أو إلزام قانون. وأنه إذا كان لكل فرد الحق في صياغة شخصه بما يعبر عن تفرّده، إلا أنه صياغته لشخصه المتفرد ذاك لا يتم إلا في إطار ما يقتضيه الانتماء للشخصية الجماعية التي تميز مجتمعه. ومع أن الإنسان معنيّ بتحقيق مصلحته والتحرّر من ضغط حاجاته، غير أنه في عنايته واستجابته تلك يبقى منضبطا لإطاره المجتمعي ولنسق المدركات الجماعية لأمته. وأن كل اضطراب يطرأ على التوازن بين “التطلع للانتماء للذات” و”استحقاق للانتماء للمجتمع”، أو كل اختلال في المعادلة بين “حقوق الفرد وحرياته”و”قيم المجتمع وحرماته”، قد ينعكس بالسلب أول ما ينعكس على الفرد نفسه ثم على مجتمعه فيما بعد، لأن انسجام الفرد ومجتمعه شرط من شروط احتفاظه بتوازنه النفسي والعقلي، على حدّ تعبير ذ. جلال أمين في نقده لمفهوم التنوير ولمنهج تبنيه من لدن التيار الحداثي العربي. وكما كل التجارب الإنسانية، أبدعت مجتمعاتنا العديد من التقنيات التي تحفّز عبرها الفرد على الانخراط في المجتمع وفي مؤسساته في تناغم وانسجام. ولعل من تلك المؤسسات يمكن أن نذكر مؤسسة الأسرة والمسجد ومختلف الجماعات الفرعية الأخرى كالقبيلة والجماعة والزاوية وغيرها من التقنيات. وإن جاز ضرب مثال عن فعالية هذه التقنيات والآليات، فيمكن أن أستأنس بواقعة نقاش جرى بيني وبين شيخ من شيوخ حيّنا غير المتعلمين، وهو النقاش الذي حملني على ضرورة إيلاء العناية الفكرية والعلمية ببعض المظاهر التي تميز مختلف الترتيبات الحياتية لمجتمعنا ولأمتنا، والذي من بينها ترتيب التنسيق بين إطار الجماعة وموقع الفرد ضمنه، ومختلف الآليات والقنوات التي يتم عبرها استدماج الفرد في مجتمعه. أذكر جيدا تلك اللحظة حين اشتبكت مع هذا الشيخ في نقاش حول جواز إمامة العازب من عدمه. وكشأن كل شاب، يدّعي وصلا بمعرفة، دافعت على مبدأ جواز إمامة العازب واستدعيت للاحتجاج على هذا الجواز كماً معتبرا من الأدلة والآثار والأقوال والاجتهادات المندرجة في هذا الباب، ظنا مني أنه بذلك سأفحم حجته وأسكت لسانه. غير أني تفاجأت بجوابه البسيط والعميق، والذي قد تخفى بعض معانيه على العديد من نخبنا ومثقفينا، جوابه لم يكن من جنس الخلاف الفقهي كما استقرت عليه الممارسة العلمية، ولكنّه من العمق الذي استطاع به الشيخ العجوز أن يعبّر عن خبرة مجتمعنا وقيمه ويبرز معالم معقوليته. لقد أثار الشيخ انتباهي، وهو يدافع عن كراهة إمامة العازب، إلى أن الأمر لا يرتبط بجواز إمامة العازب من عدمه، من حيث الحكم الفقهي والدليل الشرعي عليه. وإنما الأمر يرتبط بعرف مجتمعي قائم على إعلاء قيم العفة وأخلاق الاستعفاف. فمجتمعنا المغربي، شأن أغلب المجتمعات المسلمة، يعتبر أن الشاب الأعزب مادام أنه لم يستفرغ وسعه مجتهدا لضمان شروط زواجه وتشكيل أسرته، باعتبار أن تكوين الأسرة هو الأصل، فهو في حالة استثناء. وأن المجتمع يمارس عليه نوعا من الضغط النفس والاجتماعي تشجيعا إياه للانعتاق من استثنائية عزوبيته ودفعه للسعي نحو تأمين استقراره الأسري، وذلك من وجهين اثنين: أولهما، مرتبط بدفع الشاب دفعا لتوفير شروط زواجه، استطاعةً وباءةً؛ ثم ثانيا، من خلال تيسير سبل الزواج وتشجيع الأسر على تزويج بناتها بمهور قليلة، وبغض النظر عن فقر الشباب وقدراتهم المالية، وذلك استجابةً للتوجيه القرآني الداعي إلى أنه: “وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وإن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله، والله واسع عليم” (سورة النور، آية 32). وحسب الشيخ، دائما، فإن المغاربة عموم المغاربة لا يكترون للعزاب ولا يدخلونهم بيوتهم، ومن ذلك أنهم لا يؤمونهم صلواتهم، تضييقاً عليهم ما ظلّوا راضين بعزوبيتهم مطمئنين لاستثنائيتهم تلك. ومن هنا تفضيل المجتمعات المسلمة للزواج وللاستقرار الأسري، كما أنه من هنا تحريم الإسلام للزنا ولكل ممارسة جنسية خارج مؤسسة الزواج باعتبار ذلك سفاحا، وما السفاح سوى أنه من سفح الجبل حيث لا يستقر ماء. ليس القصد من سرد هذا المثال إثبات جواز إمامة العازب من عدمه، وإنما إثارة الانتباه إلى ما تضمنه هذا النقاش من تمرين فكري مهم .. تمرين فكري يؤكد مقدار ما تمتلكه مجتمعاتنا من مخزون قيمي كامن وخبرة مجتمعية عميقة، غير أنها ضامرة. وأمتنا، بمخزونها وخبرتها تلك، لا تتوقع من أبنائها ومثقفيها ونخبها سوى الاجتهاد لاستجلاء معقولياتها المستترة والإفصاح عنها للتعبير عن مخصوصية رؤيتها للعالم وتفرّد نموذجها في العيش، بما تقتضيه لغة العلم والمعرفة والفكر لإبراز تميّزها وتأكيد مساهمتها في التنوّع المجتمعي والتعدّد الثقافي الإنساني. وفي هذا الإطار، قضت التجربة التاريخية لمجتمعاتنا أن تنسج علاقة متوازنة بين الفرد والجماعة، نسجاً غير قائم على مبدأ أولوية الفرد على الجماعة كما هو في نموذج العيش الليبرالي، ولا هو قائم على نموذج أولوية الجماعة على الفرد كما كان في تجربة العيش الاشتراكي؛ وإنما هو نموذج قائم على مبدأ أن الفرد لا يكون إلا بالجماعة، وأن الجماعة لا تكون إلا بالفرد. لذلك فإن مجتمعاتنا لا تضيق بممارسة الفرد لحريته، لأن الحرية فيه أصل ومنحة ربانية أكرمه بها الله عز وجل، غير أنها تؤطر ممارسته لحريته تلك في إطار من احترام قيم المجتمع وحرماته. وواقع الحال، أن المجتمعات في هذا الأمر سواء، بغض النظر عن تدينها من عالمانيتها، كلّها تؤطر سلوك أفرادها بحسب ما تقتضيه أنماط منظوماتها القيمية السائدة. وعلى هذا المنوال، صاغ مجتمعنا نموذجا متوازنا يحفظ للفرد حقوقه وحرياته، دون إهدار لحقوق المجتمع وقيمه ومقومات اجتماع أفراده أنفسهم. وقد اختارت مجتمعاتنا في سياق تثبيت عناصر هذه المعادلة أن تُعلي من قيم الاستعفاف والتراحم والبر، بما يضمن إمكان استمرار تساكن الفرد والجماعة ضمن إطار الأمة الجامعة لهما، خارج نطاق التوترات أو علاقات الإلغاء والإلغاء المتبادل. وفي سياق هذا الاختيار المجتمعي تمكّنت المجتمعات الإسلامية، ومن بينها المجتمع المغربي، من مواجهة مشاكل الحياة وصعوبات العيش من خلال مبدأ التضامن الأسري والتعاون لعائلي والتضامن العشائري والقبلي، بما كفل تعاون الأفراد على دوائر الزمن وإرهاقات الدهر من خلال التشبث بوحدة الجماعة وصيانة تضامنها، إذ لجأت في ذلك إلى قيم الجماعة ونظام العرف وتقاليد الأخلاق لتأطير سلوك الفرد الذي يستجيب لمقومات هذا النظام استجابة طوعية تلقائية غير قسرية أو قهرية/ضبطية. وهو ما أحسنت مجتمعاتنا تمثّله في مختلف مستويات حياتها، العامة والخاصة أو الجماعية والفردية، ولعل إحداها سلوكها إبّان الأكل، فإن مجتمعاتنا تفضل “الاجتماع” لحظة تناول وجبات الأكل في الأسرة أو العائلة، مقدمة إياه على سلوك الأكل الفردي. فهي في الأكل الجماعي تجد الفرصة لتمثل قيمها، تواصلاً وإيثاراً وتراحماً؛ في حين أنه في الحياة الحديثة تشيع فيها ظاهرة الأكل الفردي دلالة على تفكّك البنيات الاجتماعية ونتيجة لإرهاقات الحياة الحديثة وسرعتها. فالواحد منا حين يدخل إحدى مطاعم الأكلات السريعة يشرع في الأكل منفردا ليس أمامه سوى مرآة شاحبة تعكس وجهك المعزول،…، وهكذا لا يتأمل إلا وجهه وحده دون شيء آخر. وشيئا فشيئا تتركز فيه قيمة ذاته المنفردة ليتعوّد على حياته الفردية المنعزلة، أو قل حياته البئيسة المعزولة المفتقرة إلى حيوية الجماعة.. وحميمية الجماعة.. وتراحمية الجامعة. وهو ما سبق أن تحدّث عنه المثقف الجنوب أمريكي المتعدّد والمناهض للعولمة إدواردو غاليانو حين مرافعته عن حق الشعوب في تقرير مصيرها في الطعام، معتبرا ذلك شكلا من أشكال تمثل منطق الأمم في الحياة واستجابةً لداعي منظومات قيمها فيها في مختلف مناحي الحياة، بما فيها طريقة طهيها للطعام وسلوكها في أكله، باعتبار ذلك ممارسة ثقافية مفعمة بالقيم والمعاني والدلالات، وليست مجرّد ممارسة بيلوجية تقتضيها ضرورة البقاء قيد الحياة.